نشره وحققه الدكتور أحمد فؤاد الأهواني مطبة مصر - القاهرة ١٩٥٠
لا أنكر أن نشر أثر عربي قديم يحمل من المعنى اللغوي لكلمة النشر ما يحمله البعث بعد الموت من معان وما أحوجنا اليوم إلى الانبعاث من جديد. . . وما أحوج ميراثنا العربي العتيق إلى أن تزاح عنه الأكفان، وينفض غبار السنين من فوقه، فإن العروبة اليوم تقف في ساحة النشور.
وقد كتبت عن هذا الكتاب الجديد للصديق الدكتور الأهواني كتابة باعدتها عن محيط الصداقة، وأدخلتها في دائرة الصدق، خشية أن يضيع شيء منهما على حساب صاحبه. وما أظن في الذي فعلت إخلالا يحق الصداقة، أو إغفالاً لأمر المودة. وما أظن الدكتور الأهواني إلا راضياً بما صنعت، فقد عودنا دائماً أنه يحب سقراط ولكنه يجب الحق أكثر منه.
وفي الكتاب جوانب ما كان يتسع لها مقام محدود في مقال واحد، فإن هذا الكتاب هو في الحق خمسة كتب في كتاب واحد، وما ظنك أيها القارئ الكريم بخمسة مخطوطات في الفلسفة الإسلامية أتيح لها أن ترى النور دفعة واحدة في كتاب
واحد؟؟ أليس من حق هذه الكتب علينا - وهي لأربعة من كبار فلاسفة الإسلام - أن نقف معها ونطيل الوقوف ولا نجد في ذلك الوقوف بأساً؟ فإن الشعراء كانوا يقفون على الأربع الأدراس ولا يجدون في أنفسهم حرجاً مما يصنعون، ولا بأساً فيما يفعلون. ونحن هنا - أمام هذه المخطوطات العربية الخمسة - نقف على أطلال من الفلسفة الإسلامية أعادها النشر شيئاً جديداً، ورد لها الحياة التي زايلتها حينا من الدهر، ونمر على تلك الديار الخمسة وقد نضر التحقيق شبابها، وأعاد لها رحابها، فنقبل ذا الجدار وذا الجدار، لا حباً في المكان، ولكن شغفاً بالسكان. . . وما السكان هنا! إلا تلك المعاني الفلسفية التي تعبر عن تصور فلاسفة المسلمين للنفس والعقل، وكيف اتصلت العقول بالأجسام.
وأول هذه الرسائل تلخيص كتاب النفس لأبن رشد، وليس التلخيص للدكتور الأهواني ولكنه لأبي الوليد محمد بن رشد نفسه! ومعنى هذا أن وراء هذا الملخص مطولاً، وأن خلف هذا الموجز محيطاً، ويدل عليه قوله. (وهذا كله قد بينته في شرحي لكتاب أر سطو في النفس، فمن أحب أن يقف على حقيقة رأيي في هذه المسألة فعليه بذلك الكتاب) . ونبحث نحن عن هذا الكتاب، ونمني النفس أن نجد فيه من البسط للرأي والبيان في الشرح ما تحل به طلاسم التلخيص فإذا الدكتور الأهواني ييئسنا من هذه الغاية ويقطع منها مناط الآمال ويقول (ولم نعثر على هذا الكتاب في العربية) . فإذا قام بخاطرك هذا التساؤل الآتي: ولماذا لا نترجم هذا الكتاب المطول في النفس عن اللاتينية؟ وجدت جواب الدكتور الأهواني يرد على هذا التساؤل بقوله: (والرجوع إليه في الترجمة اللاتينية لا يخلو من التضليل، لأن التراجم اللاتينية كثيراً ما ابتعدت عن الأصل ولم تكن أمينة في النقل) . وهذه التهمة الخطيرة للتراجم اللاتينية لا أجرؤ على التسليم بها ولا أدعي لنفسي الدفاع عنها، لأنها مما لا يصل إليه جهلي المطبق باللاتينية.
