الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 916الرجوع إلى "الرسالة"

تعقيبات

Share

مشكلتي مع الأستاذ الزيات:

في الأسبوع الماضي ظهرت تعقيبات في صفحتين، وكان من المقرر أن تظهر في صفحات ثلاث، ومعنى هذا أن الصفحة  الثالثة قد تعرضت لقلم الرقيب، والرقيب هنا ليس إدارة  المطبوعات. . ولكنه الصديق الكريم الأستاذ الزيات!

كانت الكلمة التي حذفها قلم الرقيب هجوماً عنيفاً على أحد  الوزراء. ومن الطرائف التي تدخل في باب المفارقات، أن  الأستاذ الجليل صاحب الرسالة قد أنكر على أن أهاجم وزيرا  واحداً، في وقت الذي أباح لنفسه أن يهاجم خمسة وزراء.  خبطة واحدة!!

لماذا أباح لنفسه أن يحاسب عدداً وافراً من أصحاب المعالي  ثم حال بيني وبين صاحب معال واحد؟! هنا تكمن المشكلة،  مشكلتي مع الأستاذ الزيات، أو مشكلة وضعه الذي يفترق  عن وضعي في محيط الأدب أو محيط الحياة. . إن الصديق الكريم  رجل آثر الحية فابتعد عن الوظائف الحكومية، وفي مثل هذا  المجال الحر يستطيع الأديب أن يقول ما يشاء، وأن يهاجم من  يشاء، وهو مطمئن إلى أن مركزه الاجتماعي لن يتعرض يوم  لعصف الرياح. . أما أنا، أنا الموظف الرسمي في الدولة، فيا طالما  أشفق على الصديق الكريم من حماسة الشباب وفورة الشباب  وما يترتب عليهما من عنف القلم وجيشان العاطفة. يا طالما  أشفق على من قيد الوظيفة حين أكافحه بجرأة القول وحرية الرأي  وثورة الضمير. . ناسياً أن صداقته الغالية، تلك التي تحرص  على التقاط الشوك من جوانب الطريق، طريقي الذي أفضل أن أسير  فيه، هي وحدها القيد الذي يحد في قوة التحفز وحرارة  التوثب ومتعة الانطلاق!

إنها مشكلة لم تحل. . وكيف تحل والأستاذ الزيات مشفق مما قد يحدث لي وأنا مشفق منه، حريص على مستقبلي  الرسمي وأنا غير حريص عليه؟! إن كل موظف يقرأ الرسالة سيسمح لألف علامة من علامات الدهشة أن ترتسم على وجهه،  وهو يسمع هذا التصريح العجيب من موظف مثله يقاسمه حظاً  من حظوظ الحياة. . وليس من شك في أنه سيقول لنفسه  بلغة الواثق المطمئن: لو كان صاحب التعقيبات محتاجاً إلى الوظيفه  لما جهر بهذا الذي جهر به، ولما أذن لقلمه في أن يعبر كما يريد. .  ومن يدري، فقد يحلق الزميل القارئ في كل أفق من آفاق  الظنون بكل جناح من أجنحة الخيال، ثم يتصورني واحداً من  أصحاب الضياع والقصور. لست والله صديقي واحداً من هؤلاء. .  ولكن إذا اتفقت معي على أن حرية الفكر ثروة، فلا ضير من أن  تسلكني في عداد الأثرياء!!

لقد حدثتك بالأمس عن مشكلة الأداء النفسي في الشعر، وحدثتك عن مشكلة الفن والحياة، وحدثتك عن مشكلة الفن  والقيود، وبقي أن أحدثك اليوم عن مشكلتي مع الأستاذ الزيات. .  ولست أدري أي خاطر طريف هذا الذي يلح على كمقدمة تسعى  إلى نتيجة، أو كبداية ترمي إلى نهاية: ماذا يحدث مثلا لو تركت  أصحاب المعالي وهاجمت الأستاذ الزيات، مدافعاً عن حريتي التي  ظلمتها ودافع الود وأواصر الصداقة وروابط الوفاء؟ ماذا يحدث؟  ترى هل سيشفق الصديق الكريم على مستقبلي كمحرر في الرسالة،  بعد أن أشفق عليه وعلى كموظف في الحكومة؟! هذا هو السؤال  الذي ينتظر الجواب. ومع ذلك تبقي النهاية المتخيلة التي  لم تخطر ببال الزيات، وهي أن إشفاقه على سيدفعني يوماً إلى أن  أتحرر من أسر الوظيفة، وما كان أجراه أن يفكر طويلا قبل  أن يشفق على، على أن يفكر طويلا في عواقب هذا الإشفاق!

