الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 334الرجوع إلى "الثقافة"

تكوين الشعب المصرى، الجديد، بعد الفتح العربي

Share

- ٢ - ظل الأقباط طول القرن الأول الهجري يدفعون الضريبة التي فرضت عليهم - كأهل ذمة - دون تذمر أو شكوي ، ولكنهم - منذ بدء القرن الثاني - قاموا بثورات مختلفة كان الدافع إليها عوامل مختلفة منها محاولة بعض الولاة زيادة هذه الضريبة :

١ - ففي سنة ١٠٥ ه كان الوالي علي مصر الحر ابن يوسف من قبل الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك ، وكان عامل الخراج عبيدالله بن الحبحاب ، فكتب إلى هشام ان ارض مصر تحتمل الزيادة ، فزاد على كل دينار قيراطا ، فانتفضت بعض كور مصر ) كورة تنو وهي وقربيط وطرابية ( وعامة الجوف الشرقي ، فبعث الحر بن يوسف بأهل الديوان ) أي الجند من العرب ( فأخضعوا الفتنة بعد قتل عدد كبير من الثائرين ، وكان هذا الانتفاض في سنة ١٠٧ ه ، وهو أول انتفاض للقبط بعد الفتح العربي

وواضح مما ذكر أن الزيادة كانت في ضريبة الأرض لا ضريبة الرؤوس ، وانها كانت زيادة طفيفة تبلغ قيراطا على كل دينار ، وقد تكون حاجة البلد دعت إليها كما ان عامل الخراج ذكر للخليفة ان الأرض تتحمل هذه الزيادة . ولكن مع هذا ثار القبط في بعض الكور وفي الحوف الشرقي ، لان المسائل المالية كانت دائما في كل العصور وفي كل البلاد مسائل حساسة تثير شعور الشعوب .

٢ - وكانت فتنة القبط الثانية جزئية أيضا في بعض بلاد الصعيد ، وذلك في سنة ١٢١ ه ، في ولاية حنظلة ابن صفوان الثانية علي مصر من قبل هشام بن عبد الملك يقول الكندي : " ثم انتفض أهل الصعيد ، وحارب

القبط عمالهم في سنة إحدي وعشرين ومائة ، فبعث حنظلة بأهل الديوان ، فقتلوا من القبط ناسا كثيرا ، وظفر بهم ولكن الكندي لم يذكر سبب هذه الفتنة ، وإن كان المقريزى قد ذكر أن حنظلة عندما اتى مصر واليا للمرة الثانية تشدد على النصاري ، وزاد في الخراج ، واحصي الناس والبهائم ، وجعل على كل نصراني وسما - صورة أيد - وتتبعهم ، فمن وجده بغير وسم قطع يده ؛ فقد تكون هذه السياسة هي السبب في قيام هذه الفتنة

٣ - وفي سنة ١٣٢ ه هزم مروان بن محمد آخر خلفاء بني امية أمام جيوش العباسيين وفر إلى مصر ، وفي مدة وجوده بها ثار بعض القبط برشيد فبعث إليهم مروان بعثمان بن ابى تسعة فهزمهم ولسنا نعرف ايضا سبب هذه الفتنة ، وقد يكون أقباط رشيد انتهزوا فرصة الفوضي التى صاحبت زوال دولة بني امية وبدء الدولة الجديدة فقاموا بهذه الفتنة

٤ - وفي سنة ١٣٥ ه - في ولاية أبي عون من قبل العباسيين - خرج ابو مينا القبطى بسمنود ، فبعث اليه ) ابوعون ( بعبد الرحمن بن عتبة فقتل أبو مينا " وليس في المراجع تعريف بشخصية إبى مينا هذا ، ولاذكر لأسباب خروجه

٥ - وفي سنة ١٥٠ ه ، في ولاية يزيد بن حاتم علي مصر ) ١٤٤-١٥٢ ( من قبل الخليفة العباسي ابي جعفر المنصور ، خرج القبط بمدينة سخا ، وانضم اليهم اهالي البلاد المجاورة ، فأرسل اليهم يزيد فرقة من اهل الديوان ، ولكن يبدو أن هذه الفتنة كانت قوية فقد قتل في المعركة بعض قواد العرب ، وجرح البعض الآخر " وانصرف الجيش إلي الفسطاط منهزمين "

٦ - وفي سنة ١٥٦ ه ، وفي ولاية موسي بن علي على مصر من قبل ابى جعفر المنصور خرجت القبط ببلهيب ، فأرسل اليهم الوالي جندا هزموهم .

