١ - سوف لا يكون تعليقي على النقد الذى شرقنى الدكتور طه حسين بكتابته عن " السد " مناقشة له او ردا عليه ولا احتجاجا لتأليفى ومذهبى الادبى فيه . فقد سبق لى ان قلت - ان لم اكن كتبت - ان كل خلق ادبى يفضى الى توليد كائن يفرزه الاديب من صميم نفسه ويقتطعه خلجة من لحمه ويرزقه الحياة من اعماق كيانه ، وان ذلك هو مقدار النسب والصلة بين المؤلف وما يؤلف ، فاذا تم الافراز ونشر التاليف بين الناس فقد انتهت له حياة وبدأت له حياة اخرى : حياته الاولى قرارتها قلب المؤلف وشعوره وفكره ونطاقها ارادة المؤلف ومقاصده . وحياته الثانية هي التى تكون له بالفعل فى حال التجريد والوجود في الخارج وهو شئ مشترك بين الناس يلقونه بالانكار أو الاقبال وبالصد او الاعجاب ويفهمون عنه ما يشاؤون ويسألونه بل يقتضونه ما يريدون ويبعث في انفسهم ما يبعث ويوحي اليهم بما يوحى ، دون ان يكون ذلك كله مرتبطا حتما بل ولا متصلا احيانا مجرد الاتصال بحياة التاليف الاولى وهو فى طوايا وجدان المؤلف مدة الحمل وحين المخاض . والذي يبعثه التاليف فى الانفس ويوحى به الى الافكار والقلوب ويملأ به الخيال ويحرك به من الوجدان فذاك هو التاليف بالفعل في حال وجوده الذاتي ، ولا عليه ان يكون حينذاك مطابقا لصورته الذهنية الاولى في قرارة القريحة وحيز ارادة الخلق او غير مطابق لما قصد به مؤلفه او اراده عليه .
وانى لا ازال اجد الاستغراب يتجدد لي كلما سمعت قائلا يقول انه لم يفهم هذه القصة او تلك الرواية ، ذلك ان المطالع لقصة او رواية او قصيدة شعر اذا هو تساءل بعد الفراغ من المطالعة هل فهم ام لم يفهم لم يكن تساؤله دا موضوع الا ان يحمل " الفهم " هنا على معنى الادراك لمقاصد المؤلف واغراضه والمقارنة بين ما حصل فى النفس بالمطالعة للتاليف وبين تلك المقاصد وتلك الاغراض ، يراد بذلك وبهذه ان تكون على قدر واحد وفى زنة واحدة وعلى اكمل وجه من التقابل والتطابق ولكن هل ترى لعملية الموازنة والمقابلة هذه من فائدة كبرى ؟ او ليس يجنى من
بعض المؤلفات احيانا فوق ما يكون او غير ما يكون قصده المؤلف ؟ وقد روي عن " بول فاليرى " انه بعد ان استمع الى بعض اساتذة الادب فى كلية " الصربون " بباريس يفسر قصيدته المشهورة " المقبرة البحرية " قال لقد كشف لي تفسير المفسر عن اشياء من قصيدتى ما كنت اظن انى جعلتها فيها وفهمت منه ما لم اكن احسبه منها والحق ان عملية " الفهم " لاى تاليف من المؤلفات الادبية الصميمة لا تعدو فى كثير من الاحيان ان تكون قضية بين التاليف ذاته والقارئ نفسه لا شأن فيها لصاحب التاليف ولا لمقاصده ونواياه . ولعل أجدى المؤلفات عائدة واخصبها تربة واكرمها أصلا ما تتبع له العيون فى نفس القارىء مدرارا وما تنفتح به الآفاق فيها ابعادا وأوساعا . على أنه ان صادف أن كان ذلك مطابقا لما اراده المؤلف فقد يقال ان التاليف أدى رسالته التى إياها حمل وأبلغ الامانة التى عليها اؤتمن ، دون فيض عن تلك الحدود ولا اتساع عن ذاك النطاق المعين ، وإن لم يصادف من التاليف اتفاق ومطابقة فقد يكون ان القارىء وجد فيه غير ما اراده المؤلف وذاك ضرب من ضروب حياة التاليف الصالحة القيمة او أنه لم يجد فيه لا ما اراد ، ولا غيره . وكثيرا ما يكون الذنب فى هذه الحالة دنب المؤلف والقصور قصور التاليف ولكنه قديكون مدار الامر فى ذلك أحيانا على قصور فى القارىء وسوء تقبل منه . وقديما كتبت فى قصة " حدث ابو هريرة قال ... " : " انما هى الام الانسان يترامى صداها من قرن الى قرن ومن جيل كما يتردد صدى الرعد بين الجبال فلا يكون للرعد حياة الا ان تختلج الصخور . وقد لا يكون لكل رعد جبال تردده وقد ينفق بقاع صفصف فلا يصيب من الدوام الا طرفة العين " (١) . فكل تأليف أدبي إذن تتكافأ فيه من حيث هو رسالة - فرص النجح والفشل . هو بين أن يفوز من مؤلفه باحكام الفن فيؤدى رسالته ويبلغ صوته او يخطئ به صاحبه ذلك فلا يشع منه نور ولا ينطق لسان ، وبين أن تتلقاه نفس كالوادي الحى بين الجبال فتدوى باصدائه او تمتد صيحته على وجه القيعان الخرساء فتذهب وتتلاشى .