هذه لفتة أرجو ألا تغيب عن فطنة الأستاذ الزيات. .  ولا احسبني غالياً إذا قلت له إن مسلكه هذا سيرغمني يوما على  أن أروع مكتبي في وزارة المعارف لأحل مكتبه في إدارة الرسالة؛   وأستطيع إذا ما أقبل هذا اليوم المنتظر أن أفعل كما فعل فأهاجم  خمسة وزراء خبطة واحدة، وليس بعيداً أن تلهمني الحرية أكثر  مما ألهبته فأهاجم عشرة من أصحاب المعالي بدلا من خمسة.

ويا ويل الوزراء من الأدباء الأحرار!!

نحن والديمقراطية الأدبية:

أنتم معشر الأدباء لستم إلا السراج الذي يقود الأجيال نحو  الحياة الروحية الرفيعة، وأنتم حداة القافلة في كل عصر، تجنبونها  مواطن الزلل، وتباعدون بينها وبين موارد الفتن ومزالق الأقدام.

هذه هي رسالة الأدباء في كل جيل، حتى أننا نقرأ في الأدب  القديم فنجد أن كل أديب كانت له مدرسة تجمع حوله هواة أدبه وعشاق أفكاره، فيفيض عليهم من أدبه الجم ويغدق عليهم من  علمه الخصب، ويغرس فيهم طريقته في الكتابة واتجاهه في الرأي  هكذا كان أجدادنا رحمهم الله. . . أما أدباء اليوم فيكفيهم أن  يطل الواحد منهم من خلال سطور يكتبها بين الحين والحين،  أما أن يتحدث إلى الناس، وأما أن يجتمع حوله الشباب فهذا  أمر دونه فرط القتاد!

لقد انصرف الشباب يا سيدي إلى ما نسميه بالحزبية، يشغلون  بذلك فراغ أوقاتهم، ويملأون به جدب أذهانهم، حتى أنك  لو جلت جولة قصيرة في حرم الجامعة لوجدت هذا التطاحن  العجيب، ولشاهدت ذلك الجدل البغيض. وليته كان حول  مسألة علمية أو مشكلة فنية أو حقيقة فلسفية. . كلا، بل هو  حول الأحزاب والحزبية!!

لم لا تجمعون الشباب حولهم يا سيدي، فيكون لكل أديب  ناد ولكل عالم قاعة؟ لم لا يكون لكل أديب تلامذة في الأدب  يتعدهم بنفسه لا بكتبه، ويرعاهم بعنايته لا بمقالته؟ ويأخذون  عن شفيته لا عن قلمه؟ لم لا يكون هذا حتى ينرح إليكم الشباب  من كل بيئة، ويقبلون عليكم من كل مكان؟ وحتى نرى بجانب  هذا النقاش الحربي نقاشاً آخر من نوع جديد نقاشاً يدور حول  الأدب ومذاهبه أو حول النقد واتجاهاته؟!

لم لا تعقدون اجتماعات أسبوعية أو شهرية يا سيدي، تجمعون  فيها هواة الأدب من الشباب؟ إنكم لو فعلتم ذلك لقدمتم للشباب  أجل الخدمات، لأن الناس لا يقنعون منكم بالتأليف فحسب،  بل هم متشوقون إلى مجالستكم والاستمتاع إليكم والأخذ عنكم.  . نريد منكم أن تفتحوا أبوابكم وصدوركم حتى تخلقوا شباباً

يتعصب الأدب كما يتعصب للمبدأ، ويشرد من أجل الفكرة  كما يشرد من أجل الحزبية، ويؤمن برسالة الأديب كما يؤمن  برسالة الزعيم؛ أما أن تكتبوا لنا وبينكم وبين الناس حجب  وأستار، فسيان عندهم قراءتهم للحديث وقراءتهم للقديم. .  ولا عجب أن تكون شكواكم حارة من قلة القراء!