٧ - وفي سنة ٢١٦ ه ، في ولاية عيسى بن منصور

على مصر من قبل الخليفة المأمون ثار سكان أسفل الأرض ) الوجه البحري ( جميعا - عربا وقبطا - ، وكان سبب هذه الثورة كما يذكره الكندي ) سوء سيرة العمال فيهم ( وبذل الوالي عيسي بن منصور والقائد العباسي الأفشين جهدهما لإخضاع هذه الثورة التي ظلت قائمة نحو ثمانية شهور - من جمادي الأولى إلي ذي الحجة - حتى اضطر الخليفة المأمون أن يأتي إلي مصر بنفسه لإخضاع هذه الثورة فأخضعها ، وعاقب كلا من الحاكم والمحكومين بما يستحق . أما الوالي عيسي بن منصور فقد عزله المأمون بعد أن عنفه بقوله : " لم يكن هذا الحدث العظيم إلا عن فعلك وفعل عمالك ، حملتم الناس مالا يطيقون ، وكتمتوني الخبر حتى تفاقم الأمر واضطرب البلد ( . أما ابن عبيدس الفهري قائد الثورة من العرب فقد فر إلي الصعيد فظفر به وقتل . وأما الثائرون من الأقباط ) فنزلوا على حكم أمير المؤمنين ، فحكم بقتل الرجال ، وبيع النساء والأطفال فبيعوا ، وسبى أكثرهم . . ( يقول المقربزي : " ومن حينئذ ذلت القبط في جميع أرض مصر ، ولم يقدر احد منهم بعد ذلك على الخروج على السلطان ، وغلبهم المسلمون على عامة القري ، فرجعوا من المحاربة إلي المكايدة ، واستعمال المكر والحيلة ومكايدة المسلمين وعملوا كتاب الخراج ، فكانت لهم وللمسلمين أخبار كثيرة . "

هذا موجز لأهم الثورات التي قام بها الأقباط في القرن الثاني للهجرة ، وقد أخضعت كلها القوة . وكان من أهم . نتائجها جميعا أن اعتنق عدد كبير من الأقباط الإسلام بعد كل ثورة - رغبة أو رهبة .

وكان من الطبيعي وهذه العوامل تعمل مجتمعة لإدماج الشعبين أحدهما في الآخر - أن تنتشر اللغة العربية بين الأقباط ت ليمكن التفاهم بين الحاكم والمحكوم . وظل انتشار اللغة العربية بطيئا طول القرن الهجري الاول ، وقبيل نهاية هذا القرن أي في سنة ٨٧ ه ) ٧٠٥ م ( - وفي ولاية عبد الله بن عبد الملك على مصر من قبل اخيه

الوليد بن عبد الملك أمر بالدواوين " فنسخت بالعربية ، وكانت قبل ذلك تكتب بالقبطية ) ١ (

ففي القرن الأول للهجرة كانت اوراق الدواوين تكتب باللغة اليونانية ، وكانت بعض الأوراق تكتب باللغتين العربية واليونانية ، ويرجع تاريخ اقدم ورقة مكتوب عليها بهاتين اللغتين إلي سنة ٢٢ ه ) ٦٤٣ م ( ، ويرجع تاريخ آخر ورقة إلي سنة ١٠١ ه ) ٧١٩ م ( كما يرجع تاريخ ورقة بردية مكتوب عليها باليونانية فقط إلى سنة ١٦٤ ه ) ٧٨٠ م ( . أما أقدم ورقة مكتوب عليها بالعربية فقط فتاريخها سنة ٩٠ ه ) ٧٠٩ م (

