الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 286الرجوع إلى "الرسالة"

تنظيم الاحسان

Share

الإحسان فى مصر - وإن سدت قلت فى بلاد الإسلام فوضى . وإذا كان للفوضى نظام فهو أن ينال المستطيع ويدرك السريع ويظفر الملح . والبؤس يسلب المنة ويعقل القدم ؛ فلا يغشى مساقط الندى ومهابط الرحمة إلا من اتخذ الفقر بجارة والتكفف حرفة . اما الذين واراهم التعف واقععدهم العجز ، فهم يتضاغون من السغوب وراء الحجب ، فلا تبصرهم عين ، ولا تسمعهم اذن . والناس من هؤلاء الساجزين المتعففين ، واولئك القادر بن المتكفين فى مأساة تبكى وملبياة تضحك !

دخل علينا القهوة ذات مساء فتى ربيان الجسم بالشباب والصحة ؛ على راسه طربوش ، وحول عنقه كوفية ، وفي يده خبز رانة ؛ فخيا بادب وضراعة ، ثم اخذ يستر القلوب ويستندى الا كف بأسلوب يخبل العقل النير ويختل الطبع الحريص . وكان خطابه التمشى المؤثر يدور على عزته التى لا تالف الهون ، واسرته التى لا تصيب الدون ، وكفايته التى لا يجد العمل . فأعطاه بعض من فى المجلس ، ثم استدناه صديق من أهل السراء وأرباب الضياع وقال له : - لم لا تطلب العيش من طريق أخلق بالرجولة وأليق بالكرامة ؟

- طلبت العمل يا سيدي في كل مكان فلم أجده - أتقبل العمل عندى فى المزرعة ؟ نبدأ على الفتى شىء من التردد والحرج لانه احس الجد فى لهجة الرجل ، ولكنه سأل :

- وماذا يعطيني اليك إذا قبلت ؟ - ثلاثة جنيهات غير طعامك وكسوتك فابتسم الفتى ابتسامة فبا معان شتى من الدهش والعجب والتهكم ، وقال وهو يدنى فمه من اذنه كا بما يريد ان يساره :

* خشير . ? H يا سيدي ، إني اسأل فى اليوم الواحد الفا على الأقل ممن اتوسم فيهم رقة القلب وكرم المهزة ؛ فاذا اعطانى مائة وردنى تسعمائة مجمع لى من ذلك فى الشهر خمسة عشر جنيها ، اصيبها وانا فى القاهرة انقلب بين مطاعمها ومقاهيها ، واتمتع بمناعمها وملاهيها . فين يريدني على ان اقبل ثلاثة جنيهات فى الريف على عمل قذر متعب بين الأجلاف والبهاتم ؟

أرأيت ؟ خمسة عشر جنيها بجبيها من الأغرار هذا المتبطل المتعطل وينفقها فى الخمر والقمر والحشيش ، ومئات من الاسر الكريمة تكابد عبث الاقدار او خطا الاغيار فلا نجد مواسيا فى معروف الاحياء ولا فى موقوف الموتى ! وخمسة عشر الف فدان يقتنيها ذلك الفن ريعها القياض على وساوس فيه وهواجس احلامه ، ومن حوله الوزن والوف لا يدرون من طول الحرمان لماذا شق الله لهم الأفواه وجوف فيهم الأبطن !

هذا البليد الملحف ، وذلك الجماع الطماع هما اللذان أكلا نصيب العاجز من رزق الله ! فلو ان السائل المخترف ترك نفحات الايدى للفقير ، والغنى لسه عف عن فضول الرزق للعاجز ، لما رايت عليها رجلا يشرق بالدموع بجانب اخر يشرق بالشمبانيا ! ولكن النفس البشرية تؤثر الجانب الايسر من العيش ، وتطلب النصيب الاوفر من المتاع ، فلا بد من سلطان يقم المعدلة بين الساعي بقوته والقاعد لضعفه . ومن ثم جعل الاسلام تنظيم العلاقة بين الغني والفقير ركنا من اركانه الخمسة ، يصلح به وبالحج امر الجماعة ، كما يصلح بالصلاة واسيام امر الفرد . وكان هذا

الركن الإسلامي الركين عسيا بعناية اولى الأمر يجعلون له ) مصلحة ( أو ) وزارة ( تأخذ من أموال الناس صدقة تزكى النفوس من حقد الفاقد على الواجد ، وتطهر المجتمع من بغي طبقة على طبقة . ولكن الامم الإسلامية الحديثة توزعتها الجهالة والمذلة ، فحسبت أن دستور القران لا ياتلف مع المدنية الغالبة ؛ فتركت شريعة الله إلى شريعة نابليون ، وهجرت سياسة الرسول إلى سياسة كارل مر كس ، فلم يكن بد من قسوة الا كباد لجفاف القانون ، ونورة الأطماع من شدة التنافس . رئيست الرهبانية من نظم الإسلام حتى تقوم الراهبات بما لم تقم به الحكره من جمع الزكوات وتوزيعها على صرعى الفاقة وأسرى المرض ، فكان ما لا حيلة فى اتقائه من قوضى الإحسان ، فحبس عن غير أهله ، وحل فى غير محله ، وذهب كله للمتشردين فى الطرق ، والمحتالين فى البيوت ، والمتبطلين فى المساجد

إن فريضة الزكاة فى الاسلام هي الفرق بين الدين والقانون ، وبين الشرق والغرب ، وبين الانسان الذى يعيش بالروح والانسان الذي يعيش بالاالة . فمن المحتوم على دولة تطمح إلى الخلافة ان تلزم بها الناس لتكون حكومتها للشعب كله . وإلا فاجد اى ان اقول إن لى دولة دستورها المساواة وقانونها العدل ، ووطنا تراه الذهب وماؤه الكوتر ، وانا محروم لا انتفع بخير الحياة ، ومهضوم لا أتمتع بحقوق الحى ؟

اما أن تقولوا إن من عجز عن واجب السعى نزل عن حق الوجود ، وإما ان تتصفوا بعض الناس من بعض فيشعروا انهم عباد لإله واحد ورعايا لملك واحد . اما أن تتعدد الالهة فيكون لكل ارض إله وهو المالك ، وتتنوع الملوك فيكون لكل على ملك وهو المول ، فذلك ما لا يطيب به عيش ولا يصلح عليه امر

إفرضوا الإحسان كما فرضه الله ، ونظموه كما نظمته الشريعة ، واجبوه كما جباه الراشدون ، ووزعوه كما وزعه القران ، تضمنوا للفقير سكون الجوف ، وللغنى زوال الخوف ، وللأمة بأسرها السلام والوثام والمحية

اشترك في نشرتنا البريدية