ظن بعض إخواننا الشعراء أننا قصدناهم بمقالنا الذى رجونا شعراء الشباب فيه أن يعنوا بثقافتهم الخاصة حتى يستطيعوا أن يحسنوا الاضطلاع بالنهضة التى نطمع أن تتم للشعر العربى الحديث على أيديهم. . . وإخواننا هؤلاء مخطئون، لأنهم الآن فى الذروة من ثقافتهم التى أوشكت أن تمهد لهم الزعامة فى الشعر المصرى الحديث، وإن كانوا فى نظرنا مع ذلك لم يؤدوا لهذا الشعر جزءا واحدة من مائة جزء مما نصبو إليه، حتى يكون لنا شعر لا نخجل من المباهاة به وسط أنواع الشعر العالمى
وسخط بعض إخواننا من شعراء الشباب الآخرين، وعدوا الروح التى أملت علينا مقالنا نكوصا عما أخذنا به أنفسنا من الدفاع عن شعراء الشباب، ونسوا أننا لم نك يوما مكابرين حتى نغمض أعيننا عما فى كثير من شعرهم من الطراوة والفجاجة والضعف. . . الشعر الذى لا يمكن أن يحدث نهضة طالما أن أصحابه معجبون به. . . يظنون أنه بلغ الدرجة القصوى من الأناقة والتجويد، وأوفى على الغاية من الذوق والحرارة والشاعرية
ورضى فريق ثالث متواضع فاقتنى الكثير من الكتب التى أشرنا إليها وأخذ يستوعب ما فيها، ويصلح به شأنه، وكان فى اعترافهم بما لمسناه فى بعضهم من قلة الاطلاع على أشعار العرب فى مختلف العصور لون من عظمة النفس التى تفتقر إليها نهضتنا الأدبية التى نرجو أن تبلغ أوجها على أيديهم إن شاء الله
غير أن فريقاً رابعاً من أنبه شعرائنا - الشباب والشيوخ - الذين جمعتنا بهم صدفة من أسعد الصدف، لم يوافقنا على ما ندعو إليه من وجوب أن يكون الشاعر مثقفا تلك الثقافة العميقة التى لا تنبغى - فيما ذهبوا إليه - إلا للعلماء والفلاسفة والكتاب. . . وذلك، أن تلك الثقافة العميقة، فيما ذهبوا إليه أيضاً، قد تجنى على شاعرية الشاعر فتجعله جاف الأسلوب، نابى العبارة،
ملتوى التفكير، معقد الأداء. . . وضربوا لذلك مثلاً. . . أبا الطيب المتنبي، وأبا العلاء المعري. . . فلم يفتنى أن أعارضهم بأبى تمام، والبحتري، وابن الرومي. . .! وهكذا ننتقل فجأة إلى قضية أدبية طريفة. . . ليست أقل قيمة من تلك القضية الشائكة. . . قضية وحدة الوجود. . . والعياذ بالله!
إن إخواننا هؤلاء يزعمون أنه لا ضرورة مطلقا لأن يتعمق الشاعر فى ثقافته، لأن ذلك يؤثر من غير شك فى شاعريته، ويجعله يضمن شعره خطرات علمية (باردة!) إذا كانت ثقافته العميقة تلك ثقافة علمية، أو خطرات فلسفية (حائرة!) إذا كان ممن يدمنون النظر فى آراء الفلاسفة وتخبطاتهم. . . فإن كانت ثقافته لفظية، من نوع ثقافة العجاج ورؤبة وعقبة وأبى العلاء، ترك هذا فى شعره ذلك المرض الأسلوبى المثقل بحوشى الألفاظ وغريب التعابير، مما يصرف القراء عنه؛ ويزهد عشاق الشعر فيه. . . وذكروا حالات غير هذه، وراحوا يضربون لكل حالة منها أمثالا تجعل رأيهم وجيها، وتكسبه قوة خداعة ذات بريق
فهل ما ذهبوا إليه من ذلك كله حق؟ وهل تطبيقاتهم صحيحة؟ لقد ذكروا المتنبى والمعرى فيمن ذكروا من الشعراء الذين أتلفت ثقافتهم شاعريتهم. فهل من الحق أن المتنبى والمعرى قد أتلفا شعرهما بما كانا يتعمدانه من تضمينه ألوان الثقافات التى كانا يمتازان بها
