يذهب بعض الفكرين الاجتماعيين إلى أصح مقياس يقاس به وفي أمة من الأمم، ويعرف به حظها من المدنية، ومرتبتها في سلم التطور الإنساني، هو مبلغ العناية التي تحيط بها ضعافها، والرعاية التي تتولى بها ذوي العجز والعوز من أبنائها.
ويشبه هذا ما يراه البعض من أن أصدق حكم على ما بلغه الفرد من التهذب هو حظه من الغيرية، أي مقدار تفكيره في غيره، وتقديره لظروف غيره، وعمله لخدمة غيره.
ولا جدال في أن إغاثة الملهوف، وتفريج كرب المكروب، ومواساة البائس، ومعاونة الضعيف، ومد يد المعونة للفقير، وتهوين ويلات الحياة على الزمني والشيوخ، من الفضائل الإنسانية التي يتمدح بها الأفراد والجماعات، ويعلو بها قدرهم الإنساني.
على أن هذه الفضائل ليست أمرا كماليا يجعل الأخذ به ولا يلام على تركه، بل هي فرض عين على كل أمة، وعلى كل قادر من أبنائها؛ وإن لم يؤد هذا الواجب استهدفت الأمة وأبناؤها جميعا لمتاعب اجتماعية شديدة، تعرض سلامتهم وطمأنيتهم للخطر، وقد تؤدي بهم جميعا إلي الضعف والانحلال.
هي واجب وطني، فكل مواطن بتمتع بحق البنوة لوطنه؛ والأبوة الصادقة يستوي لديها القوي والضعيف من بنيها، بل الضعيف أحق بالتعهد والرعاية، حتى يبرأ من ضعفه ويؤدي واجب البنوة كاملا كغيره.
وهي واجب وطني لأنه ليس في المادة الإنسانية التي يتألف منها كيان الوطن كم يهمل ولا نقاية تنبذ،
فالوطن بحاجة إلى استغلالها جميعا لأقصى حدود الاستغلال.
وهي واجب وطني، لأن العضو الممثل يخشى منه على سلامة الجسم كله، وليس في شريعة الإنسانية أن يبتر حتى تستنفذ كل الوسائل لعلاجه.
وهي واجب على كل فرد بحكم الأخوة الوطنية التي تربط الجميع وتنظمهم في بناء واحد يشد بعضه بعضا، وتؤلف منهم جسما واحدا إذا مرض منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى.
وهي من حق الفرد على نفسه، لأن القوة والغنى من الأعراض الزائلة، وكل إنسان لا يدري -مهما حسب وقدر- ما عسى أن تتمخض عنه الأيام من الأحداث، فما يؤديه لغيره من ضريبة هو دين مؤجل يسدد له عند الحاجة، وما يقدمه من خير يجده في غده خيرا.
وهي واجب على القادرين من الأفراد حماية لأنفسهم، وكفا لما قد يلحقهم من أذى من المحرومين الذين ينفون عليهم ما هم فيه، والذين قد يضطرهم سوء حالهم إلى المهاب حقهم منهم بالحيلة أو القسر.
والأديان جميعا -وفي مقدمتها الإسلام الذي تدين به- دعت إلي البر بالفقراء ونصرة الضعفاء؛ بل لقد جعل الإسلام الزكاة ركنا من أركانه، وجعل في أموال الأغنياء حقا معلوما للسائل والمحروم، لا يتم إسلام المرء حتى يؤديه كاملا.
والمروءة والشهامة والكرم، وهي من السجايا التي توارثها المصريون، جعلت أفضل المعروف إغاثة الملهوف.
فما لنا -وهذا حالنا نشهد بيننا مآسي تفتت الأ كباد، وتذيب الصخر، وتمر بها كأنها منظر مألوف ومشهد طبيعي لا يحرك من عواطفنا ولايهز من مشاعرنا ؟!
ما لنا نرى المدائن تغص بالحفاة والعراة وذوي العاهات، ممن شحبت ألوانهم، وذبلت أجسامهم، وأضناهم البؤس والعوز، يلتقطون فضلات الطعام مما تعافه الحيوانات، ويتزاحمون على الهين اليسير مما يلقيه إليهم عابر السبيل من الصدقات؟!
ما لنا نرى حول القصور والعمائر أكواخا بائسة زرية، قد حشد فيها الكثير من إخواننا في الوطنية، من العجائر والأرامل والمطلقات، والعاطلين من العمال، والعاجزين من ابنهم، وقد دفنوا أحياء في تلك القبور، وقد ضاقت بهم سبل الرزق، فجعلوا يدبرون فيها الوسائل لإتقان فنون التسول والسرقة والاحتيال وغيرها من ضروب الإجرام؟!
هل قست القلوب وخلت من الرحمة؟ هل طغت المادية علينا فأنستنا فضائلنا وردتنا أفرادا أنانيين غلاظ الأكباد، لا يفكرون إلا في أنفسهم، ولا يجعلون لغيرهم موضعا من اهتمامهم أو تفكيرهم؟!
