الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 600الرجوع إلى "الثقافة"

تولستوى والمعرى, تولستوى والمعرى

Share

-٢-

ولد تولستوى فى أسرة عريقة مكثرة مثرية ، ونشأ قوى البنية ، موفور العافية ، متدفق الحيوبة ، مشبوب الحسية ، وتزوج المرأة التى حسنت فى عينه ، وصبت إليها نفسه ، وولدت له ثلاثة عشر طفلا ، وتوالت آبانه الفنية الشائقة ، وذاعت شهرته فى الخافتين ، وتضاعفت ثروته ، ونال أقصى ما يترامى إليه الأمل من الجاه والشهرة والمال والحب والمتعة ، فماذا يطلب بعد ذلك ؟ لقد كاد من فرط ما أغدق عليه الحظ يصحب الدنيا بلا أمل ، ولا يريد من الأيام شيئا . حتى لقد كتب فى  إحدى رسائله يقول : " سعادتى لا تشوبها شائبة " . ولكن ما بين عشية وضحاها تغيرت أحوال هذا الرجل السعيد المحظوظ ، فوقعت النبوة بينه وبين زوجته ، وطال الخلاف ، وتمادت الخصومة وتفاقمت ، وبدأ يشك فى قيمة أعماله ، وينتقص آثاره الأدبية ، ويتبرم بها ، ويزهد فيها ؛ وتولاه الهم ، وضافت عليه مقاليده . فكان ينبو جنبه عن الفراش كأنما به من مسه قروح ، فيظل ساهر الطرف ، شارد الفكر ، يذرع غرفته جيئة وذهابا ، ويجلس فى النهار إلى مكتبه ، وقد توزعته الأفكار ، واحتضرته الهموم ، غير مطبق للكتابة ؛ فماذا أصاب هذا الرجل وحل بساحته من فادح الأرزاء وجليل الخطوب ؟ وهل أصابه مرض فجائى أو ماذا ؟ كلا لم تصبه كارثة ، ولم يثبته خطب ، وإنما راعه أن يرى لا شئ خلف كل شئ ، فاستحوذ عليه الشك ، وتداخله منه المقعد المقيم ، حتى زهد فى كل شئ ومل كل شئ .

كان الرجل مفرط الحسية ، وكان الدافع الجنسى قويا فى نفسه ؛ ولذا كان يخشى المرأة ويرهب سطوتها القاهرة ، ويحذر الوقوع فى مغواتها ، وأن تقتنصه حبائلها ؛ ولذا كان يكره المرأة ، والنساء والموسيقى فى رأيه تثيران الحسية ، وتنبهان الجسد ، وتوقظان الفتنة النائمة ؛ ولقد نجح فى إخماد شهواته بعد صراع طويل وجهاد شاق ، ولكن حسيته ظلت مع ذلك مثل وحتى عاد مفترس ، قد وضع فى الأقفاص

الحديدية لتكف شره وتمنع عدوانه ، ولكنه متأهب للوثوب والانطلاق إذا غفل الحراس وافترص الفرصة ؟ وفى سورة شبابه جمحت به الشهوة حتى كادت تورده موارد التلف والبوار ، واستطاع بعد عناء أن يكبحها ، ولكن الوحش لا يزال حيا متأهبا للنزال متوثبا للعدوان ؛ فموقفه يشبه موقف الراهب الناسك الذى فر إلى الخلاء واعتزل الناس ليهرب من إغراءات الجسد ومغاوى الشهوة ؛ وقد حمل فى روايته المشهورة " كروينزر سوتانا " على اتخاذ المرأة وسيلة للمتعة حملة شعواء ، وندد بأفانين المرأة فى الاستقواء ، وحض الرجال على أن يبذلوا جهدهم فى التزام العفة التامة ، ويخرسوا هواتف الجسد ؛ وتتفق فلسفة تولستوى فى هذه الناحية مع فلسفة المعرى التى استوفى بيانها فى نائبته المشهورة التى استهلها بقوله :

ترنم فى نهارك مستعينا

           بذكر الله فى المترنمات

وفيها يقول أبو العلاء عن النساء :

فوارس فتنة أعلام على

           لفينك بالأساور معلمات

وقد فضل أبو العلاء فى هذه القصيدة الطويلة رأيه فى المرأة وموقفه منها ، وهو يتفق فى جوهره مع رأى تولستوى ؛ ولو تأخر الزمن بالمعرى وقرأ رواية " كرويتزر سونانا " لأعجب بها غاية الإعجاب . وأقر تولستوى على ما جاء بها من الآراء والنظرات ؛ ولو أتيح كذلك لتولستوى أن يقرأ نائية أبى العلاء لوجدها تعبر عما فى نفسه ، وتقرر ما يعتقده وما هدته إليه تجاربه وخبرته .