وشأن " السد " فى هذا الباب كشأن اى تاليف أدبى . فاذا انا اسمعت الى المتحدث عنه او قرأت للناقد له فان اول ما اتطلع اليه ليس هو معرفة هل " فهمه" المتحدث او الناقد ام لم " يفهمه " وهل حزر ما قصدت اليه ام لم يحزره - فذلك لا معنى له عندى كما بينت ولا كبير غناء - بل اول ما اطلبه هو معرفة مقدار ما
(١) قصة لا تزال مخطوطة أرجو ان أوفق لنشرها قريبا .
وجده تاليفى من الصدى فى نفس القارىء ايا كان ذاك الصدى وايا كان نوعه وكان مداه .
٢ - واذ قد بينت هذا - وانا أرجو ان اكون اجبت به جملة جميع الذين يتساءلون بعد مطالعة " السد " هل فهموه ام لا - فانه لا حرج على ان اقول الآن ان مما اكبرته كل الاكبار فى نقد الدكتور طه حسين ما قام عليه من نفاذ بصيرة وعمق نظر وبعد تأمل ، يزينها جميعا تواضع مع ذلك لطيف كخير ما عرفت من التواضع واللطف . فقد وجدته فى معظم كلامه يرمى فيصيب الجوهر وينفذ الى الصميم ويستبطن المشاكل الوجودية التى عبرت عنها القصة ، في دون عناء وبالرغم عن انه لم يكن له بالمؤلف فضل معرفة ولا اتصال . فانى لا اذكر ان الايام اتاحت إلى من فرص التحادث مع الدكتور طه حسين غير مرتين او ثلاث ، منهاما يرجع عهده الى ما قيل الحرب العالمية الاخيرة حين التقيت به لبعض لحظات في فرنسا بمصطاف كان يقضي به اياما فى الراحة والاستجمام وفى الاملاء مع ذلك على كاتبه الامين . وعلى ان الدكتور طه حسين قد اصاب الجوهر من " السد " فهو لا لتخرج ان يكتب : " ولست أدرى أفهمت القصة امر لم أفهمها " فيلقى بذلك على اهل الزهو. وما اكثر ما يكونون من اهل الادب - درسا قيما في هذا الضرب من التواضع الذى لا يكون الا من قبل الفضل لا يطمع فيه .
٣ - وبعد فهل معنى هذا كله أني مرتاح كل الارتياح الى كل ما كتبه الدكتور طه حسبن عن " السد " الحقيقة ان لا . والحقيقة انى وان كنت اقر الكاتب على فهمه للقصة كما فهمها - لانه من حقه المطلق ان يلقاها بحسب شعوره وفكره ومن حقها المطلق ان تظهر له بحسب ما هى بالفعل في وجودها " الموضوعي " - فاني لا أرى مندوحة عن الوقوف معه على بعض نقط من كلامه لاعلق عليها بما أملته من خواطر او ملاحظات .
واول نقطة استرعت نظرى هى تلك المتعلقة بتأثري بالادب الفرنسي وخاصة بأدب " اليبر كامو " ؛ صحيح أنى تأثرت في تكونى الادبى بالثقافة الفرنسية تاثرا لا يقل عن تأثرى بالثقافة العربية الاسلامية . وصحيح ايضا اني اعرف ادب " كامو " . ولكنى لا أظن انى قرأت لاديب فرنسى اقل مما قرأت ل " كامو " . لا لانى لا اقدر ادب هذا الكاتب ، بل لسبب لا ادريه ولعله "حجاب المعاصرة " فان مؤلفات " كامو " الاولى يرجع عهدها تقريبا الى الزمن الذي الف فيه " السد " او قبله بقليل . وعلى كل فانى لم أقرأ له " اسطورة سيزيف " و " سوء التفاهم " الا بعد ظهورهما بسنوات وبعد تاليف " السد " بكثير .