هل ضعف الدافع الديني الذي حبب لأجدادنا أن يخرجوا عن كثير من مالهم للخيرات، ويقفوا كثيرا من ممتلكاتهم على وجوه البر؟
هل انقضي جيل المحسنين الذين وجدوا أكبر ما يتقربون به ثم التبرع للفقراء، والأخذ بيد الضعفاء؟
إن نفسي تأبى على أن أصدق النتيجة التي تسوقني إليها تلك المقدمات. واكبر ظني أن النفوس لا تزال عامرة بالخير، وأن فضائلنا الموروثة لا تزال كامنة في قرارة نفوسنا، وإن تكن بعض العوامل أخفتها وحجبتها.
قد يكون ما انكشف من كذب بعض محترفي التسول،
وتفننهم في الاحتيال لاستدرار الشفقة بالتمويه والتصنع، من الأسباب التي حبست المحسنين عن الإحسان، وشككتهم في أن ما يتصدقون به يصل لمن يستحقه، فقبضوا أيديهم عن الجميع، ثم صار القبض فيهم عادة.
وقد يكون من الأسباب ضعف الدعوة التي تنبه الغافل وتذكر المقصر وتوقظ في النفوس روح الخير.
قد يكون شئ من هذا أو ذاك، سبب ما نراه من نقص البذل للفقراء. وإنما كانت الأسباب فالأمر أصبح بحاجة إلي خطوة حاسمة، تسد ما ينقصنا في هذا الباب.
إن البلاد ملأى بالفقراء والعجزة والمرضي وذوي العاهات وضعاف البنية؟ وهم من الكثرة بحيث لا ينهض بأعبائهم وتخفيف آلامهم سوى جهد قوي منظم، تساهم فيه الحكومة والأفراد، ويتعاونون جميعا على إزالة وصمة العار التي تلحق بنا شعبا وأفرادا من بقائهم بهذا الإهمال.
إن المرء ليبتدي خجلا حين يشهد سائحا أجنبيا يزور بلادنا، ويحاط في كل مرحلة من زيارته بجيوش من العمى والعجزة والعراة يلاحقونه سائلين مستجدين.
لقد أصبحت بلادنا العزيزة الكريمة في نظر كثير من الأجانب مياه المتسولين، فهل ضاق كرمها بهؤلاء البائسين وهي تتسع لمئات الآلاف من أفاقى الأجانب، يحتلبون خيراتها، وينعمون بالعيش الرغد فيها؟ .
وليت الأمر وقف عند هذا الحد، فالفقر الذي دفع بفريق كبير من أبناء الوطن إلى احتراف التسول، والذي أهدر عزتهم وكرامتهم الإنسانية، قد دفع بغيرهم إلى الشر والجريمة، ودفع بفريق كبير إلى الرذيلة وما يتصل بها من المهن الخسيسة. ولا يدري إلا الله إلى أين تنتهي بنا الحال إذا بقينا في هذا الجمود والإهمال!
ليس ما تحتاجه تشريعا مانعا، ولا عقابا رادعا، ولكننا بحاجة إلى تدبير علاجي رحيم، ينشل هذه الضحايا
وينقذهم مما انحدروا إليه، فما السبيل إلى هذا؟
ليست هذه المهمة التي ينهض بها الأفراد متفرقين، فجهد الفرد مهما عظم محدود لا يكفي لعلاج حالة من حالات البؤس علاجا حاسما، ولكن هذه الجهود القليلة المبعثرة إذا تجمعت وتضامت ووجهت لغرض واحد كانت واضحة الأثر فيه.
فلنواجه هذه المهمة جماعات لا أفرادا، ولتختص كل جماعة بمهمة واحدة تتوافر على درسها وتقصي أسبابها وتوخي أنجع السبل في علاجها.
لتكن لكل حالة متفشية من حالات البؤس الشائعة بيننا هيئة تقوم على شئونها، فيجد كل من الأعمى والأكمه والمقعد والمسن والشريد واللقيط واليتيم والأرملة والمطلقة والعاجز والماطل والضال، جمعية ترعاه وتتولى شئونه وتعالج مشكلته.
وليكن كل منا عضوا في جماعة أو أكثر من هذه الجماعات، يساهم فيها بما يستطيع من مال وعمل.
ليرتب كل منا في ميزانية صرفه قدرا معينا للاشتراك في الجمعيات الخيرية، ولا تقعد به قلة دخله عن المساهمة ولو بنصيب ضئيل في هذا الباب، فهذا القليل الصئيل يتجمع منه الكثير.
وليؤد كل منا زكاة ماله وزكاة الفطر لهذه الجماعات، فما يردها من هذا الباب وحده كاف لحل مشاكل كثيرة، والنهوض بأعمال جليلة في تخفيف كروب البائسين.