وقد وقف تولستوى أمام فكرة الموت وقفة طويلة مثل أبى العلاء الذى كان لاينى يفكر فى الموت ويستحضر أهواله وفواجعه ، وقد كان تولستوى القوى الحواس الفياض الحيوية الواشج الجذور فى عرق الثرى يرى الموت شبحا رهيبا . وكيف يطبق هذا الرجل المستوفز المشاعر فكرة

أن حواسه ستخمد وأن يمينه ستشل فلا تقوى على الحركة ، وأن جسمه الذى يتدفق الدم فى عرقه سيغدو طعمة للدود حتى لا يترك منه سوى هيكل عظمى بشع مخيف ! وكان نولستوى يستولى عليه الفزع ويأخذه الخوف من جميع أقطاره كلما فكر فى هذا اللاشئ ، هذا العدم الأصم ، هذا السارق الذى دق شخصه ، فهو يسعى بلا رجل ويصول بلا سيف كما يقول المتنبى ، وكان يجمد الدم فى عروقه كلما خطر بباله أن هذا الموت ستعلق به أسبابه وتملك عنائه شطنه ؛ ولقد طالعته صورته وهو فى الخامسة من عمره حينما ماتت والدته وحماوه ليشاهدها وهى مسجاة على السرير ، ورأى أن هذه المخلوقة العزيزة التى كانت بالأمس جمة الحركة موفورة النشاط قد أصبحت جثة هامدة متصلبة الأطراف مساوبة الحركة . فخرج من الحجرة صارخا باكيا تتبعه المخاوف وتساوره الأوهام . ثم مات أخوه ، ومات أبوه ، وماتت عمته ، فترك موتهم فى نفسه ندوبا وخلف آثارا لا تزول ، وكانت صورة العدم تلوح له من وراء الكتب والبحوث فتفنى سروره وتغتال صفوه ، وتستأثر بتفكيره ، وكان خوفه من الموت معادلا لحيويته الدافقة العارمة ، فهو لا يريد الموت ، ويتعلق تعلقا شديدا بالحياة ، ويحرص عليها ، ويود طول البقاء ، ولكنه يعلم أنه ميت ، وأن الأمر كما قال كعب بن زهير :

كل ابن أنثى وإن طالت سلامته

              يوما على آلة حدباء محمول

وأكثر الناس يعقد لهم جسر بينهم وبين الموت ليسهل عليهم بلوغه ، ويهون احتماله ، وهذا الجسر هو المرض واعتلال الصحة ، ولكن جسم تولستوى كان قويا أبدا لا يعرف المرض ، ولا يسرى فيه الداء ، ولا يدب به الضعف ، فلم يشعر بأن الناس يموتون جزءا فجزء وعضوا فعضوا ، فأخذ يكثر من التفكير فى الموت ، ويطيل النظر فى أمره عله بذلك يألفه ويقبله ويروض نفسه المنأية على احتماله والصبر على مواجهته ، فالاعتياد يغلب الكراهة ، ويهزم الخوف ؛ وقد استطاع أن يجعل الموت خدنا وصديقا ، ويتألف وحشته ، ويوطن نفسه على قبول حقيقته ؛ ومات فى الخيال ميتات كثيرة ، حتى أصبح عليما بالموت خبيرا

بأحواله ؛ وقد وصف ذلك فى قصته البديعة " موت إيفان إيلتش " وقصته " ثلاث ميتات " وقد عمق ذلك معرفته بالحياة ، وأوسع تجاربه .

وموقف أبى العلاء من الموت ورهبته يشبه موقف تولستوى ، انظر مثلا إلى قول أبى العلاء :

فمالى أخاف طريق الردى

               وذلك خير طريق سلك

يريحك من عيشة مرة

              ومال أضيع ومال ملك

فهو يحاول أن يهون على نفسه من طريق المنطق احتمال الموت والصبر على تجرع مرارته . ويقول فى موقف آخر : ما أطيب العيش عند قوم       لو أنه كان لا يزول ويردد هذا المعنى فيقول :

سقيا لطيب العصر لو أن الفتى

                   بالمرغبات إلى بقاء واسل

ويقول فى استفظاع الموت :

وطريقى إلى الحمام كريه

               لم تهب عند هوله البهماء

والواقع أن فكرة الموت كانت كثيرة الجولان فى نفس أبى العلاء دائمة الدوران فى تفكيره ؛ وقد يبدو غريبا أن أبا العلاء الذى كان يحمل على الحياة ، ويفنن فى تحديد عيوبها وإحصاء مساوئها يستهول فكرة الموت وبعدها من المساوئ التى يأخذها على الحياة ! فهل كان يأس أبى العلاء من الحياة لونا من ألوان التطلع إلى الخلود ، والحنين إلى البقاء ، والخوف من العدم ؟ قد يكون ذلك وقد لا يكون ، فإن أبا العلاء لغزه ليس من اليسير تفسيره ، ولست أدعى أنى أملك ما يسمى " مفتاح شخصيته " ، والنفس الإنسانية فى تقديرى شئ غامض شديد التعقيد ، وربما كان العثور على مفاتيح الشخصيات من حظ الموعودين .

