(١) تثور اليوم على صفحات الرسالة الغراء وفي (بريدها الأدبي) الشائق معركة نقدية هائلة أخالها لا تزال بعد في مرحلتها الأولى. أما الحملة فمثيرها الأستاذ الكبير (ا. ع) ولقد كان في رأيي - محقاً فيها - وموفقاً إلى حد كبير؛ فآفة الشعر العربي - في النظرة الصحيحة العادلة - هاته البعثرات والقشور يزوقها ويبهرجها من لا يستفظع أن يجعل من روحانية الشعر العربي وموسيقاه الرفيعة معرضاً للسخرية الأدبية والزراية الصاخبة في شكول هي غاية في بلادة التذوق وتحجر الإحساس. ولكن الأستاذ الكبير (ا. ع) رأى أن يجعل من هذا العراك - حداً فاصلاً، وكأنه لم يقتنع بنجاح عمليته في دورها الخطير - فانبرى للشعراء الشباب عامة بالتهكم العارم والنقد اللاذع، وكنا نود لو ترفق الأستاذ رعاية لعهد الشعر في ذاته! فلا مكابرة في أن الشعر العربي اليوم هو في أزهر عصوره الذهبية وأزهاها - إذا استثنينا بعض المشاركات المتشاعرة فيه. وحسبنا تدليلاً على هذا ما تزخر به دواوين الشعر الحديث وسجلاته. ومالي لا أحيل القارئ الكريم على (مجموعات الرسالة العالية) ،
وما حوته من جيد الشعر ورائعه في جميع سنيها الخالدة. على أننا - ونحن بصدد الحديث عن هذه المعركة الجديدة - نجد لزاماً علينا التنويه بفضل الأستاذ الكبير (ا. ع) الذي تكرم فأثار هذا الجدل، كما أن من فروض الشكر تقدير مجهود النقاد الرشيق الأستاذ (دريني خشبة) والشاعر المفضال الأستاذ (محمد عبد الغني حسن) على نبله وقصده، أما الأستاذان (سيد قطب وحبيب الزحلاوي) فمن حق القارئ أن يوجه إليهما عتباً لطيفاً على هذا التجني لا يحسن أن يبدر من مثليهما!
(٢) لم يقتصر الأستاذ الجليل العقاد على عبقرياته الرفيعة الأربع فراح يجلو للعالم من حيوات أبطال الإسلام وساداته وعالماته صحائف وضاءة تتجلى بين سطورها ذكريات طيبة حبيبة؛ فثمة (الصديقة بنت الصديق) وثم (عمرو بن العاص) وسيصدر له، إن لم يكن صدر أخيراً ولم يردنا بعد، الكتاب الشائق (عبقرية خالد بن الوليد) ، كما التفت ذهن العقاد الشاعر إلى شعر العرب الفني وتراثهم فانبرى يبسط لنا من هيولاه ما يسر ويبهر عن مذهبي الشاعرين الغزليين العظيمين (عمر بن أبي ربيعة) و (جميل بثينه) ومسلكيهما فتكشفت لهما - بفضله - مدرستان عتيدتا الصبغة عما ذخر الباحث وعدة الأديب
أما مجموعة العقاد الأخيرة (عرائس وشياطين) التي انتخب فيها نتفاً وطرفاً من مذخور الأدب ما بين عربية وشرقية وغربية والتي يترجمها في مقدمته: (مجموعة وحي العرائس ذوات الشياطين أو من وحي الشياطين ذوي العرائس تلقيناها من هؤلاء وهؤلاء وجمعناها هدية للقراء) فأقرب وصف لها - عندنا - يزاوج بين وضعها وحقيقتها أن نقول إنها حديقة فيحاء ذات أفنان مزهوة ملونة في خمائل شهدية الجني عطرية الشذى منغومة الصدى تتخطر فيها عرائس (هنريك هيني) و (شارل ماكي) و (توماس هاردي) معتنقات مع شياطين (ابن المعتز) و(ابن سهل) و (الشريف الرضي) ، وغير أولئك وهؤلاء من الأرواح المرحة المجنحة التي أباحها العقاد ورضى لها أن تتهامس وتتلاقى وتتخالس في حديقته الناضرة المريعة (عرائس وشياطين)
(٣) وهاهو الزمن يسعف ويفي فنقرأ للزيات الحكيم الشاعر، قطعة عتيدة عن المعري الحكيم الشاعر! قطعة رائعة تزخر بالمعاني الخوالد، وتفيض بالألفاظ البارعة، في بيان مشرق زاهر، وإحساس دقيق مرهف، هو بيان الزيات.
لقد أعدت قراءة المقال(١) مرات ومرات، فكان يتجلى لناظري ونفسي أنني أطالع مجلداً ضخماً عن الشاعر الخالد، لا مقالاً موجزاً فيه الفكرة العابرة والنظرة السريعة
الواقع أنني لا أدري - والله - بماذا أصف هذه الفقرات البليغة النابضة: (. . . كان في ظلام الرحم، وولد في ظلام العشية، ثم عاش في ظلام البصر، وانتهى إلى ظلام القبر. ومن هذا الظلام المتصل نسج القدر حياة أبي العلاء، وأنشأ عواطفه وسود فلسفته، وأبهم عقيدته، وأوحش نفسه! ومن هذا الظلام أيضاً تفجر النور كله على قلبه وعقله؛ فكان آية من آيات ربه الكبرى في ذكاء الفهم ولطافة الحس، وقوة الحفظ ودقة التخيل) . . .
(صاحب أبو العلاء الزمان ولا بس الناس وراود السعادة حتى استحار شبابه، فلم تزده الأيام إلا يقيناً بعجزه الطبيعي عن مجاراة الأنداد في سباق الحياة، وعن مرضاة النفس بلذات العيش، وعن منازلة الخصوم بسلاح الإفك، فنقلب إلى داره نافضاً كفيه من دهر لا رجية له فيه، وعالم لا صديق له به، ونعيم لا نصيب له منه!)
(كأن أبو العلاء في شبيبته نسيم زحمة، ثم صار في كهولته عاصفة دمار! ولعله لو كان بصيراً متفائلاً كالجاحظ، أو ضريراً شهوان كبشار، لتبدل حكمه على الدنيا وتغير رأيه في الناس!) أأصف هذا بسحر التعبير، وبنصاعة التدليل، وبدقة الملاحظة، أم أصفه ببراعة المنطق، وعمق التحليل، وبهر الإحاطة، أم أنعته بتلون - الاتساق، وإشعاعات العبقرية ومقدرة الفنان؟!
(مكة المكرمة)
