الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 836الرجوع إلى "الرسالة"

تعقيبات

Share

كرسي شوقي للأدب العربي الحديث:

تحت هذا العنوان وفي جريدة   (الأساس)  منذ أسبوعين،  كتب الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني كلمة عن شوقي بمناسبة  الشروط التي يجب أن تتوفر فيمن يشغل كرسيه الذي أنشأته  كلية الآداب بجامعة فؤاد الأول. ,لقد اوضح الاستاذ المازني رأيه في الشروط  التي حددتها الجامعه، مؤكداً أنها مبالغة في  التيسير على طالب هذا الكرسي لأنه للأدب العربي الحديث كله  لا للأدب المصري وحده. . . وليس أدل على هذا التيسير في رأي  المازني من أن الجامعة قد اشترطت على من يتقدم لشغل هذا  الكرسي أن يكون حاصلاً على الدكتوراه من مصر أو ما يعادلها  من الخارج، أو أن يكون حاصلا على أعلى الأجازات العلمية التي  كانت تمنح قبل إنشاء الجامعة المصرية، أو أن تكون له أبحاث  أتت للعلم بفائدة محققة، أو أن يكون قد مضت أربع عشر سنة  على حصوله على درجة بكالوريوس أو ليسانس، وأن تكون له  أبحاث قيمة مبتكرة.

هذه هي خلاصة الشروط التي حددتها الجامعة، والتي يرى  فيها المازني وأرى معه أنها مبالغة في التيسير على طالب هذا  الكرسي الجامعي الممتاز؛ لأنها لا يمكن أن تنهض بالدراسة الفنية  التي تتفق ومكانته، ولا بالمستوى العلمي الذي يجب أن يتوفر فيه  شاغله. . . ومرة أخرى يضع المازني الأمر في مكانه ويزنه بميزانه  حين يقول (أن درس الأدب العربي الحديث على وجهه الصحيح  في هذا العصر يتطلب علماً وافياً بلغة أو لغات أجنبية وآدابها  وفلسفتها أيضاً، فما تستطيع - ولا سيما في زماننا هذا - أن  تباعد بين الفلسفة وبين الأدب ونقده. ثم أن أستاذ هذا الباب  لا يستغني عن الإحاطة بأحوال الاجتماع والسياسة في كل قطر

عربي، وبكل عامل من العوامل التي تؤثر في الأدب وتطوره،  وبمذاهب الفلسفة والنقد، وبأثر الأداب الغربية في الأدب العربي  فأن الأدب - أي أدب - ليس شيئاً قائماً بذاته مستقلاً عما  عداه، وإنما هو فرع من شجرة ضخمة، ومن أولى من رجال  الجامعة بأن يحرصوا على الأصول التي أخرجت الفروع؟!. . . أكاد أقول - بل أنا أقول - أن هذا الكرسي الذي يعد من  أعظم الكراسي شأناً يحتاج إلى علم غزير وإلى إحاطة شاملة بالآداب  العربي والغربية، والى دماغ فلسفي منوع الثقافة،وإلى معرفة  بالتاريخ السياسي والاجتماعي، وإلى بصيرة نافذة؛ فليس يكفي  أن يكون مشروطاً أن يكون لطالب هذا الكرسي أبحاث قيمة لأنالأمر أكبر من ذلك، والموضوع أوسع و؟ أعمق، وأحوج  إلى العلم الشامل المنوع. . . وأخشى ألا تكون العجلة في هذا  الأمر إلا من الشيطان، فالتريث أحجى وأرشد، ولن تعاب  الجامعة إذا هي تأنت، ودققت، إيثاراً لحمل الأمانة العلمية كما  ينبغي أن تحمل. ولكنها تعاب ولاشك إذا هي اكتفت   (بملء  الخانات كيفما اتفق، أي إذا قدمت المظهر على المخبر والصورة  على الحقيقة) !

من هذه الكلمات تخرج بأن المازني لم يكن غالباً في شعوره  بأهمية الموضوع الذي تعرض له بالبحث والمناقشة، ولا بضخامة  العبء الذي يجب أن يقوم به من هو أهل للقيام به، ولا بقصور  النظرة الجامعية إلى مقومات الأستاذية الكاملة التي تنهض بواجبها  العلمي عن جدارة واستحقاق. . . ولكن المازني - غفر الله له -  شاء أن يدرس بين زهوره الفكرية أشواكا تبخر معها الشذى  المعطر والعبير الفواح، وبقيت منها وخزات تجرح الذوق والفن  والشعور! يقول المازني عن شوقي في ثنايا كلمته:   (وقد سرني  أن كلية الآداب أنشأت هذا الكرسي وسدت به نقصاً ملحوظاً  في دراستها. . . ومع احتفاظي برأيي القديم في شعر شوقي أقول  إنه قد سرني أن يطلق اسمه على هذا الكرسي) !!