وخصلة ثالثة فى فن تولستوى تجعله قريب الشبه بفن أبى العلاء على بينهما من اختلاف وتفاوت ؛ فتولستوى فى فنه البارع يعنى بوصف الحقائق ، ويتجنب الأحلام والأخيلة ، فليس فى رواياته وقصصه سبحات صوفيه ، ولا تأملات مسترسلة فى الأوهام ، وإنما هى واقعية بصيرة نافذة ، لا يغيب

عنها شئ ، ولم يكتب تولستوى طوال حياته شعرا لأنه كان يطلب الحق المجرد ؛ وكان أبو العلاء فى فنه مثل تولستوى طالب حقيقة ، فهو يعرض عن الزخرف والتأنق والتجميل ، ويكتفى بتصوير الحقائق فى بساطة مستحبة ، وصراحة مباشرة، قد تصل أحيانا إلى الصرامة فى تقرير الواقع وتوصيف الحوادث والآراء ؛ ويشعر الإنسان وهو يقرأ روايات تولستوى بأنه يعيش على الأرض ، وأنه مقدر له أن يموت، وأنه لا يستطيع أن يتخلص من قيود الجسد وأسر الحواس، وأنه لا يستطيع الإفلات من أغلال الظروف والملابسات، فلا تدويم فى القضاء ، ولا ارتفاع فى السماء ، ولا مشاهدة لعالم آخر أصفى من هذا العالم الذى نعيش به وأشف وأنقى ؛ فعالمه ليس فيه أحلام ولا أوهام ولا أخيلة ولا أكاذيب ، عالم قفر خال جديب ، لا ينسى حقائق الحاضر ، ولا ينسى ضرورات الحياة ، فهو ينير البصيرة ، ويثير التفكير ، ولكنه لا يشعرنا بالسعادة ، ولا يدخل على نفوسنا السرور والابتهاج ، وكذلك عالم أبى العلاء ؛ ويعجبنى فى هذا المقام قول الكاتب النقادة القدير ستيفان زفايج فى فصل له قيم عن تولستوى : " حينما نقرأ تولستوى نشعر بأن الشتاء قد اقترب أو أنه قد أقبلت مقدماته وأن الطبيعة تحتضر ، وأن الناس جميعهم مثل الحشائش الثابتة ، وأن تجسيمنا الخاص للحياة البشرية العامة مشرف على الفناء القريب "

ففن تولستوى تنقصه الموسيقية العذية والإشراق المؤنس ولمعات الوحى وومضاته وحماسة اليقين وحرارته ، وهو لا يؤكد لك الحياة ، ولا يبتعث فيك العزيمة ؛ والعالم فى نظره مسرح للموت ، والتاريخ فوضى لا معنى لها ، والناس هياكل عظمية يسترها اللحم حينا من الزمن ؛ فغير عجيب أن ينتهى تولستوى إلى الفردية والفوضوية ، كما انتهى أبو العلاء إلى الفردية والاعتزال . وتولستوى ، مثل أبى العلاء ، يلاحظ الحياة ملاحظة صارمة ، فلا تضلله بيض الأمانى ، ولا تخدعه كواذب الظنون ، ولاتجتذبه جواذب الأوهام . وكيف يخدع نفسه هذا الرجل الحديد البصر القوى الحس النافذ الفكر ؟ وكيف يعد الوعود الخلابة ويمنى الآمانى الحسان ويبشر ولا ينفر وهو يرى الحياة ظلا زائلا وفناء قريبا ماثلا ؟ فهو لا يكذب ، ولا يريد أن يكذب ،

ومن ثم لا يبتعث رجاء ولا يحيى أملا ، وكذلك عاش أبو العلاء .

ولكن تولستوى الذى كان لا يرى الحياة سوى مأساة ، خالجه فى شيخوخته الأمل فى أن هذه الحياة يمكن علاجها وتغييرها وإصلاحها ، وأن الناس يمكن أن يصبحوا أحسن مما هم عليه وأسمى وأكمل ، وأنه يمكن أن يليح لهم بمثل أعلى أخلاقى يختلب لبهم ، ويبهر عقولهم ، وأن نقيم فى عالم الروح ملكوت السماء ، وتلوذ به من آلية العالم ، ولذا حاول أن يضفى على فنه صبغة أخلاقية وأن يوقفه على تطهير النفوس من الآثام والأرجاس والسمو بها وتهذيبها .

