الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 1020الرجوع إلى "الرسالة"

تعقيبات

Share

بودلير في رأي سارتر

في العدد الأسبق من الرسالة باب (من هنا ومن  هناك) كلمة عن (تحديد التراث الأوربي في دراسة أعلامه)  للكاتب الأمريكي ويليام باريت. . قال الكاتب الأمريكي  في سياق هذه الكلمة وهو يشير إلى الشاعر الفرنسي شارل  بودلير: (أما بودلير فالرأي بين النقاد السكسونيين وفي  طليعتهم الشاعر العظيم ت. س إليوت أن بودلير في قرارته  شاعر مسيحي برغم ما يشتم في كتاباته من إلحاد. وجدير  بالذكر أن جان بول سارتر الفرنسي يخالف النقاد السكسونيين  في (مسيحية) بودلير. ويؤكد ذلك في دراسة نشرها  مؤخرا عن مواطنه بودلير. وسارتر في دراسته الأخيرة  يجرد بودلير من معظم المزايا الأدبية والروحية التي وفرت  له مكانته المرموقة في الأدب الغربي الحديث!).

هذه الفقرة التي نقلتها الرسالة عن الكاتب الأمريكي  وهو في معرض الحديث عن رأي سارتر في بودلير، كانت  مسرفة في الإيجاز بحيث لا يخرج منها القارئ بتلك  المقدمات التي بنى عليها الكاتب الفرنسي رأيه في مواطنه  الشاعر. . لماذا خالف سارتر النقاد في (مسيحية) بودلير  ولماذا جرده من معظم المزايا الأدبية والروحية؟ هذا هو  السؤال الذي يحتاج الجواب عنه شيء من الإفاضة أو  شيء من الإسهاب! أما نحن فقد تناولنا هذا الموضوع يوما  بالتحليل والعرض وكان ذلك منذ سنوات ثلاث، حيث  قمنا إلى القراء تلخيصاً أمنياً لتلك الدراسة النفسية المحلقة  التي تضمنها كتاب سارتر عن بودلير. . ولا مناص من أن نعود اليوم إلى بعض ما قلناه بالأمس، لأن هناك فريقا

من القراء لم يطع على هذا الكتاب أو هذه الدراسة، ولأن هناك فريقاً آخر قد فاته أن ينظر فيما قدمناه من عرض لها  وتحليل .. وكلا الفريقين يستطيع في ضوء هذه العودة التي  تطوي بها الأعوام أن يفتح باب المعرفة من جديد؛ معرفة  رأي الكاتب الفرنسي في مواطنه الشاعر وهو الرأي الذي  يخالف به كل ما ذهب إليه النقاد!

من هو بودلير فى رأى سارتر ! إنه الرجل الذى كان يفتش عن الآلام فى كل مكان , ويسعى إليها سعيا متواصلا يثور عليها آخر الأمر تلك الثورة السلبية العاجزة التي لا تدفع شرا ولا تدرأ خطيئة ..كان مثاليا بينه وبين نفسه , ولكنها المثالية القاصرة على عالم الذهن وحده لا تكاد تتعداه . وهو فى "وجوده الذهني" إنسان مترفع عن كل ما يخدش الكرامة ويشين الخلق ويهبط يالسمعة إلى حمأة الموبقات , وهو فى "وجوده الواقعى" إنسان غارق فى لجج الإثم ضال فى متأهات الغى متخبط فى ظلام الوزر والمعصية ! يدعو إلى الشىء ولا ينفذه , ويرسم الطريق ولا يسير فيه ، ويضع لحياته خط سير هو أول المنحرفين عنه والخارجين عليه .. يحب الوحدة ويتوهم أن فى ظلالها راحة نفسه ونعيم دنياه , ولكى يظفر بها فلا بأس من أن ينفر منه الناس وأن يبغضهم فيه , ولا سبيل إلى ذلك إلا بان يرمى شخصه بأقبح التهم وينعت خلقه بأشنع النعوت , ولاضير من أن يشيع عن نفسه أنه قتل أباه وانحدر من الشذوذ الجنسى إلى ادنأ بؤره وأحط مهاويه ..كل هذا ليحقق لنفسه تلك الوحدة المنشودة التى يخلو فيها إلى هواجه بعيدا عن الناس !