ولعل العيون التى وردتها من الادب الفرنسى قبل تاليف قصتي - فيما بين سنتى ١٩٣٣ و ١٩٣٩ خاصة - هى نفس العيون التى استقى منها " كامو " والذي ناثرت به هو نفس ما تاثر بهو من نزعة وجودية ظهرت في الادب الفرنسى وبدأت تلونه بلونها الخاص فى ذلك العهد . والذين اذكر ممن انكببت على مطالعتهم فى عهد التكون الادبى هم امثال " بودلير " و " بول فاليري " و " اندري جيد " و " اندرى مالرو " و " سانت اكسوبرى " و " جان بول سارتر " و " جان جيرودو " ومن فى طبقتهم من الكتاب الفرنسيين . ذلك الى جانب كتاب اوروبيين اخرين مثل " شكسبير " الانقليزى و" دستو يفسكى " الروسى و" ابسان " النرويجى و " دى أونامونو " الاسباني ، والى جانب كل ما غذى ثقافتى من اقذاذ الادب العربي الاسلامي مثل ابى العلاء المعرى وابى حيان التوحيدى وابى حامد الغزالي وعمر الخيام ، فالذى لاشك فيه اذن هو ان المؤثرات الادبية التى كان لها اثر في تكويني تنتسب حقا الى هذه الوجودية .. التى اشار اليها الدكتور طه حسين لكن لا فى معناها الفلسفى الضيق بل فى اوسع معانيها الانسانية . واحب ان اتوقف لحظة عند هذه اللفظة وما يثير مفهومها من مسائل .
ان الذين يتبعون تطور الآداب العالمية يعلمون ان اخص ما امتاز به الادب والتفكير الفلسفي فى عصرنا الحاضر ميزتان هما " الالتزام " من ناحية و " الوجودية " من ناحية ثانية . ولست اعرف معنى هو اشد حاجة الى التدقيق والتحليل ولا لفظا هو افقر الى الضبط والتعريف ولا مفهوما هو احوج الى التحديد والتوضيح مما يكون شائعا على ألسنة الناس مثل كلمتى الالتزام " و " الوجودية " وما يعنى بهما من مختلف المعاني . ولعل اشد ما يقع فيه الناس من الغرور ظنهم في كل عصر ان ما يجدونه او ينفقونه من الالفاظ يدل دائما على اكتشاف معنى جديد . والحقيقة ان المحدثين لم يكتشفوا الا لفظتى الالتزام والوجودية . اما معنى الالتزام والتفكير الوجودى فعرييقان فى الادب والفلسفة قديمان مثل قدم كل ادب صميم . ذلك ان الالتزام فى الادب لا يعدو فى معناه الصحيح عندى ان يكون الاديب ملتزما لجوهرى الشؤون منصرفا عن بهرج اللفظ والصنعة . الالتزام هو ان يكون الادب جماع قصة الانسان وخلاصة ما يستنبطه من اعمق اعماقه وصميم احشائه . هو ان يكون الادب رسالة الانسان إلى الانسان ، رسالة يستوحيها من الجانب الالهى من فكره وروحه ومن هذا الوجدان او الحدس الالهى الذي هو الفكر وما فوق
الفكر والعقل وما فوق العقل والخيال مع العلم والمعرفة مع الانطلاق والكيان مجربا فى كليته وشموله . فان كان الادب الملتزم هو هذا فان القدماء قد عرفوه قبل ان يعرفه المحدثون والفوا فيه ما هو اروع فنا وابعد مدى واليق بالخلود من الكثير مما الف المحدثون . يكفى ان تذكر من ذلك " برميتى في الاصفاد " لاسخيلوس و " مآسي " اوربيد " او رباعيات الخيام ولحنها القاتم حول الخمرة والموت وروايات شكسبير الخالدة مثلا . وقد يباهى الادب الفرنسى في جملة ما تباهى بروايات " راسين " ولكنها لا تعكس الا قبسا من النور اليوناني المشع على الدهر . اما المحدثون فانك اذا طلبت فيهم اثرا من هذه " السنة الباقية " فانت واجدها عند امثال " فاليرى " فى " مقبرته البحرية " او " باركة الفتية " و " مالرو " فى " المنزلة الانسانية " و " لويس فردناندين " في " السفر الى منتهى الليل " و " ارنست همنجوى " الاميركى فى " الشيخ والبحر " و " جان بول سارتر " فى قصة " التقزز "
