الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 1025الرجوع إلى "الرسالة"

ثلاثة حوادث، من التاريخ الإسلامي، ساعدت على نمو العربية وانتشارها

Share

نظرت في حوادث التاريخ الإسلامي فوجدت أن ثلاثة  منها كانت ذات تأثير عميق بعيد المدى في نمو اللغة العربية  وانتشارها العظيم. أول هذه الحوادث تعريب الدواوين على  عهد الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان   (٦٥هـ ٨٦هـ) .  الثاني أمر الخليفة عمر بن عبد العزيز   (٩٩ - ١٠١هـ)

بتدوين الحديث النبوي. الثالث أمر الخليفة المأمون  العباسي   (١٩٨ - ٢١٨هـ)  بنقل كتب الفلسفة من  اليونانية إلى العربية. وسأتكلم على هذه الأحداث الثلاثة  واحداً واحداً، مبيناً الباعث عليه، وكيف تم، وأثره في  نمو اللغة العربية وانتشارها. ثم أختم كلامي بالمقارنة بين  ما حصل منذ أكثر من ألف سنة وما هو حاصل بالفعل  بالإضافة إلى نهضة العربية في عصرنا الحاضر.

إن نظام الديوان نظام مستحدث في الدولة الإسلامية  ظهر في عهد الخليفة الثاني عمر بن الخطاب عندما توالت  الفتوح وتدفقت الأموال من الأقطار المفتوحة، فاقتضت  الحال اتخاذ نظام لتقييد أسماء المقاتلة وقبائلهم ومبالغ  أعطياتهم، فاستشار عمر ذوي الرأي على عادته في كل أمر  حازب وحدث مهم، فأشاروا عليه بوضع الديوان.

و (الديوان)  كما جاء في دائرة المعارف الإسلامية  لفظ إيراني الأصل له صلة بكلمة (دبير)  ومعناها  (الكاتب) . وقد أطلق في أيام الفتوح العربية على  السجلات التي كانت تشتمل على حساب أموال الدولة، ثم  أصبح يضاف في العصر العباسي إلى كل فرع من فروع  الإدارة العباسية، فقالوا ديوان الزمام وديوان التوقيع  وهكذا.

ولقد كون عمر لجنة لتدوين أسماء الجند وبيان أنسابهم  وأعطياتهم على نظام اتفق عليه وفصله الماوردي في كتاب  (الأحكام السلطانية) فكان من ذلك الديوان المعروف  بديوان الجيش. وهو أول ديوان وضع في الدولة الإسلامية  وكان يحرر بالعربية من أول أمره. ثم تلاه ديوان آخر هو  ديوان المال والجباية، وكان مقر دواوين الأموال في عواصم  الأقطار المفتوحة. وكانت تسجل فيها أسماء القرى  ومساحاتها ومقادير ارتفاعها وتوزيع ذلك على هيئة جزية  أو خراج. وكان هذا الديوان يكتب في كل قطر بلغة أهله  أو لغة الدولة التي كانت لها السيادة عليه قبل الفتح الإسلامي

فكان ديوان العراق وفارس يكتب بالفارسية، وديوان  الشام بالرومية، وديوان مصر بالرومية والقبطية. وكان  يتولى شئون هذه الدواوين عمال من أهل الإقليم، فكان  عمال ديوان العراق من موالي الفرس، وعمال ديوان الشام  من الروم، وعمال ديوان مصر من الروم والقبط .

وقد ظلت دواوين المال والجباية تكتب في الأقطار  المفتوحة باللغات الأجنبية المذكورة يتولاها عمال من موالي  الفرس والروم والقبط حتى كان زمن عبد الملك بن مروان.  وكانت العربية قد انتشرت بين الأعاجم وحذفها قوم منهم  إلى جانب لغاتهم الأصلية. ثم أن الدولة الأموية قد  أصبحت راجحة النفوذ في الميزان الدولي؛ هذا إلى عصبيتها  الشديدة لكل ما هو عربي، فلم يكن من الطبيعي أن تظل  دواوينها تكتب بغير العربية. واتجهت سياسة عبد الملك إلى  تعريب إدارة الدولة، وبدأ بالعملة فضربها عربية بعد أن  كانت رومية وفارسية. قال البلاذري بإسناده أن عبد الملك  أول من ضرب الذهب بعهد عام الجماعة أي سنة ٧٤.  وضرب الحجاج الدراهم آخر سنة ٧٥ ثم أمر بضربها في  جميع النواحي سنة ٧٦هـ .) ثم اتجهت عزيمة عبد الملك  وعامله الحجاج إلى تعريب الدواوين.

يروي البلاذري نقلاً عن المدائني عن أشياخه في بيان  السبب الذي من أجله نقل ديوان العراق فيقول (قالوا لم  يزل ديوان خراج السواد وسائر العراق بالفارسية، فلما  ولى الحجاج العراق استكتب زادان فروخ ابن بيري،  وكان معه صالح بن عبد الرحمن مولى بني تميم يخط بين يديه  بالفارسية والعربية. . . فوصل زادان فروخ صالحاً بالحجاج  وخف على قلبه، فقال له ذات يوم إنك سببي إلى الأمير  وأراه قد استخفني، ولا آمن أن يقدمني عليك وأن  تسقط. فقال لا تظن ذلك! هو أحوج إلي منه إليك؛  لأنه لا يجد من يكفيه حسابه غيري. فقال والله لو شئت  أن أحول الحساب إلى العربية لحولته. قال فحول منه شطراً