وليتطوع كل منا بنصيب من العمل في هذه الخدمة الاجتماعية التي تفرضها عليه عضويته لتلك الجماعة، فيدرس بعض الحالات، أو يقوم ببعض أعمال الإنقاذ، أو يشترك بجهد في مراقبة بعض المؤسسات، أو ما إلى ذلك.
هذا نصيب الأفراد وواجبهم، أما الجماعات نفسها فيجب أن تواجه مهمتها بعدة قوية وخطة محكمة، وتدبير محسوب مقدر. يجب أن يكون لها عيون تجوس خلال
الديار، وتتعرف بنفسها الحالات المحتاجة لرعايتها، ولا تكتفي في ذلك بجهد سلبي، فكم يقعد كثيرا من الناس عن الاتصال بتلك الجماعات حياء أو جهل أو كسل، ثم تتولى تلك الحالات هيئة فنية تفحصها وتدرس عواملها المختلفة، وتضع لكل حالة خاصة علاجا شافيا، لا تدبيرا مسكنا يزول أثره بعد حين.
وطبيعة هذه الجماعات الإنسانية تقتضي تناول أمورها بالرفق والشفقة، وألا يتبع إحسانها بمن أو أذى، وأن تنظر لما تقدمه للمنكوب على أنه حقه على الوطن، لا على أنه فضل وتصدق.
وإذا نظرنا لجماعاتنا الخيرية القائمة وجسدناها -فيما عدا جمعية الإسعاف- متعددة الأغراض، تشتغل كل منها بتعليم الفقراء، ورعاية اليتامى، وعلاج المرضى، ومساعدة المحتاجين، وكل ما يدخل في باب الخير، ويمكنها الظروف من القيام به.
وهذا الاتجاه الواسع المبهم في أغراض الجمعيات الخيرية كان له ما يبرره منذ خمسين عاما، قبل أن تتعقد الحياة وتزداد مشاكلها الاجتماعية، وتنوع ضروب البؤس، وتتسع اتساعا يجعل كلا منها خليقا بعناية خاصة توجه له.
وهي -أي الجمعيات- تتركز كلها أو جلها في القاهرة أو الإسكندرية، ولا عند خيرها لباقي الأقاليم إلا في حدود ضيقة.
والواجب أن يضم هذه الجماعات اتحاد يحدد لكل منها اختصاصا تنفرد به، ومنطقة نشاط تعمل فيها، وأن تنشئ كل منها لها فروعا في الأقاليم تقوم فيها تحت إشرافها يمثل عملها، على مثال جمعيات الإسعاف المختلفة.
والواجب أن تعيد النظر في أساليبها القديمة، وتنتفع مما هدت إليه الدراسات الاجتماعية الحديثة، والمباحث التى قام بها غيرنا من الأمم في هذا الميدان
وإذا كانت هذه الجماعات تصلح نواة لتنظيم الإحسان
في بلادنا بعد أن تعدل وتوسع وتنتظم على الوجوه التي أشرنا إليها ، فإن من الواجب تكميلها بإنشاء جمعيات جديدة للأغراض التي لا ترعاها تلك الجماعات.
على أن كل جهد في التنظيم من جانب الفرد والجماعات يكون ضعيف الأثر إذا لم تقم الحكومة في الإشراف على هذه الشئون، ومراقبة سيرها، وتوجيهها للطريق المثمر النافع بأوفر نصيب.
في كل الأمم الراقية مصالح حكومية تشرف على الشئون الإجتماعية، وتتولاها بالبحث والدراسة وجمع الإحصاآت والبيانات، وحصر الحالات والمشاكل وتعرف أسبابها، وتراقب الهيئات العامة المشتغلة بتلك المسائل وتصرفاتها. وتؤيدها وترعاها، وتمدها بما يسد النقص في ميزانيتها: فلم لا يكون لنا مثل تلك الهيئات؟ لم لا يوضع تحت تصرف تلك الهيئة أموال الأوقاف الخيرية، وضريبة المراهنات، وأرباح أوراق النصيب، وما يدخل بيت المال من بركات من لا ورثة لهم، وغيرها من أبواب الإيراد الشبيهة بها، وتكون نواة لمعاونة الجماعات الخيرية كلا بحسب حاجتها؟
ولم لا يعهد لهذه الهيئة في إدارة الملاجئ ومطاعم الشعب وغيرها من المؤسسات الخيرية تتولاها بعناية رحيمة وإشراف علمي دقيق، حتى يجعل منها وسائل حقيقية للإصلاح الاجتماعي؟. ولم لا يكون لهذه الهيئة رقابة يقظة دقيقة، تمنع تلاعب الأفراد والجماعات بالأموال العامة التي وضعت بحث محت أيديهم للأعمال الخيرية، وتكفل إنفاقها في وجوهها الصحيحة؟
أظن أن الأوان قد آن لهذه الخطوة الإصلاحية الضرورية. ويسرني أن أقرأ بعد كتابة هذا في إحدى الصحف أن وزارة الداخلية جادة في تكوين هيئة للشؤون الاجتماعية تعنى بتلك الأمور.
