منذ قرن او قرن ونصف ابتدأ الشغالون في اثبات وجودهم بعد ان كانوا في حكم العدم . وقد لا نعدو الواقع ان قلنا انهم كانوا قبل ذلك غير موجودين . فاللغات التى تستعمل فى هذا الميدان كلمات مولدة ومشتقات حديثة والفاظا حولت عن معانيها الاولى تدل - من بين شواهد اخرى على ذلك . وتشبيه الشغالين والعملة المعاصرين لنا بارباب الحرف فى القرون الوسطى وتشبيه النقابات " بالاصناف يؤديان الى خطا ذي بال . فالاصناف (les eorporations) كانت تجمع الاعراف والصناع ، باعتبار هؤلاء متهئين الى ان يصبحوا اعرافا بتحصيلهم على المهارة الواجبة . اما اليوم فلم يبق الفرق بين " العرف " و " العامل " في المهارة . بل الفرق بينهما فى ان احدهما يملك ادوات العمل وآلاته وجهازه المادي وان الشغال ليس له الا عمله . فمنزلة " الشغال" فى المجتمع هي منزلة الشغل ، وان تلك المنزلة قد ارتفعت ارتفاعا عظيما منذ العصور الاولى . فانتقل العامل من الرق الى المشاركة في الانتاج مشاركة الند لصاحب راس المال . وبرقي حال العامل تغيرت نظرة الناس الى " الشغل " والى العمل اليدوي بصورة خاصة ؛ فلم يبق ، كما كان في المجتمعات القديمة ، مقرونا بالمهانة والذل . بل اصبح شرفا وحقا يطالب به ويضمن لاصحابه لانه العنوان على الحياة الكريمة . ولم يبق العمل من وراء ذلك ضربا من " الخدمة " للسيد حتى يجود على خادمه باللقمة الضرورية . بل حاولوا ان يفصلوا قدر المستطاع بين الشغل وبين لقمة العبد . واصبح العمال ، بعد زوال الرق ، يكرهون اشد الكره ان يعملوا بطعامهم . وقد تكون هذه الظاهرة الاخلاقية متصلة بتقلص الاقتصاد المبنى على التبادل البسيط للبضائع (le troc) وانتشار النقود واستعمالها . وستم تحرير العمال من التفكير في الطعام والشراب والمسكن والحاجات البشرية الاولى عند ما ينتهي بهم الرقي الى الفصل بين حقهم فى
العيش اي في الاجر الادنى الضروري وشغلهم المتمثل فيه دورهم الاجتماعى . وكلاهما ، من اجر ادنى ومن شغل ، حق للعامل . فلا ينقطع حقه في الاجر ان اخل مستخدمه بواجب استخدامه . وهذا معنى ما يطالب به العملة ، وما تحصلوا على مقدماته ، من اجر سنوي مضمون ؛ وهو صورة اليق بالمجتمع الراقى وبالعامل من صناديق الاسعاف او صناديق البطالة . وذلك الفصل بين الحق في الحياة وبين الشغل قد يظنه بعض الناس انتصارا للكسل والفوضى . وما هو الا ابراز لشرف " الشغل " اذ يخلصه من وصمة الجبر ويميره تمييزا باتا عن الاشغال " الشاقة " وعن السخرة وخدمة العبيد . فيظهر العامل في المظهر اللائق به ، مظهر الانسان الحر .
واحترام تلك الظاهرة في العامل قد جر ايضا الى تحديد ساعات العمل . وليس ذلك التحديد مقصورا على الاقطار التى تخشى تفشى البطالة لتجاوز العمل البشري المعروض ما يوجد من حاجة اليه . ولا هو محدود بمراعاة الطاقة البشرية أو ناشىء عن رأفة تشبه رأفتنا بالحيوان . بل يعتبر تحديد العمل حق العامل فى حياة بشرية كاملة تشمل الاجتماع بالاسرة وارضاء الحاجة الى الثقافة والتسلية .