لقد نشأ المتنبى فى بيئة شيعية، وتعلم فى إحدى مدارس الشيعيين بالكوفة، وكان لهذا السبب من أوسع الناس إلماما بتاريخ الفرق الإسلامية وأحوالها ومعتقداتها. وذهب بعض مؤرخى الأدب العربي، ومنهم الأستاذ ماسينيون والدكتور طه حسين، إلى أن المتنبى لم يكن شيعيا فحسب، بل كان قرمطياً، وقرمطياً متطرفاً. وأن قرمطيته بدت فى ألفاظه وتعبيراته وأفكاره. ويحدثنا الدكتور طه عن ذلك حديثا طليا فى كتابه (مع المتنبي) . وكما بدا التشييع فى شعره، بدا التصوف كذلك، فهو يستعمل طرق الأداء عند المتصوفة، ويأتى فى شعره وأخيلته بكثير من أوهامهم ومعتقداتهم، ويمدح
أئمتهم مدحاً قد لا يسيغه المسلم الحق إلا موجهاً إلى الله سبحانه. ولم يبال المتنبى أن مدح الأوراجى الصوفى الذى كان له فى مأساة الحلاج النصيب الأوفى، وأن يمدحه بإحدى روائعه التى مطلعها: أمن أزديارَكِ فى الدجى الرقباء ... إذ حيث كنت من الظلام ضياء
ولا يبالى أن يبوح فى كثير من قصائده بما لعله كان يؤمن به من الحلول والتناسخ. . . ولست أدرى ماذا يقدح ذلك فى المتنبى العظيم كشاعر من شعراء الصف الأول بين شعراء العرب؟ ماذا يعيب الشاعر أن يمتلئ ذهنه بلون ما من ألوان الثقافة فيكون له صدى فى شعره يصدر عنه عفواً وعن غير عمد؟
قد يكون إخواننا الأعزاء على حق يلاحظون على المتنبى تعمده الإتيان فى شعره بالغريب الحوشى من الألفاظ، والغريب الشاذ من الجموع والصفات. . . ولكن ما حيلة المتنبى فى عصره الذى كان يزخر بعلماء اللغة وفقهائها وشيوخ النحو والصرف والبلاغة؟ لقد كان أكثر هؤلاء العلماء الأعلام يناصبون المتنبى العداء، وينفسون عليه مرتبته الأدبية التى لم يتمتع بها شاعر من قبل، فكانوا يتعقبون شعره، ويقفون له بالمرصاد، عسى أن يسقطوا له على غلطة، أو أن يعدوا عليه زلة، وكان المتنبى يعرف ذلك منهم، فكان يعبث بهم، ويغلو فى هذا العبث، وينصب لهم من عربيته الفصحى فخاخاً تمسك بهم كما تمسك الشراك الثعالب
على أن أحدا من هؤلاء العلماء الأعلام لم يكن أرسخ فى علوم العربية كعباً من أبى الطيب. ففى (معاهد التنصيص) - جـ١ ص١١ - (أن الشيخ أبا على الفارسى قال (للمتنبى) يوماً: كم لنا من الجموع على وزن فعْلى؟ فقال المتنبى فى الحال: حجلى وظرْبى، قال الشيخ أبو علي، فطالعت فى كتب اللغة ثلاث ليال على أن أجد لهذين الجمعين ثالثاً فلم أجد!). وفى خزانة الأدب للبغدادى (جـ١ ص٣٨٠) أن أبن العميد قرأ على المتنبى كتابا من كتب اللغة
ولعل الذى كان يعيبه هؤلاء العلماء الأعلام على المتنبى لم يكن جميعه، أو لم يكن شيء منه، مما يعاب على سيد شعراء العربية غير مدافع. . فقد كان المتنبى كوفيا، وكان لذلك
يخرج فى النحو على سنن البصريين وفى الأنصاف (طبع أوربا) تفصيل لكثير مما كان موضع خلاف بين المدرستين بصدد أشعار المتنبي، وقد أجاد الأنبارى مؤلف ذلك الكتاب القيم فى توضيح ذلك إجادة تامة نافعة تبرئ المتنبى مما أخذه عليه خصومه وما لا يزال خصومه فى عصرنا الحديث يأخذونه عليه من مثل ذلك، مما يتوهمونه خطأ