وظل هذا التحول من الكفاية باللغة اليونانية في الدواوين ، والتحدث بالقبطية بين عامة الناس ، إلي الكتابة والتحدث باللغة العربية ، ظل هذا التحول يتم بالتدريج خلال القرون الثلاثة الاولى للهجرة ، حتى إذا كان القرن الرابع كانت غالبية الشعب المصري يتكلمون العربية ، ولا يفهمون القبطية ، بدليل إن رجال الكنيسة اضطروا في هذا القرن ان يلقوا مواعظهم في الكنائس باللغة العربية . وليس معنى هذا ان اللغة القبطية تلاشت تماما ، بل لقد ظلت موجودة ، بدليل ما يذكره المقريزي من ان الخليفة المأمون كان يتنقل في ريف مصر ومعه مترجم ينقل عنه وإليه ، وما يذكره المقدسي في كتابه " أحسن التقاسيم " ) ألفه حوالى سنة ٣٧٥ ه ( من ان بعض مسيحي مصر كانوا يتحدثون بالقبطية

ولا يفوتنا أن نشير إلي أن بعض المسلمين تعلموا القبطية في هذا العهد الأول - عهد الاختلاط يذكر الكندي أن القاضي خير بن نعيم ) ولي القضاء من ١٢٠-١٢٧ ( كان " يسمع كلام القبط بلغتهم ، ويخاطبهم بها "  وذكر البلدي في كتابه " سيرة احمد

ابن طولون " ان ابن طولون تغير على احد رجاله ففر منه ، فأرسل ابن طولون احد رجال دولته في طلبه ، واوصاه ان لا يبحث عنه في داره بالفسطاط ، ولا في ضيعته ، بل امرء ان يبحث عنه في " الديارات وعند النصاري لأنه حاذق بالقبطية فصيح بها

ونستطيع الآن أن نلخص خطوات الاختلاط والتحول التي انتهت بتكوين الشعب المصري الجديد في العصور الوسطى في النقط الآتية :

١ - تميز القرن الأول للهجرة بكثرة الهجرات العربية المتتابعة ، وكانت أكبرها هجرة القبائل القيسية من ١٠٩ إلى ١٣٢ ه ) اي من عهد هشام بن عبد الملك إلى عهد مروان بن محمد ( وقبيل نهاية هذا القرن ايضا ٨٧ ه ( كان تحويل الدواوين المصرية من اليونانية إلى العربية .

٢ - ويتميز القرن الثاني بثورات الاقباط المختلفة ) من ١٠٥-٢١٦ ه ( وكان من نتائج هذه الثورات دخول كثير من الأقباط في الإسلام

٣ - وفي القرن الثالث اسقط العرب من ديوان الجند ، ومنعت أعطياتهم ، فانتشروا في القري المصرية واشتغلوا بالزراعة ، وتزوجوا من المصريات ؛ ففي هذا هذا القرن تم امتزاج الشعبين

٤ - ولم يكد يبدأ القرن الرابع حتى كان في مصر شعب جديد - هو خليط من الشعبين العربي والقبطي . يدين معظمه بالدين الاسلامي ، ويتكلم السواد الاعظم  منه مسلمين وأقباطا - اللغة العربية

ونستطيع أخيرا أن نفسر اندماج الاقباط في العرب واعتناقهم للإسلام بالأسباب الآتية : ١ - يقول ابن خلدون " المغلوب مولع  دائما بتقليد الغالب " وهذه حقيقة ثابتة نشاهدها في تاريخ الشموب المختلفة ، فليس من البعيد إذا أن يفكر بعض الأقباط