ترى ألا يزال المازني بينه وبيل نفسه محتفظاً برأيه القديم في شعر شوق أم لا يزال محتفظاً به بينه وبين الناس ؟ أخشى أن يكون الفرض الأخير هو الأسم ، لأنى أمر أن هناك أحياء

يشعرون بالحرج إذا ما واجهوا الرأي العام الفني يتغير آرائهم  بين الأمس واليوم. . . إننا نعلم أن رأي المازني في شعر شوقي  يرجع إلى أيام الشباب وحماسة الشباب واندفاع الشباب، ولكن  للشباب نظرة التي قد يهذب من جموحها مضى الزمن، وذوقه  الذي قد يحد من انحرافه تقدم السن، وحكمه الذي قد يعدل من  مقاييسه اكتمال الثقافة واتساع الأفق٠ لهذا كله أخشى أن يكون  المازني قد نبذ بينه وبين نفسه رأيه القديم في شعر شوقي واحتفظ  به بينه وبين الناس، خشية الحرج من أن يتهم بتقلب الرأي بين  اليوم والأمس وترجحه بين اليمين والشمال!. . . إننا نعرض لهذا  الآمر على أنه فرض يحتمل أن يكون هو الواقع أولا يكون،  فإذا كأن فيما أحوجنا إلى شيء من الشجاعة يردنا إلى الحق ويرد  الحق إلى نصابه فأن ذلك أدعى إلى التقدير لا إلى الحرج والتشهير . أنني لم أقدر الدكتور طه حسين يوماً كما قدرته وهو يذيع على  الملأ منذ قريب استنكاره لرأيه القديم في أدب المنفلوطي. . . بل  لقد زاد تقديري له وهو يعلن في صدق نادر وصراحة محببة أنه  يشعر بالخجل كلما تذكر أيام الشباب وما جنت حماستها على القيم  الأدبية ومنها آثار المنفلوطي، حتى لقد نعت نقده لتلك الآثار  بأنه لم يكن إلا لوناً من ألوان السخف!

هذا مثل طيب يجب أن يحتذيه المازني وغير المازني من  شيوخ الأدب إذا ما خطر لهم أن يرجعوا إلى آرائهم القديمة في  صدر الشباب لينفضوا عنها غبار التجني الذي أثاره الهوى والغرض  إذا ما كانت هناك أهواء وأعراض. . . ونستطيع بعد هذا كله  أن نلغي هذا الفرض وما حمله بين طياته من مقدمات ونتائج،  لنقول أن المازني بينه وبين نفسه كان وما يزال محتفظاً برأيه  القديم في شعر شوقي، إذا عبر هذا الفرض الآخر عن الواقع  فليس من شك في أنه سيعبر عن واقع آخر، وهو أن موازين  النقد الأدبي ستحتفظ برأيها الصريح في ذوق المازني!؟. . .

جولة فكرية في ربوع الريف:

لم أستطيع في الأسبوع الماضي أن أكتب   (التعقيبات)   لأنني غادرت القاهرة إلى الريف على غير انتظار. . . وفي غمرة

الحزن على فقد قريب تلقيت نعيه المفاجئ، راعني ما رأيت على  طول الطريق من شتى المشاهد والصور والوجوه، حتى خيل إليَّ  أنني منذ عشرين عاماً لم أر كل هذا الذي بدا لعينيَّ غريباً، مع  أنني لم أتغيب عن الريف إلا عاماً وبعض عام!

وقلت لنفسي وأنا أنقل الطرف بين الوجوه الصفر والحقول  الخضر: أين أنا اليوم مما كنت فيه بالأمس؟ أين المدينة الصاخبة  الضاحكة الجياشة بالحياة، من هذا الريف الهادئ العابس الذي  يطالعك منه ألف معنى من معاني الهمود والجمود والموت؟! ألا  ما أبعد الفارق بين أرض وأرض وبين أحياء وأحياء. . . هذه  الأجسام الذابلة ما أحوجها إلى تدفق العافية، وهذه العقول  المظلمة ما أحوجها إلى نور المعرفة، وهذه القرى المهملة ما أحوجها  إلى شيء من الاهتمام والرعاية! ومع ذلك فأنت هنا تلمس حلاوة  الرضا حين تلمح مرارة التذمر هناك؛ ذلك لأن نفس الريفي قد  طبعت على القناعة، وفطرت على الصبر وجبلت على الإيمأن. . .  وتلك أمور تنثر في تربت النفوس بذور الصفاء الروحي الذي يرفع  الملتصقين بالأرض إلى آفاق السماء!

إن أجمل ما في القناعة أنها تظهر لك القليل على قلته وهو  أكثر من الكثير، وأن أروع ما في الصبر أنه يفلسف لك  أعباء الحياة فلسفة تنقلك من عالم المادة إلى عالم الروح. . . أما  الأمان فهو قائم من وراء هذا كله ليرد الأمور إلى أسبابها من  حكمة القدر ومشيئته فلا اعتراض للناس!

من هنا أعرض المسئولون عن إصلاح الريف، لأنهم  لا يستجيبون في الكثير الغالب إلا للأصوات الساخطة المتذمرة  تحمل إليهم العجيج والضجيج؛ تحملهما من قلم كاتب، أو من  حنجرة نائب، أو من وساطة يتقدم بها صاحب جاه وسلطان!

ومن العجيب أنك تجد أكثر الكتاب والنواب وأصحاب  الجاه قد نشاءوا في ربوع الريف، واستروحوا طيب أنسامه،  وترعرعوا بين أحضانه، ومع ذلك فلا يرتفع لهم صوت إلا للمدينة  على حساب القرية، وللمتعلم على حساب الجاهل، وللطائفة على  حساب الفلاح، وللمصلحة الفردية على حساب المصلحة العامة!

ذلك لأن الكاتب إذا ذهب إلى الريف فإنما يذهب إليه طلباً

اشترك في نشرتنا البريدية