محنة الأخلاق فى الجامعة:
(بين عينيك دفء عطره أريج الشهوة الفاغم، فمن لى باسترواحه!
أيامى مطيرة، والثلج الناصع يجلل الصنوبر ويزحف من القمم إلى مشارف الوادى، وليس ينمو غير الوحشة من حولى فأين منى الآن تلك الحرارة المشبوبة بين نهديك؟!
وحنايا عطفيك وردفيك، بين اختلاج اللمسة الحائرة وانكسار عينيك اللعوب، نفسى الفداء لمن يهبنى رنوا إليها واستمتاعا بها! أتلمس فى الوردة المجلة بأنداء الفجر، خديك الناعمين يوم
الوداع المشئوم ترف عليهما الدموع من نوافذ القطار، وفى الحسون المستضحى على أفنان الصفصاف الجاف، يدنى المنهوك وقد ارتمى متناعسا على صدرك العامر متدثرا بشعورك الزاهية المسترسلة، أيّها الشقراء!
وفى الصرختين الذهبيتين النافرتين النانئتين فى صدر اليم، نهديك المنطلقين بنداء الأنوثة الخالدة فى صمت صارخ. ولقد قيل عن هاتين الصرختين إنهما تغريان العشق الخائب بالانفلات من طريق الحياة، وكم أتمنى أنا لو انتحرت بين نهديك!
طعم الحلال تعافه نفسى، وعلى شاطئ الحرام ألقيت مرساتى!
نعتوني بالحماقة، وفى الحماقة وجدت عقلى! وصفونى بالضلال، وفى الضلال تلمست هداى! تناول الناس من قربانى، وأنا عند نفسى دنس الأدناس،
فقدس الأقداس عند الناس هو عندى دنس الأدناس! أنا موحد، وفى توحيدى حيوية الوثنية!
بل أنا وثنى، وفى وثنيتى صفاء التوحيد!
توحيدى حرية الخالق بازاء المخلوق، أما غيرى فتوحيده عبودية المخلوق للخالق، والخالق والمخلوق سواء!
وثنيتى تقدس اللمس، وتفزع من طغيان البصر! وثنيتى تمجد الجسد، وتهزأ بدعوى الروح! أجل، فى كيانى عصارة حياة لن أبتاع بها كوثر الأوهام!
هذه الكلمات (النظيفة) يوجهها أستاذ جامعى (فاضل) إلى حبيبته، أو إلى عشيقته. وأنقلها إليك من آخر كتاب أصدره الأستاذ (فاضل) الذى يشعل كرسى الأستاذية (الموقر) فى جامعة إبراهيم، ويشرف بمثل هذه الأخلاق (العالية) على تربية جيل من الشبان والفتيات.. الفتيات آلائى دفع بهن الآباء إلى الجامعة، وتركوهن وديعة بين يدى الأستاذ (الجليل) !
إن القلم ليتعثر فى يدى وأنا أنقل إليك مثل تلك الكلمات المخزية المخجلة، الداعرة الفاجرة، الهابطة الساقطة، التى تتمرغ فى الوحل وتستقر فى الحضيض.. وما كنت أحب والله أن ألطخ بمثل تلك الكلمات صفحات الرسالة ولكنه الحرص على سمعة الجامعة؛ ولهذا نقلت كلمات الأستاذ (فاضل) لأقدمها مع الأسى والأسف إلى معالى وزير المعارف، وإلى مدير جامعة إبراهيم، وإلى عميد كلية الآداب بتلك الجامعة، وإلى الآباء الذين تركوا فتياتهم كما قلت وديعة بين يدى هذا الأستاذ الذى يصور للناس طبيعة تكوينه الخلقى والنفسى فى صفحات كتاب!
إننى أقرأ مثل تلك الكلمات وما هو أكثر منها هبوطا ومع ذلك لا أعترض؛ على أصحابها لأنهم ليسوا أساتذة فى الجامعة.. إن الأستاذ الجامعى بحكم منصبه وطبيعة مكانه مسئول عن تقويم الأخلاق وتهذيب المشاعر، قبل أن يكون مسئولا عن تثقيف العقول وتوجيه الأذهان. وهو بعد ذلك يجب أن يكون مثلا طيبا وقدوة حسنة لجيل يترسم الخطى ويقتفى الأثر وهو على أهبة الخروج إلى الحياة، خطى المشرفين عليه وأثر الموجهين
له من الناحية الخلقية قبل الناحية العقلية!
ماذا يكون شعور جيل من الطلبة والطالبات نحو هذا الأستاذ الجامعى؟ وماذا تكون نظرته إليه وتأثيره به، إذا كان هذا الأستاذ ينسى واجبه ومسئوليته، ويتخلى عن حياته ووقاره، ويهبط فى تصوير خواطره ومشاعره إلى مستوى السوقة أو مستوى الصبية المراهقين؟! وماذا يقول مدير جامعة إبراهيم وعميد كلية الآداب بتلك الجامعة، ماذا يقول كل منهما الآباء والقراء عن هذا الأستاذ (المراهق) الذى يريد أن يستمتع بالأعطاف والأرداف، ويحب أن يستروح أريج الشهوة الفاغم، ويود أن ينتحر بين النهود، وتعاف نفسه طعم الحلال وتشتهى طعم الحرام، ويرمى الناس بأن قيمهم المقدسة هى عنده قيم مدنسة، لأنه يستشعر الدنس فى أعماق ذاته ويعترف به غير حياء، ثم ينتهى إلى أن الخالق والمخلوق فى نظره سواء؟!