ومع ذلك فما أكثر ما يضيق بهذه الوحدة ويفزغ من أشباحها الرهيبة ويفر من ظلالها الخانقة ! وهو , ذلك المخلوق الذى يسمو "بأفكاره" إلى مدارج العلاقة الجنسية النظيفة , تراه يهبط "بأفعاله" إلى أقذر ما يمكن أن تلحقه تلك العلاقة بإنسان .. تراه يتصل بإحدى العاهرات ذلك

الاتصال الشائن الذى يخرج منه بأخبث الأمراض وأفدح العلل ثم لا يحاول أن يقصد إلى طبيب ليلتمس لجسمه المنهك , أى وسيلة من وسائل البرء والشفاء ! وهو , ذلك الرجل العاجز عن تصريف أموره , المشاول الإرادة فى معركة الحياة , يسعى عن طيب خاطر إلى من يشرف عليه ويرعاه ؛حتى إذا وجد "مجلس العائلة" أو مجلس الوصاية ليشرف على هذا الرجل الذى يقر من المسئوليات الضخام وغير الضخام, تراه يثور على هؤلاء "الجلادين" الذين يذيقونه الذل ويسومونه سوء العذاب ! هو , ذلك الفنان الذى كان يتطلع إلى أن يظفر بمكانه بين الاعلام من أعضاء الأكاديمية الفرنسية , تراه يعبر كل درب يمكن أن يباعد بينه وبين المكان المرموق و أعجب العجب أنه كان ينشد من كل قلبه مثل هذا الإخفاق ! وهو , ذلك الشاعر الذى يخرج للناس يوما ديوانا من الشعر يطلق عليه "أزهار الشر" ليقف بسببه فى ساحة القضاء . ترى أكان بهدف من وراء هذا الشعر إلى مؤازرة الذين ينادون بمذهب "الفن للفن" أم كان يهدف إلى شىء آخر تتردد أصداؤه بين جنبيه وترسب فى قرار سحيق ؟ أغلب الظن انه كان يحب ان يكون منبوذا من الناس تلاحقه اللعنة فى كل عمل من أعماله الأدبية والإنسانية وإلا لما تعمد أن يطالع الناس بهذا الشعر الذي عرضه للادانة من جانب القضاء الفرنسى؛ وهي إدانة مادية ومعنوية !

هو إذن فى رأى سارتر رجل عاجز مضيع يحرك يديه فى شتى الاتجاهات ليثير من حوله الزوابع والاعاصير , حتى إذا هبت عليه من ناحية وعصفت بكيانه وزلزلت وجوده وقف حيالها مكتوف اليدين .. رجل عاش ولكن لم يستطع ان يفسر لنا تلك الحياة التي عاشها ولا ان يكيف لنا هذا الوجود الذي خلق فيه ! رجل كون مزاجه بنفسه واختار مصيره برضاه , ثم خانته القدرة على أن يخرج من أخطائه وآثامه بمذهب يحدد ذاتيته فى زحمة الوجود أو يبرر مكانه في غمار

الحياة ! هذه الشخصية العجيبة الغريبة المتقلبة تحتاج إلى مفتاح يعالج أبوابها المغلقة على فنون من الطلاسم والأسرار. وليس هناك من كاتب غير سارتر يقدم إلينا هذا المفتاح.

بودلير الذى كان يفتش عن الآلام كان يريد أن يتعذب والدليل على ذلك يمكن أن يستخلص من أخباره وآثاره ؛ أخباره الخاصة وآثاره الفنية , ولا عجب فى ذلك من رجل كان يقول عن نفسه ويردد ما يقول :"أنا الجرح وأنا السكين "!.. كان يسعى إلى صهر روحه في بوتقة الألم والعذاب , وكان يحلو له أن يتأوه كلما أحس فى نفسه حاجة إلى الثورة ,كان ينبغى أن " يضطهد " نفسه ليكون اضطهاده لنفسه عقابا لها ؛ عقابا على عجزه وضياعه وما اقترف فى حقها من أخطاء واتام ! أكان ذلك من جانبه لونا من العقاب الذاتى الناتج عن تغلغل النزعة الدينية المسيحية بين جوانحه كما ذهب إلى ذلك معظم النقاد ؟ إن سارتر ينبذ هذا التفسير المتهافت الذى لا يستطيع أن يقف على قدميه ؛لان هناك أدباء أشربت نفوسهم تلك النزعة الدينية منذ المولد وخلال النشأة والتربية ثم ساروا ردحا من الزمن فى نفس الطريق الشاذ الذى سار فيه , ومع ذلك فما أبعد الشقة بينهم وبين بودلير فى لقاء الحياة بمثل ما لقيها به من عقبات للنفس واضطهاد للذات !