وما معنى هذا كله ان لم يكن جهدا ممدودا على الدهر يجهده الادباء من مختلف البلدان ومتباعد العصور حين يقلبون النظر فى تصورهم للانسان وحقيقته ومنزلته فى الوجود والكون ، وصيرورته ومآله في الحياة وبعد الموت ؟ ثم اليس هذا كله هو الذي نلمسه عند مفكرين وفلاسفة مثل " ستاس " في كتابه " مصير الانسان الغريب " و " دى قوى " فى كتابه " المصير الانسانى " و " برادايف " فى كتابه " مصير الانسان " او كتابه " على ابواب العصر الجديد " و " رينولد نيفوهر" فى كتابه " طبيعة الانسان ومصيره " ؟
واضح ان امثال اولئك الادباء من القدماء والمحدثين وامثال هؤلاء المفكرين والفلاسفة قد اجتمعوا فى صعيد واحد واشتركوا في هم واحد وقرب بينهم اتجاه واحد فى الشعور والتفكير . فاولئك وهؤلاء يجهدون ان يمحصوا حقيقة المنزلة البشرية وان يستوضحوا مصير الانسان وان يقصوا او يصفوا او يفلسفوا المغامرة الوجودية ، فاين الفرق الفاصل بين الالتزام والوجودية بعد هذا ؟ وهل بقي ما يفصل بين " بروميتي " فى اصفاده ومآساته الدامية و " سيزيف " في مهزلة عبث جهوده القاسة او بين " كيرد كجارد " فى فلسفته و " هامليت " في سؤال المحرق : ان نكون او لا نكون تلك هى المسألة ...
وليس يبدو على وجه من الوجوه غرابة في وجود هذه الصلة المتينة القريبة جدا التى تربط بين الالتزام والوجودية والتى تكاد لقربها ان تجعلها شيئا واحدا .
وليس فى فهم سر ها ادنى صعوبة . فمن الظاهر ان الانسان الواعى في حاجة الى ان يؤسس نشاطه الحيوى ويقيم جميع حركاته وسكناته على اسس المعرفة البينة واليقين الواضح من نفسه ومن الكون ومن نوع صلاته بالحياة وبالكون . هو في حاجة حيوية الى ان يعرف ما هى ماهيته وما هى اغراض نشاطه وطرائقه وما هي نهايته وغاياته وما هى منزلته ومصيره وما هى علاقة ذلك النشاط بتلك المنزلة والى اى حد هو ملائم لها وخادم او مغير منها مبدل او موجه لها توجيها جديدا او مناف لها معاكس . فالتفكير الوجودى على هذا الوجه يصبح لزوميا للحياة الواعية وشرطا من شروطها الذى لا تتحقق بدونه كالتنفس والغذاء ويصبح الالتزام في الادب تعبيرا عن ذلك التفكير فى الحى وعن الوجهة التى يوجه اليها التفكير الوجودى نشاط الحي فى كليته وقصة للسلوك الذى يقتضى ذلك التفكير سلوكه في الحياة حتى يكون النشاط الحيوى مطابقالما يؤدى اليه ذلك التفكين من تقرير لمعنى الوجود وتحديد لماهية الانسان وتحقيق لمنزلته ومصيره . فإن كان التفكير الفلسفي الوجودى يوضح الفكرة والادب الالتزامى يعبر عن السلوك والموقف ، فان هذا وذاك كليهما واقع فى نطاق مشكلة الوجود ومصير الانسان ومنزلته من الكون وسلوكه فى الحياة ومآله بعد الحياة . ولا يخرج احدهما عن حدود ذلك النطاق الا خرج عن حيز التفكير الصميم والادب الصميم الى صناعة الفلسفة وصناعة الادب . وما أبعد الصناعة عن الحياة !