في اعتناق الدين الإسلامي - دين الدولة الحاكمة - رغبة في أن ترتفع مكانتهم ، ويسهل اتصالهم برجال الدولة ، ويتمتعوا بما يتمتع به المسلمون من مركز ممتاز ؛ ولم يكتف نفر من الأقباط باعتبار الإسلام ، بل تغالوا فادعوا النسب العربي ، وبذلوا المال الكثير لإثبات هذا النسب . ذكر الكندي أن جماعة من القبط يسمون بأهل الحرس سعوا لدي قاضي مصر عبد الرحمن بن عبد الله العمري ) 5 ١٨-١٩٤ ( ليسجل لهم سجلا بإثبات انسابهم ، ودفعوا له ستة آلاف دينار ، فرفع العمري الأمر إلي الخليفة الرشيد ، وسافر رجلان من أهل الحرس إلى بغداد وانفقا هناك مالا كثيرا ، وادعيا هناك انهم ينتسبون إلي حوتكة بن الحاف بن قضاعة . وعند وصولهم إلي بغداد مات الرشيد ، وولى الخلافة ابنه الأمين ، فرفعوا إليه قضيتهم ، وأيدهم في دعواهم جماعة من أهل الحوف الشرقي وبادية الشام ، ثم عاد الوفد ومعهم كتاب الأمين إلي العمري بالتسجيل لهم ففعل .

وقد ثار المجتمع العربي في الفسطاط لهذه القضية ، وأعلن عن غضبه على القاضي العمري في شعر كثير ينتقد فيه حكم هذا القاضي ، ويطعن في قضاياه . ولم تهدأ ثائرتهم حتى عزل العمري عن قضاء مصر ، ووليه هاشم بن أبي بكر البكري ) ١٩٤-١٩٦ ( من قبل الأمين أيضا ، وسافر وفد من العرب إلى بغداد للطعن في حكم العمري ، ونسبة أهل الحرس للعرب ، " فكتب محمد الامين إلي البكري بكتاب يذكر  فيه انه لا يمنح أحدا من غير العرب اللحاق بالعرب ، ويأمره ان يردهم إلى ما كانوا عليه من انسابهم ، فدعا البكري اهل الحرس ، وطلب منهم سجل قضيتهم الذي أثبت فيه العمري انسابهم ، ثم أخرج مقراضا من تحت مصلاه ، فقطع السجل ( وقال لهم " العرب لا تحتاج إلي كتاب من قاض ، إن كنتم عربا فليس ينازعكم أحد .

- كان الأقباط يتولون وظائف الدولة الصغيرة

والكبيرة ، وقد اسلم كثيرون منهم رغبة في المحافظة على وظائفهم ، أو رغبة في الوصول إلي وظائف الدولة الكبرى التي كانت وقفا علي المسلمين ، وخير مثال لذلك إسلام أسرة ابن مماني ) ١ ( في بدء الدولة الأيوبية محافظة على مراكزهم الكبرى ، فقد كانوا يتولون النظر علي ديوان الجيش ، والمثل كثيرة أيضا ، وخاصة في عصر المماليك

٣ - ما كان يحدث عقب كل ثورة من دخول كثير من الأقباط في الإسلام - طوعا أو كرها - وخاصة بعد الثورة التي حدثت في عهد المأمون

٤ - اعتنق كثيرون من الأقباط الإسلام فرارا من

الضرائب التي كانت مفروضة عليهم . وخير دليل على هذا أن أول انتفاض للقبط في العهد الإسلامي ) سنة ١٠٥ ه ( كان لأن عامل الخراج زاد على كل دينار قيراطا

ولم يكد ينتهي القرن الأول للهجرة حتى أحس والي مصر بالكثرة دخول الاقباط في الإسلام من أثر في نقص قيمة الخراج ؛ فلما ولي الخلافة عمر بن عبد العزيز ) ٩٩ - ١٠١ ( كتب إليه عامله على مصر ايوب بن شرحبيل يشكو كثرة دخول الناس في الإسلام ، ويذكر له مالهذا التحول من أثر في نقص قيمة الخراج ، ثم استأذنه في فرض الجزية على من أسلم ، فرد عليه عمر رده المشهور : قبح الله رأيك ، إن الله  إنما بعث محمدا هاديا ، ولم يبعثه جابيا ، فضع الحزية عمن اسلم ، ولعمري لعمر اشقي من ان يدخل الناس كلهم في الإسلام على يديه . "

اشترك في نشرتنا البريدية