نريد منكم أن تفتحوا أبوابكم وصدوركم حتى تخلفوا شبابا  يتعصب للأدب كما يتعصب للمبدأ، ويشرد من أجل الفكرة كما  يشرد من أجل الحزبية، ويؤمن برسالة الأديب كما يؤمن برسالة  الزعيم. . بهذه الكلمات الجميلة الصادقة يختم الأديب الفاضل  رسالته، وينتظر من هذا القلم رداً يقوم مقام التعقيب.

إن ردى على الأديب الفاضل هو أن أقول له: إنني أومن  بهذا الذي تؤمن به، وأدعو الله أن يملأ بمثل هذا الإيمان نفس كل  أديب. . إن الأدب الحق يا صديقي لا يعرف الأبراج العاجية،  تلك التي تقطع كل صلة بين صاحبها وبين الناس. وما هي رسالة  الفن إذا لم تكن مشاركة وجدانية بين الفكر وبين مشاهد  الحياة، وبين النفس وبين مشاعر الأحياء؟ وما هي قيمته إذا عجز  عن أن يربط بين القلوب بتلك الخيوط الإلهية غير المنظورة، تلك  الخيوط التي تنسج أثوب الحق والخير والجمال؟! إن الأدب  ديمقراطي عند الذين يحسنون فهم الديمقراطية، ويقدرونها على  أنها لون فريد من الألفة والتعاطف والإيثار. وهكذا أفهم  الأدب وهكذا أقدر رسالته، وما تعودت يوما أن أغلق منافذ  السمع والشعور في وجه كل صيحة تهز فجاج النفس وتزحم  مسارب العاطفة.

إن لي في (الرسالة)  بابا هو باب التعقيبات، كم فتحته على  مصراعيه لكل قارئ وكل أديب ولي في   (وزارة المعارف)   باب آخر كم فتحته لكل طارق وكل غريب، ولي في (الجيزة)   ندوة أدبية يقصدها هواة الفن وعشاق الأدب من هنا وهناك. .  وما أكثر زوار الندوة وطراق البابين من القراء والأدباء! أنا  يا صديقي لست من أصحاب الأرستقراطية الأدبية حين ألقى الناس  وجهاً لوجه أو حين ألقاهم بين السطور والكلمات، وإذا كان

غيري يميل إلى هذه النزعة فهو ميل مركب النقص حين يسعى  وراء شيء من مركب التعويض. . ولست من متصنعي الأستاذية  المظهرية حين يجلس إلى أديب زائر دون معرفة بيننا ولا سابق  لقاء، لأن الأستاذية لا تكتسب بالمظهر المتكلف ولا بالسمت  المزيف ولا بالوقار المصنوع، وإنما تكتسب باللمحة الواعية  والفكرة الخالقة والذهن اللماح!

على الأديب الفاضل إذن أن يطمئن إلى هذه الحقيقة، وهي  أن ديمقراطية الأدب بعيدة كل البعد عن تلك الحجب الصفيقة  وما يشبهها من أستار، وأنها إذا تقبلت الأستاذية فإنما تتقبلها  مدثرة بوشاح التواضع العلمي حين يكون هدفه البعث الصادق  والتوجيه الأمين. . أما عن تساؤله لماذا لا يكون لكل أديب ندوة  ولكل عالم قاعة، فلعل الحياة الأدبية والعلمية في مصر لم يبلغ من النضج واكتمال الأداة ما بلغته في بعض البلاد الأوربية،  سواء أكان ذلك في ميدان الأدب أو العلم من ناحية أقطابه أم  من ناحية طلابه ، وليس من شك في أن تعادل الكفتين هو  الكفيل بتحقيق هذا الامل الذي يداعب خيال الأدباء ، والذى  نرجو مخلصين أن يتحقق في مقبل الأيام!

شكاه من الأزهر:

إن أحزن على شيء فلا أحزن إلا على نفسي كأزهري يحلم  بمستقبل بسام، وبرنو إلى مدارج العزة التي يريد الوصول إليها  بوسيلة علمية مفيدة!.