ولم تكن هذه النزعة طارئة عليه كل الطروء جديدة كل الجدة ، فقد بدت بشائرها وسمانها فى رواية " أناكارتين " ثم تجلت واضحة ناطقة فى رواية كروتيزر سوناتا ، ورواية البعث ، وأصبح تولستوى لا يرى الفن غاية فى نفسه ، وإنما يراه وسيلة من وسائل الإصلاح والتهذيب وإذاعة الأفكار ونشر العقائد والمعتقدات ، وأخذ يقيس الآثار الفنية بهذا المقياس ؛ فالآثار الأدبية التى تعين على فعل الخير وترقى بالنفس هى الآثار العظيمة الجديرة بالخلود ؛ أما الآثار التى لا يرجى منها العون على فعل الخير وتهذيب النفس فهى آثار سيئة تستحق الإهمال والإعراض والازدراء ؛ ومن ثم حملته على شكسبير وانتقاصه أدبه ونقده لفنه ؛ ولم يعف آثاره الفنية من هذا النقد ، فعاب روايته العظيمة " الحرب والسلم " وعدها رواية رديئة لا خير فيها ولا قيمة لها .      وتولستوى مثل أبى العلاء كثير الوصف لنفسه ، دائم التحدث عنها ، يصارحنا بكل ما يرد على خاطره ، ويهجس فى نفسه ، ولكنه لم يكن مع ذلك مغرورا مزهوا ، ولا متكبرا عاتيا ، وإنما كان شديد النقد لنفسه كثير التحامل عليها متواضعا ألوفا مثل أبى العلاء ، وقد عاش مثله فى حرب دائمة مع نفسه .

وقد بدأ هذا التحول عند تولستوى حينما بلغ الخمسين من عمره ، وكأنما فغرت عند قدميه هاوية ، فبدأ يرى الدنيا لغزا مستعصيا يزوغ منه ، وأخذ يتأمل شقاء الحياة ، وبؤس البائسين ، وفقر الفقراء والمحرومين ، وأصبحت                   ( البقية على صفحة ١٦ )

(بقية المنشور على صفحة ٧)

أحزان الدنيا أحزانه ، وأثقال هموم البشرية همومه وأثقاله ، وشرع يبحث عن لغز الحياة . ويلتمس معرفته عن طريق الكنيسة فيخفق ، ويتحول إلى شوبنهاور ثم يرتد إلى سقراط وأفلاطون ، ثم يطوف بالأديان المختلفة باحثا منقبا ؛ ويقرأ نيتشه والمتصوفين ، ثم يتحول بعد ذلك كله إلى المزارعين البسطاء ليتعلم منهم اليقين . ويستمد منهم الحكمة ؛ وينادى تولستوى بفكرة عدم مقاومة الشر بالقوة ، ويقصد تولستوى بالقوة القوة المطلقة التى تستتر خلف الاقتصاد السياسى أو الرخاء القومى أو التوسع الاستعمارى الذى قد يلبس لباس الفلسفة والمثل العليا القومية . وقد ذهب تولستوى إلى أن الملكية مصدر الشر وأصل الشقاء ، والملكية فى حاجة إلى القوة لحمايتها . والحماية هنا اعتداء وإجرام ، والملكية تستعين بالدولة على حمايتها ، وتقوم الدولة بأعباء هذه الحماية بتنظيم صور مختلفة من القوة مثل قوة الجيش وقوة الشرطة وسلطة القضاء ؛ والدولة فى العصر الحاضر

قائمة على فكرة " القوة " لا على نظرية " الأخوة " . ووضح من وراء ذلك أن تولستوى ثائر على النظم الحديثة ، بل هو يعد من الذين مهدوا السبيل للثورة الروسية الحديثة بمهاجمته للدولة والكنيسة وتشهيره بالنظام القيصرى ونظام الملكية .

وأبو العلاء مثل تولستوى متبرم بنظم عصره ثائر على حكومته. ولكن فى لين ومداراة واصطناع تقية . وقد حاول تولستوى أن ينزل عن ثروته ، ويتجرد من أملاكه ، ويعيش فقيرا زاهدا مغمورا ، فوقفت أسرته فى سبيله . وعاقته عن المضى فى تنفيذ خطته ، وقد ثقل عليه ذلك وساءه وجعله فى هم ناصب ، وقد سأل نفسه فى يومياته قائلا: " هل أنت نفسك تعيش طبقا للمبادئ التى تدعو إليها ؟ " ورد على نفسه قائلا : " كلا ، إننى شديد الخجل ومجرم يحتقر " . أما أبو العلاء فربما كان فى هذه الناحية أسعد حظا من تولستوى ، فقد عاش أفكاره وطابق إلى حد كبير بين أقواله وأعماله ، وقد يسرت له ذلك ظروفه الخاصة .

اشترك في نشرتنا البريدية