٤ - وبين بعد هذا ان قصة " السد " وجودية وان الدكتور طه حسين قد أصاب كل الاصابة فى نستها الى الادب الوجودى ، ولكنى اريد ان اميط اللثام عن ناحية من شخصية غيلان يبدو لى انها لم تظهر ظهورا كافيا للقراء ، ذلك انه قد يتبادر - كما تبادر الى الدكتور طه حسين ان يشبه فشل جهود غيلان المتجددة واخفاق محاولاته المتكررة بفشل جهود " سيزيف " يدفع صخرته من الحضيض الى قمة الجبل ثم تنجحط الى الحضيض من جديد فيضطر الى ان يعود فيدفعها الى القمة مرة اخرى وآلاف المرات الاخرى الى ما لا نهاية له من الابد . ولكن الذي يميز شأن " سريف " عن شأن غيلان تمييزا بينا هو ان الاول رمز الى بطلان الوجود او " عبثيته " وخلوه من كل غاية معروفة يمكن الوصول اليها
وكل حكمة قريبة يمكن استكشافها كما يقول الدكتور طه حسين . اما غيلان فلا اراني رمرت به وبقصة جهوده وجهاده الى شىء من هذا القبيل . بل الذي اعلم هو ان جهود " سيزيف " عبث محض وقساوة من الاقدار خالصة وان جهاد غيلان ملئ خصب بالمعاني والغايات وان كتب له الاخفاق آخر الامر . الذي اعلم هو انبى لم ار فى تجربة غيلان تجربة الحياة الباطلة تؤول الى عبث مرير ولا في جهود غيلان جهود الحي لا تنطوى على حكمة ولا ترمى الى غاية . الذي اردت حمل غيلان وحمل ميمونة عليه هو ان يشخصا بدمهما ولحمهما ومأساتهما هذا الفهم الخاص الذي احسبه شرقبا اسلاميا لماهية الانسان ومنزلة الانسان وقدرة الانسان وشرف الانسان من حيث هو انسان . فالمأساة التى بصورها غيلان بحياته ونشاطه ليست مأساة " سيريف " بل مأساة الحى تفضيه الحياة ان يحيا وينشط ويعمل وينشئ ويجهد فى دون فتور ولا وهن ولا تخادل ولا يأس ولا حبن ولا احيجام كانه يعيش ابدا ، بالرغم عن انه يحمل بين جنسه يقين " المؤمن " بان الحياة فانية وانه لا بقاء الاالله وبان قدرة الانسان ليست الا عجزا بالقياس الى قدرة الله ، وبان الخلود والدوام لم يكتبا لما يخلق الانسان بل فقط لخليفة الله . لذلك تنزلت القصة في محيط مشكلة الفعل وفى تقابل موقفين مختلفين هما موقف ميمونة وموقف غيلان من هذه المشكلة . فاما ان يكون يقين الكائن الانساني بفنائه المحتوم وتلمحه لاحتضار الغروب فى انبثاق الفجر عاملا من عوامل اليأس المنضب لينبوع الحياة الشال للجوارح القاص للجوانح المبيد لقوى الحيوية الراد الى غيبوبة " النرقانا " وطمأنينة الجماد .
واما ان تكون بالعكس تلك الفكرة الملازمة للحي الواعي فى كل لحظة من لحظات حياته منبهة فيه للقوى الارادية والبطولة الانسانية دافعة الى فضل الكفاح الاعظم وشرف الجهاد الاسنى .
وظاهر أن غيلان وميمونة قد شقا لنفسيهما في ادغال هذه المشكلة طريقين مختلفين .
فغيلان يعلم - كما تعلم ميمونة - أن الذات الانسانية فردية وأنها بازاء الكون والالهة تبدو محدودة الامكانيات مقصورة القدرة . ولكنه يؤمن في آن واحد بان هذه الذات الفردية المحدودة تمتاز عن سائر الكائنات من حيث استغلال الارادة وأنها الى ذلك مشتقة من ذات أخرى أعظم منها هي "الذات المطلقة" فان كانت الذات الانسانية محدودة من جانب فهي من جانب آخر ومن قبل اشتقاقها
ونبوعها من قدرة الله قابلة للانطلاق . فالله عندما نفخ في الانسان من روحه وضع فيه الخاصية الجوهرية الفريدة التى تتصف بها طبيعته الالهية وجعله صورة مصغرة من ذاته الربانية المطلقة وأراده بذلك ان يكون علة شخصية قادرة على العمل والخلق والفعل الغائى بما اودع فيها من إرادة حرة . - تلك في الوجود منزلة الانسان خالقا لمصيره بيده خلقا حرا ، وتلك فى الكون منزلته التى كان بها خليفة الله فى الارض والتى أتاحها له قبوله " الامانة " التى عرضها الله على الكون فأباها خوفا واشفاقا .