وكيف لا أحزن يا صديقي وأنا صديان لا أجد المورد العذب  الذي يشفي غلتي، وأنا ناقص البناء أبحث عن اللبنة التي تتمم  هيئتي فلا أجدها، وأنا حائر بين مفترق الطرق وعواصف الآراء  لا أدري إلى أين المفر؟!.

نعم، لا تعجب يا صديقي. فأنا طالب بكلية أصول الدين  أدرس العقيدة دراسة أشد تعقداً من ذنب الصب. . لا أكاد  أصل إلى نتيجة في بحث إلا وأجدها مهددة باعتراضات بيزنطية  أشد فتكا بالعقول من القنابل الذرية! ثم ماذا؟ لا شيء، لا ذخيرة  لا علم يساير العصر ولا فكرة تستطيع أن تقف على قدميها لترى  كيد الطوائف، تلك التي وجدت لتنخر في عظام الإسلام.

فهناك طائفة الوهابية الإسماعيلية وطوائف أخر، تتحدى  وتنذر وتبذر بذور الشك في عقيدة المسلمين على مرأى ومسمع من  علماء الإسلام الذين أطالبهم معي آلاف الشباب  الأزهريين بأن يضعوا حداً لهذه المهزلة العلمية، وأن ينتخبوا إنتاجا  يتحصن به أبناؤهم الأزهريون وغيرهم ضد هذه التيارات المتباينة  والآراء الخطيرة!.

ولست بأول من جهر بهذا الرأي فقد سبقني إليه أساتذة  أجلاء أذكر من بينهم أستاذي الدكتور محمد يوسف موسى،  ولكني أجهر به ونار الواقع تلهمني، ويكاد الأمل البسام أن  يفلت مني!.

ولقد حظيت بقراءة من وضع الأستاذ الكبير الشيخ  أبو زهرة في قسم الزواج وهو بكلية الحقوق، فعجبت أيما  عجب، وقلت في نفسي المكلومة أمام شباب جامعي، أيدرس  هذا لشباب الجامعة المدنيين؟!. . وكلية الشريعة تدرس بحوث  الدماء الثلاثة، وتضيع وقتها في باب العتق والطهارة، والقواعد  التي لا قبل لها بتطبيقها على مسائل الظروف الحاضرة؟!. وقلت في نفسي أيضاً وهي تنفطر: لماذا لا يجتمع علماؤنا على  خير؟ لماذا لا يحققون المسائل العلمية ويطبقونها على مقتيضات  العصر؟ لماذا لا يسيرون في موكب الحياة؟ ثم لماذا هم لا يقدمون!   ترى هل يطالعنا الأستاذ المعداوي برأي في هذه المشكلة؟ إننا  لمنتظرون.

يريد مني الأديب الفاضل رأيا في هذه المشكلة. . أشهد أن  لدى بدلا من الرأي الواحد مجموعة من الآراء. وحين أمسكت  بالقلم لأسجل لآرائي حول هاتين الناحيتين. لماذا تعثر الأزهر  وكيف ينهض الأزهر، توقفت. توقفت لأنني رجعت إلى نفسي  ورجعت إلى الواقع، وتذكرت أن هناك مشكلتين لا جدوى من  الكتابة فيهما بعد أن بحت الحناجر وجفت المحابر وضجت  الأقلام. . الأولى هي مشكلة القراء والثانية هي مشكلة الأزهر! أريد أن أقول إننا لو كتبنا ألف مقال لنحث الناس على  القراءة فلن يقرأ الناس، وإننا لو كتبنا هذا العدد أو زدنا  عليه لنلفت المسئولين إلى إصلاح الأزهر فلن يصلح الأزهر. .

حسبنا إذن أن نترقب معجزة من السماء تنهي المشكلتين بعد أن  أخفقت جهود البشر. وياله من أمل ذلك الذي نتطلع إليه وقد  انقضى زمن المعجزات!!.    حسبنا هذا، وحسب الأديب الفاضل أن يكتفي منا بهذا  التعقيب، وحسب القراء أنهم استمعوا لهذه الشكاة من هذا  الطالب الحزين!

اشترك في نشرتنا البريدية