إن المشكلة إذن ليست مشكلة تلك النزعة الدينية من قريب ولا بعيد , ولكنها المشكلة التى تتعلق بمركب النقص ومركب التعويض .. رجل كان يشعر فى أعماقه أنه لاوجود له أو أن وجوده كان أشبه بالعدم ؛ ومن هنا راح يلتمس شتى السبل ليقنع نفسه أو ليخدعها بأنه موجود . وهذه الخطوط المتنافرة التي كانت تحدد اتجاهات مصيره فى الحياة تعود آخر الأمر لتلتقى فى نقطة ارتكاز "وجودية" عمادها الكبرياء .. كبرياء الذات المهزومة !

ما أشبه جوانب الشخصية البودليرية بعدد من " الغرف النفسية " التي تفتحها كلها بمفتاح واحد : غرفة للألم،

وتسلمك هذه إلى غرفة أخرى للعذاب , وتلك هذه إلى غرفة ثالثة للعقاب , وتسلمك هذه إلى غرفة رابعة للسخط والثورة , وتسلمك هذه إلى غرفة خامسة للكبرياء ..تعنى أنه رجل يريد أن " يجد " نفسه لأنه تائه مضطرب , وهذا هو الطريق الذى سلكه ليصل إلى ما يريد : بحث عن ألوان الشذوذ حتى اكتظت بها حياته ، وحين تحقق له ما يبتغيه بدأ يتعذب , تم طاب له ان يتخذ من هذه المرحلة معبرا إلى العقاب الذاتى الذى يتيح له أن يتبرم ويثور , وفى هذا تحقيق لكبريائه , وجوهر تلك الكبرياء الموهومة آهة حانقة على المجتمع ساقطة على الوجود .. لتشعره بينه وبين نفسه بأنه موجود !

هذه هي خلاصة رأي سارتر في شارل بودلير؛  خلاصة تلك الدراسة النفسية التي ترفع السجف المدلاة  على نوافذ هذه الشخصية المغلقة، ليندفع الضوء إلى شتى  الجوانب والأركان. . وارجع بعد ذلك إلى كلمة الكاتب  الأمريكي التي تفوح منها رائحة الاتهام؛ اتهام سارتر بأنه  قد تجنى على مواطنه الشاعر. ارجع إليها لتدرك الفارق  البعيد بين نظرتين في الحكم على بودلير: نظرة عابرة عند  إليوت تؤثر الوقوف على السطح دون أن تتغلغل إلى الأعماق،  ونظرة متأنية عند سارتر تميل بطبيعتها إلى رفع الحجب  لتنفذ إلى ما وراء المجهول!.

حول الكاتب الفرنسى بلزاك

فى العدد الماضى من الرسالة مقال عن القصاص الفرنسى بلزاك ، وهو تلخيص بقلم الأستاذ على كامل لكتاب ألفه الكاتب النمساوى ستيفان زفايج.. إنه تلخيص موفق على الرغم من أننا نود ان نضيف إليه أشياء وأن نعترض فيه على أشياء ! إننا نعترض مثلا على قول الأستاذ بأن " بلزاك كان يتأنق فى فنه ويعيد تصحيح ما كتب بعد إرساله إلى المطبعة عدة مرات , حتى ضج منه الناشرون إلى درجة ان قاضاه بعضهم من أجل ما يتحملون من نفقات , نتيجة

تصحيحاته وتغييراته التي لا تنتهى" .. صحيح أن بلزاك كان كثير التصحيح والتغيير لما يكتب , كما بعث إليه الناشرون با " لبروفات " بقصد الاطلاع والمراجعة ولكن هذا لا يفسر بأن بلزاك كان يميل إلى التأنق شأن كتاب الصنعة البيانية .. لقد كان أبعد الناس عن التنمية والتزويق لسببين : أولهما أنه كان كاتبا مكثرا إلى حد لم يعرفه تاريخ الأدب الفرنسى فى يوم من الأيام , ومثل هذا اللون من الإكثار لا يتيح لصاحبه أن يحتشد للتعبير أو يتأنق فى الصياغة . أما السبب الآخر فهو أن بلزاك كان رائد " الواقعية " الأول في عصره وهو العصر الذهبي الرومانسية , ومن طبيعة الكتاب الواقعيين أنهم يضيقون بتلك الأساليب الرقيقة الحالمة التي لا تناسب غير اجواء الخيال .. كان بلزاك يمثل الأسلوب الواقعي فى الكتابة مبتعدا عن تلك " الحذلقة " اللفظية التى كان يزهى بها كانب مثل تيو فيل جوتييه , ذلك الرومانسى الحالم الذى كان يضم بلزاك إلى قائمة الكتاب الصحفيين ! لم تكن كثرة التصحيح والتغيير إذن عند الكاتب الفرنسى نتيجة الميل إلى التأنق وإنما كانت نتيجة السرعة التي يفرضها . الإكثار .. كان يكتب ويكتب ويكتب وهو غارق فى أفكاره تائه بين أوراقه , لا يكاد يشعر بأى شىء وله غير إبريق القهوة الذى كان بالنسبة إليه قبا من أقباس الوحي والإلهام ! وحين ينتهى من الكتابة ويلق نظرة إلى أكداس الورق التى سطرها منذ حين فلا يجد ما بجواره , يدرك بمألوف عادته أن عامل المطبعة قد حضر وجمع الورق وانصرف خلال تلك الغيبوبة العبقرية وحين تماد إليه " البروفات " لا يجد بدا من أن يتناولها بالتعديل والتبديل لأن السرعة الفائقة تكون قد أخرجت هذه العبارة عن خط اتجاهها الفكرى , أو انحرفت بتلك عن طريقها النفسى الذى يريد لها أن تسير فيه , عند رسم نموذج من النماذج البشرية أو نقل مشهد واقعي من مشاهد الحياة !