إننى أود أن يتفضل أحدهم فيقنعنى بأنه لا ضمير على الجامعة من أن يكون فيها أساتذة من هذا الطراز؛ يخرجون كتبا من هذا الطراز، ويشرفون على توجيه جيل يواجه الحياة بسلاح الخلق قبل أن يواجهها بسلاح العلم ليطمئن إلى المصير..
أود أن يقنعنى مدير جامعة إبراهيم أو عميد كلية الآداب بأن السمعة الخلقية للجامعة لا يمكن أن ينال منها أستاذ كالدكتور عبد الرحمن بدوى، وأن السمعة العلمية لا خوف عليها من كتاب ككتابه (الحور والنور) !. هذا إذا لم تكن هذه السمعة قد اهتزت بعد فضيحة (الإشارات الإلهية) !!
شعراء في الميزان:
لقد ظهر فى عالم الأدب كتابك الأول يحمل بين دفتيه ألوانا من الفن، وأقباسا من العلم، وأفانين من الأدب اللباب. ولقد قرأت فاستمعت، وفكرت فاقتنعت، وأحسست فعشت بين النجوم لحظات. أعيدها كلما دفعنى القلب، وأحسست يداى إلى عناق الكتاب، وطالما سرت معك فى كتابك جنبا إلى جنب، ويدا فى يد، وروح مع روح، غير أنك فى نهاية الطريق تركتنى لأسير وحدى فى طريق آخر، وإن كنت ما أزال أراك!
هناك حيث تحدثت عن (وميض الأدب بين غيوم السيلسة) لإبراهيم دسوقى أباظة باشا، وهناك حيث امتد الحديث إلى الشاعر محمود غنيم.. لقد أنكرت شاعرية هذا الشاعر وأسرفت فى الإنكار مما دفع بى لأن أقول لك: شيئا من الرفيق ليجمل النقد، وكثيرا من العدل ليستقيم الميزان! ترى هل يكون ذلك بعض الشرر من ثورتك المنادمة على (وميض الأدب) ؟ أم هو عدم ارتياحك لشاعر يخالف مذهبك فى (الأدباء النفسى) ؟ إننى آمل أن تضع الشاعر فى مكانه من شعراء، العصر، وأن تضع شعره فى مكانه من موازين النقد
مليج منوفية
مصطفى محمود أحمد
أشكر للأديب الفاضل جميل رأيه فى الكتاب وحسن ظنه بمؤلفه، وأشكره مرة أخرى أو أشكر القراء فى شخصه لإقبالهم على كتابى الأول هذا الإقبال الذى قلت عنه مرة أنه أخجل القلم فى يدى، القلم الذى ظلمهم يوما حين نعتهم بأنهم لا يقرئون.. بعد هذا أبادر فأقول له: إن رأيى فى الشاعر محمود غنيم ليس بعض الشرر من ثورتى المندلعة على (وميض الأدب) ، لأنه رأى قديم يسبق ظهور هذا الكتاب الذى هيأ له الفرصة لأطلع به على جمهرة القراء! وإذا كان هذا هو رأيى فى شعر الأستاذ غنيم، فأود أن أؤكد للأديب الفاضل أننى لن أتحول عنه فى يوم من الأيام إذا تحول هذا الشاعر عن فهمه لحقيقة الشعر: واستطاع على هدى هذا الفهم أن يسير فى ركب الشعراء المحلقين.. ولقد كفانى الأديب صاحب الرسالة مشقة التفسير والتبرير، حين أصاب الهدف فى الشق الأخير من سؤاله وأشار إلى مذهب الأداء النفسى تلك الإشارة التى تحمل بين طياتها الجواب!
وما دمنا ندور حول هذا الأداء فى الشعر وننكر كل ما عداه، فمن الطبيعى أن نعترف بشعراء من طراز على محمود طه وإيليا أبى ماضى ومحمود حسن إسماعيل؛ وألا نقيم وزنا لغيرهم .. لأن ممن يرى أن الشعر كل (كلام) مقفى وموزون!
هذا رأى أقدمه خالصا لوجه الله والفن، وإن القراء ليعرفون أننى لا أتحامل على الخصم ولا أجامل الصديق، بل ما أكثر الأصدقاء الذين أغضبهم رأيى فى أدبهم فضنوا على بودهم وانتقلوا إلى معسكر الخصوم.. ومع ذلك فإنا كما قلت غير مرة لا أحب أن أتحكم فى أذواق الناس، لأنه لا يدهشنى أن يوجد مثلا من يفضل محمود غنيم على أمير الشعراء؛ بعد أن فضل عليه الرصافى فريق من الناس يجيد النكتة كما يجيدها بعض الظرفاء!