وكما كان للمتنبى خصوم من النحويين وفقهاء اللغة، كذلك كان له خصوم كثيرون من المتكلمين، فكان يداعبهم تارة، ويداعب فقهاء المسلمين تارة أخرى، وقد عنى الدكتور طه بهذه المداعبات فى كتابه مع المتنبى عناية كبيرة. . وكانت مداعباته تلك تثير بين أولئك وهؤلاء حربا فكرية طريفة فى الزمن الذى كانت تجرى فيه. . . فكيف نعدها اليوم من المآخذ التى نحصيها على المتنبي، ونعيب بها شعره؟
وكان المتنبى - لتشيعه - أو لقرمطيته - ولتقلبه فى بلاد المسلمين من دون العراق الذى كانت غالبية أهله تفتتن بأساليب المتنبى وتشغف بها، لكثرة ما كان ينتشر فيها من الفرق وأصحاب الفلسفات الغالية، يؤثر استعمال الرمز، ولاسيما إذا كان ينشد فى مجلس من السنيين، وهو فى ذلك تلميذ للمتصوفة، إلا إنه غدا أستاذهم. وبالأحرى أستاذ شعرائهم. وليس للصوفية رمز، أو إشارة، لم يستخدمهما المتنبي، إلا ما نذر. والذى يدمن قراءة أشعار ابن الفارض يشعر من فوره بتأثر شيخ شعراء المتصوفة بأستاذه المتنبي، ولاسيما فى استعمال المذهب الرمزى، وفى كثرة استخدام التصغير. . .
ولست أدرى ماذا يعاب من ذلك كله على المتنبي، بوصفه شاعراً كان يعيش فى ظروف خاصة، وكان يخضع لمقومات بيئة خاصة
على أن الذى تورط فيه إخواننا مما ذهبوا إلى إنه من عيوب ثقافة المتنبى العميقة التى أتلفت شعره، وخرجت به من جنة الشعر إلى جحيم الفلسفة، تلك الحكمة التى نثرها فى قصائده، وكان فيها تلميذاً غير موفق لأرسطو!
وذكروا أن الصاحب بن عباد ألف لفخر الدولة رسالة أحصى فيها للمتنبى ثلاثمائة وسبعين بيتاً تجرى مجرى الأمثال؛
فجاء الحاتمى وألف رسالته (الحاتمية) (1) فى رد حكم المتنبى إلى أصولها من فلسفة آرسطو. . . والرد على زعم السرقة هنا هين لا يكلف الإنسان عناء، وهى لو صحت لما نهضت برهانا على الذى ذهبوا إليه من تشويهها لشعر المتنبي؛ فمما لا مشاحة فيه أن حكم المتنبى لآلئ غالية يزهى بها شعره، ويتفرد بها، لا بين شعراء العربية فحسب، بل بين شعراء العالم كله. . . وليس معنى ذلك أننا استوعبنا أشعار الأمم كلها. . . ولكننا نقول ذلك بعد أن قرأنا معظم ما ألف عن تاريخ آداب العالم؛ فلم نعثر بشاعر يضارع المتنبى أو ينافسه فى ميزته تلك. على أنك تقرأ الحكمة من الحكم التى ينسبونها إلى آرسطوا، والتى لا ندرى المصدر
الذى استندوا إليه فى نسبتها إليه، ثم تقرأ بيت المتنبى الذى يحمل هذه الحكمة. فتشعر من فورك بالبون الشاسع بين أداء المتنبى وأداء آرسطو، وبين تفكير هذا وتفكير ذاك
أى فرق شاسع بين قول آرسطو: قد يفسد العضو لصلاح أعضاء، كالكى والقص اللذين يفسدان الأعضاء لصلاح غيرها وقول المتنبى: لعل عتبك محمود عواقبه ... فربما صحت الأجسام بالعلل ومثل ذلك الفرق نلمسه فى العشرين والمائة حكمة التى تناولها الحاتمى فى رسالته. . . ذلك ما اتسع له المجال فى الدفاع عن المتنبي. . . أما الدفاع
عن المعرى فموضعه غير هذا الحديث.