هذا شئ و هناك شىء آخر , وهو قول الأستاذ فى موضع آخر من تلخيصه لكتاب زفايج: "وما كانت صداقته بعد مدام دى بيرنى كصداقته لدوقة ابرانتيز ومدام ريكامييه ومدام رولما كارو ودوقة كانترى ثم أخيرا مدام دى هانكا إلا تطبيقا لتلك العقيدة التى كونها على ضوء حبه لمدام دى بيرنى, وهو أن تكون المرأة له أما وشقيقة وصديقة وعشيقة فى وقت واحد"..إن الذى نعلمه ونؤكده أن علاقة مدام ريكامييه ببلزاك لم تكن علاقة حب وإنما كانت علاقة إعجاب , وأن مدام ريكامييه لم تعرف الحب الجسدي ولا العلاقة الجنسية فى يوم من الأيام ! وحسبها انها قد عاشت عذراء وماتت عذراء ! صحيح أنها قد أحبت فى أواخر حياتها الكاتب الفرنسى شاتوبريان , ولكنه الحب الروحى البرى " الذى يقتصر على أن يربط بين قلبين بروابط الود والصداقة .. ولكم حاول نابليون أن يظفر بها عشيقة فما استطاع, ولكم حاول شاتوبريان ان يظفر بها زوجة فما استطاع, وكل هذا يؤكده تاريخ حياتها الذى سجلناه في كتابنا" نماذج فنية" ! إن كل ما كانت تحمله مدام ريكامييه لبلزاك هو الشعور بالإعجاب، ولقد كانت بداية هذا الشعور يوم أن قدم إليها قصته الرائعة" المرآة ذات الثلاثين" ... كان بلراك يومئذ يصعد أول درجة فى سلم المجد الأدبي فاستطاع أن يصعد الدرجة الثانية, حين قدمته مدام ريكامييه هو وقصته إلى صاحب "عبقرية المسيحية" تقديما يحفل بالتقدير ويزخر بالثناء , ولم يخب ظنها فيه وهى تقول عنه لشاتوبريان إنه عبقرى وموهوب !

وبقي شىء ثالث وهو قول الاستاذ بأن قصة "لويس لامبير" هى أقوى وأعمق ما كتب بلزاك .. إن الذى نعلمه ونؤكده أيضا على ضوء قراءتنا المتواضعة وعلى ضوء تقدير النقاد , ان قصة " الأب جوريو " هى التى يمكن أن توضع فى المكان الأول ثم تليها بعد ذلك قصة

"أوجينى جرانديه"، وإن كان دستويفكي قد خص هذه القصة الأخيرة بالحب والإعجاب وقام بترجمتها إلى اللغة الروسية وتتلمذ عليها فى بدء حياته الفنية .. وبمناسبة الحديث عن هذه القصة نود أن نقول للأستاذ على متولى صلاح إن "اوجينى جرانديه" لم تكن "بخيل" بلزاك كما ورد فى مقاله بالعدد الأسبق من الرسالة ! إن "أوجينى جرانديه" لم تكن رجلا وإنما كانت امرأة , ولم تكن بخيلة وإنما كانت فتاة على شىء غير قليل من كرم النفس وسخاء اليد, وكم لقيت فى سبيل ذلك من أبيها "البخيل" ألوانا من الظلم والقهر والاضطهاد .. إن البخيل فى قمة بلزاك هو مسيو جرانديه، أما أوجيني جرانديه فهى ابنة البخيل كما تشير إلى ذلك قصة الكاتب الفرنسى !

اشترك في نشرتنا البريدية