ومن المعاني الاساسية في رقي الشغالين معنى الضمان والمطالبة بتحقيقه . ومن ذلك ، بجانب ضمان الشغل والاجر ، ضمان الصحة والحياة . وقد بدأ هذا الضمان مقيدا بالعمل مقصورا على مددانه ؛ وغايته مواساة العامل المصاب باحد حوادث " الشغل " الكثيرة . الا ان هذا الميدان قد تجاوزه شغالو كثير من الاقطار الى ما سمى بالضمان الاجتماعي ، اي الضمان ضد المرض مهما كان وأيا كان سببه . ويشمل الاحتياط للامراض والتمتع بما اكتشفه العلم الحديث من اسباب الوقاية وبوسائل تقوية الجسم وامداده بالراحة . فصار للعمال حق في راحة اسبوعية وعطلة سنوية . وانشأ العمال المتحدون في جمعياتهم التعاونية ونقاباتهم دورا للراحة لهم ولاطفالهم كما اسوا مصحات ودور اللعلاج .
وكثير من مظاهر الرقي المذكورة آنفا قد حققه العملة انفسهم بتعاضدياتهم رتعاونياتهم قبل ان يثبت لهم في مجلات القوانين وفي نصوص تشريعية . وان ذلك الرقى عنوان ازدهار الامم التي ظهر فيها وعنوان رقيها العام وشعور
افرادها بواجب التضامن العام . والمطالبة به للشغالين مطالبة بتحقيق المساواة والعدل اذ التاجر والمزارع وصاحب المعمل يتمتعون بضمان الدولة لتجارتهم وزراعتهم وصناعتهم ، بما تمدهم به من قروض واعانات وحماية قمرقية وتحمل للديون ومجابهة لتدهور الاسعار وما الى ذلك مما يشارك فيه جميع افراد الامة المتحملين لاعباء الاداءات القارة وغير القاره .
وهذا التقدم الذى وصفناه لك لم يتحقق كله بل لم يتحقق بعضه الا في عدد معدود من الاقطار . وما زال غالب عملية العالم يعانون حياة هى اشبه بحياة القرون الماضية وقد نجد صلة بين المستوى الاقتصادي للبلاد وبين تقدم الطبقة الشغيلة فيها . غير ان الصلة لا تتحقق دائما كما يتضح ذلك لدارس حالة العملة اليابانيين قبل الحرب العالمية الاخيرة . فالرقى الاجتماعي خاضع للظروف السياسية كما هو خاضع للاحوال الاقتصادية .
وفي بعض الأقطار يبدو سير العملة الى مثل هذا الرقي سيرا سلميا (بصورة نسبية إذ لا تخلو حركة عملية من عشرات الضحايا او مئات الضحايا ) بينما نجده اتخذ مظهر العنف فى اقطار اخرى ، والملاحظ ان العنف نصيب الحركات العمالية في الاقطار المتأخرة اقتصاديا واجتماعيا . كأن العقبات الكثيرة الموجودة فيها لا يمكن للرقي الاجتماعى ان يرحرحها الا بوسائل الشدة . والعنف في هاته الاقطار قد يكون اظهر فى قمع الحركات العمالية منه فى سير الطبقة الشغيلة . وصدى ذلك القمع الذي يفاجئنا من حين الى آخر يذكرنا بان تقدم الشغالين لم يتم الا بمجهودات جبارة وبكثير من الالم والتضحية ، وان ذاك التقدم ما زال بعيدا عن غايته ، وما زالت الطريق امام الشغالين طويلة ، وما زال عدد كبير من شغالي العالم في حال لا يمكن لمن يعيش فى القرن العشرين ان يرضى بها . غير ان تقدم الشغالين . وان كان منقوصا ، قد احدث اثرا هاما : هو تطور اخلاقي وظهور قيم جديدة قد جعلت نظرتنا الى الكون والى المنزلة البشرية تختلف عن نظرة اسلافنا .