ولست والحمد لله لاتينياً، ولا أمت إلى اللاتين بعرق، فكل ما يجري في دمي عربي صميم. ولكني أكره الاتهام الجزاف لغيري تقية أن أكون أنا نفسي موضعاً للاتها! ولا زلت أذكر أن كثيرا من التراجم العربية للفلسفة اليونانية كان كثير الفساد
والقلق والغموض، حتى لقد باعد ذلك بين التراجم العربية وبين أصولها اليونانية، وحتى أصبحت هذه التراجم بعيدة عن الناس غريبة عليهم، وحتى ذكر أحد تلامذة أبن رشد عن أستاذه أنه قال: (استدعاني أبو بكر بن طفيل يوما فقال لي. سمعت اليوم أمير المؤمنين يتشكى من قلق عبارة أرسطاً طاليس أو عبارة المترجمين عنه، ويذكر غموض أغراضه، ويقول: لو وقع لهذه الكتب من يلخصها ويقرب أغراضها بعد أن يفهمها فهماً جيداً لقرب مأخذها على الناس، فإن كان فيك فضل قوة لذلك فأفعل. واني لأرجوا أن تفي به، لما أعمله من جودة ذهنك وصفاء قريحتك، وقوة نزوعك إلى الصناعة. وما يمنعني من ذلك ألا ما تعلمه من كبر سني، واشتغالي بالخدمة، وصرف عنايتي إلى ما هو أهم عندي منه. قال أبن رشد: فكان هذا الذي حملني على تلخيص ما لخصته من كتب الحكيم أرسطاطليس) .
فأبن طفيل يشكو بلسان أمير المؤمنين من قلق التراجم العربية لأر سطو وغموضها، وابن رشد يقر إقراراً ضمنياً بالشكوى بدليل إقدامه على تلخيص ما لخص من كتب المعلم الأول. ولعل شيئاً - قليلاً أو كثيراً - من الاعتداد بالنفس هو الذي حمله هذا المحمل من التلخيص حتى يكون له فضل تقريب الفلسفة من الإفهام بعد أن باعد الغموض بينهما وبين الناس. ولكني أخشى أن أبن رشد كان في التلخيص اكثر غموضاً مما كان غيره في التطويل.! ولعله تنسى قول ابن طفيل له: (يقرب أغراضها بعد أن يفهمها فهما جيداً) وآفة ابن رشد في هذا الغموض إما أن يكون مأتاها من ناحية فهمه أو من ناحية مقدرته على التفهم! وأخشى أن يكون ذلك آفة الفلاسفة جميعاً.
إلا أن الدكتور الأهواني صنع في الحق شيئاً لم يصنعه ابن رشد في التلخيص الغامض! فقد جعل للتلخيص تلخيصاً في المقدمة التفسيرية التي قدم بها بين يدي الكتاب. وهي مقدمة نفيسة وقد زاد في نفاستها أن صديقنا الأهواني استعان فيها بآراء طائفة من كبار المشتغلين بالفلسفة، مثل (جويتيه) و (تيري) و(سلسون) و(والاس) و(بريهيبه) و (دوهيم) . ولعلك تلاحظ أيها القارئ الكريم أعجمية هذه الخفنة
من الإعلام التي أخذ عنها الأهواني. فتجزع أن كتاباً في الفلسفة الإسلامية يفيض بهذه الأسماء، وتسأل نفسك: أليس بين هذه الأعلام علم عربي واحد في ميدان هو في الحق حلبة للتراث الفكري عند المسلمين. ولكن الجزع لا يطول بك: لأنك تصادف من مراجع البحث في المقدمة الجليلة للدكتور الأهواني مرجعاً ثميناً باللغة الفرنسية للدكتور إبراهيم بيومي مدكور. طبع في باريس سنة ١٩٣٤. وعنوانه مترجماً. (مكان الفارابي في المدرسة الفلسفية الإسلامية) .
هذه كلمة حق أخرى في تلخيص كتاب النفس لأبن رشد الذي أخرجه الدكتور أحمد فؤاد الأهواني مع كتب أربعة أخرى تتصل بالنفس والعقل والاتصال والمعرفة. ومن حق
كتبنا القديمة أن لا نستكثر عليها كلمة أو كلمتين في مجلة أو مجلتين. أو أن نمن على محققيها بأن نتهم من الصديق عباس خضر بأننا نتبادل الثناء ونتقارض الإهداء، ونتقايض التعريف بآثارنا الأدبية. ولو أطلع (العباس) على كتابي (بين السطور) لرآني محاولاً قدر جهدي أن أنتصف للحق ممن أعرفهم ومن لا أعرفهم من الأدباء والباحثين، الذين أتشرف بعرض أفكارهم ونقد آثارهم. وكدت لا أذكر هنا صداقة وعداوة، لأن مراد النفوس الكبيرة أكبر من أن نتعادى فيه أو أن ننغص فيه القلوب، بذكر بغيض وحبيب. . .