فاذا كان غيلان مؤمنا بهذا وبان ذاته محدودة زمانا ومكانا ولكنها " ناجية " بالجزء الذى فيها من روح الله فلماذا لا يعمد الى ما يضمن له النجاة من العجز والحد والفناء ولم لا يتسامى الى هذه المنزلة التى بها يتصل بالله وبها يشاركه في أسمى خصوصات ذاته المطلقة : القدرة والخلق . وما اكثر ما تتردد كلمة الخلق على لسان غيلان . وما اكثر ما تدعوه ميمونة والهواتف وصاهباء وقوم صاهباء والحجارة وصوت النبي الى " الاسلام " والادعان وتنذره " بما قضى له من شأن في حياته وترسم له حده " . ولكنه لا يصيخ اليها ويأبى الا أن يكون مثال الانسانية الباسلة المتجاورة لحدودها المتسامية الى " الوصال والاتحاد " الاخذة نفسها بهذا الضرب من " التصوف " الذى لا قطع فيه لجذور الحياة ولا فناء فى التأملات بل فيه الاتصال بالالهة والاتحاد بها فى قوة الوجود الزاكية وعظمة القدرة الخالقة وسرمدية الحياة المنشئة .
اما ميمونة فانها مؤمنة أيضا إيمانا لا يقل وضوحا عن ايمان غيلان بأن الذات البشرية الفردية فانية زائلة وان قدرتها محدودة قاصرة . ولكنها لم تفهم منزلتها البشرية على مثل فهم غيلان : فهى تراه يتسامى بمنزلته ويغير منها ويكسر من حدودها لير فعها الى مجد القدرة والخلق والى قمة الاشراف على الالوهية وشرف القرب من الله فيبدو لها ذلك منه عتوا كبيرا وترى هى أن الله أكبر وأجل من أن يداني وان الايمان فى اقتناع الحى بمنزلته وتقبلها عن رضي وإخلاص . ولئن كان وعي غيلان الواضح للمنزلة البشرية " المعطاة " قد حمله على ان يعوضها بمنزلة " مكسوبة " - يكسبها بجهاد وبطولة - فان وعيها هى الاوضح قد حملها على نوع آخر من الشجاعة : شجاعة المواجهة لمنزلتها المعطاة في وضح " الصدق العاري " . فهي إذن ليست واهنة القوى ولا خائرة الكيان بل ان رضاها بشأنها وقصور قدرتها وحدود منزلتها فى دون يأس ولا حزن لمما لا يحتمله الا الاقوياء . أليست هي
التى تقول لغيلان : " الشجاعة ان ترضى بنفسك وقصورك وتقصانك وعجزك أن ترى شأنك ذاك ولا تتدك ولا تحزن " .
ذلك أن ميمونة لا ترى أن يسلك الحى من الوجود ومن الكون طريق المعاندة والصراع بل طريق " الطبع والاتفاق والمطابقة والاتحاد والوصال ورضى الكل بالكل " وذاك عندها " مقدار ما يوجبه الكون على الحى من جهد الى الكيان : مقدار جهد الكائنات المطمئنة راضية مرضية ، لا جهد المصارعة والمقاتلة " فانما هو ان تنفتح النفس للكون وان تكون إليه منتبهة يقظة وعنه راضية وبه واثقة وله مسلمة : هبة الحى نفسه للحياة . هبة الوجود المطلق للحي الطمانينة والسعة والروح ، " (١)
٦ ) - وهل يمكنني بعد هذا ان اختم هذا التعليق الذى تجاوز في الطول ما كنت أريد بدون ان أعود فاشكر الدكتور طه حسين شكرا كثيرا لا على ما تفضل كتابته فى نفد " السد " فحسب بل وأيضا على ما أتاحه لي بهذه المناسبة من الارتفاع معه الى بعض هذه الشؤون الانسانية الجوهرية التى هى من جنسه والتحدث إليه فيها من وراء الحدود والابعاد بما ارجو انه لم يسف عن مقامه ولم يبعد في الجد عما يليق بمنزلته .
تصويب خطإ جاء في مقال الاستاذ محمود المسعدى بعض اخطاء خصوصا فى رسم اسماء الاعلام ، نعتذر عنها ونثبتها كما يلى : الخطأ الصواب ص ٣٢ باركة الفتية باركه الفتية (( (( مصير الانسان الغريب مصير الانسان الغربي (( (( دى قوى دى نوى (( (( براداييف برداييف (( (( نيفوهر نيبوهر (Niehuhr)