حتى أرى، ففعل، فقال له تمارض! فتمارض، فبعث  إليه الحجاج طبيبه، فلم ير به علة. وبلغ زادان فروخ ذلك  فأمره أن يظهر. ثم إن زادان فروخ قتل في أيام عبد الرحمن  ابن محمد بن الأشعث الكندي. . . فاستكتب الحجاج  صالحاً مكانه فأعلمه الذي كان جرى بينه وبين زادان فروخ  في نقل الديوان، فعزم الحجاج على أن يجعل الديوان بالعربية  وقلد ذلك صالحاً. فقال له مراد نشاه بن زادان فروخ: كيف  تصنع بدهويه وشيشويه؟ قال اكتب عشر ونصف عشر! قال  فكيف تصنع بويد؟ قال: اكتبه (وأيضاً) والويد النيف  والزيادة تزاد. فقال: قطع الله أصلك من الدنيا كما قطعت  أصل الفارسية! وبذلت له الفرس مائة ألف درهم على أن  يظهر العجز عن نقل الديوان ويمسك عن ذلك، فأبى  ونقله. فكان عبد الحميد بن يحيى كاتب مروان بن محمد يقول لله در صالح! ما أعظم منته على الكتاب!). ويقال إن  الحجاج أجل صالحاً أجلاً حتى قلب الديوان).

هذا عن نقل ديوان العراق وفارس. أما ديوان الشام  فيروي البلاذري أيضاً سبب نقله فيقول (قالوا ولم يزل  ديوان الشام بالرومية حتى ولى عبد الملك بن مروان. فلما  كانت سنة ٨١هـ أمر بنقله، وذلك أن رجلاً من كتاب  الروم احتاج أن يكتب شيئاً فلم يجد ماء فبال في الدواة،  فبلغ ذلك عبد الملك فأدبه، وأمر سليمان بن سعد بنقل  الديوان، فسأله أن يعينه بخراج الأردن سنة، ففعل ذلك  وولاه الأردن. فلم تنقض السنة حتى فرغ من نقله وأنى  به عبد الملك، فدعا بسرجون كاتبه، فعرض ذلك عليه،  فغمه، وخرج من عنده كئيباً، فلقيه قوم من كتاب  الروم، فقال: اطلبوا المعيشة من غير هذه الصناعة! فقد  قطعها الله عنكم! قال وكانت وظيفة الأردن التي قطعها له  معونة مائة ألف وثمانين ألف دينار) .

أما ديوان مصر فيقول الكندي في كتاب (القضاة  والولاة) في أمر نقله (وبويع الوليد بن عبد الملك. . .

فأقر أخاه عبد الله على صلاة مصر وخراجها وأمره بالدواوين  فنسخت بالعربية، وكانت قبل ذلك تكتب بالقبطية،  وصرف عبد الله بن أشناس عن الديوان وجعل عليه ابن  يربوع الغزاري من أهل حمص) (1)

ومهما يكن ما ترويه المصادر القديمة من أسباب مباشرة  لتعريب الدواوين فالذي لا شك فيه أن عبد الملك وابنه  الوليد وعاملهما الحجاج كانوا شديدي العصبية لكل ما هو  عربي، وأن الدولة قد اتجهت إلى تعريب إدارتها كما قدمنا،  استكمالاً لمظاهرة سيداتها وتوفير لكرامتها.

ولقد ترتب على هذا الحادث التاريخى الهام عدة أمور خطيرة :-

فالعربية الفصحى أفادت ألفاظاً جديدة كثيرة كما يؤخذ من ترجمة دهوية وشيشوية وويد، فهي مثال لما حصل،  بالفعل على نطاق واسع. وظهرت في العربية ألفاظ كثيرة  إما معربةأو منقولة عن أصولها الأعجمية المستعملة في  الحساب والمساحة والزراعة والتجارة والصناعة مما لم يكن  للعرب عهد به من قبل

ثم إن الأعاجم مسلمين أو غير مسلمين أقبلوا على تعلم  العربية، بعامل المصلحة الذاتية، وذلك للانتظام في أعمال  الكتابة والخراج وما يتصل بهما، ولسهولة التقاضي في  المنازعات التي كان ينظر فيها قضاة من العرب بطبيعة الحال.  وبذلك لم يكد ينصرم القرن الأول الهجري حتى كانت  العربية قد عمت أهل فارس والعراق والشام ومصر وغلبت  الفارسية والرومية والقبطية على أمرها فأخذت هذه تتضاءل  وتضمحل حتى صارت إلى الزوال أو ما يقرب من الزوال.

وبانتشار العربية بين الاعاجم واضمحلال اللغات  الاجنبية ثم ذهابها ظهرت فى الاقطار المفتوحة لهجات

عربية شعبية تبين لنا المصرية منها خاصة مجموعات البردي  التي كشفت في مصر والتي تصاحب تاريخ مصر الإسلامي  من أول الفتح العربي إلى القرن السادس.

تشتمل هذه الوثائق النفيسة على رسائل صادرة عن  ولاة مصر مثل قرة بن شريك وغيره وبعض المثقفين من  العرب ومكتوبة بلغة صحيحة فصيحة، كما تشتمل على عدد  عظيم من وثائق المبايعات والمداينات، وعقود الزواج والتمليك  والشئون اليومية؛ وهذه مكتوبة بلغة شعبية مباينة للفصحى  وفيها كثير من خصائص العامية المصرية الحاضرة، من  ذلك إبدال الضاد من الظاء في   (إحفض)  بدلاً من    (إحفظ)  وإسقاط الهمزة رسماً ونطقاً وإسقاطاً يكاد يكون  مطرداً فيقال   (ويضاً)  بدلاً من   (وأيضاً)  و   (وحد  عشر)  بدلاً من   (أحد عشر)  وعدم المبالاة بالإعراب فيقال    (اثنين)  حيث يجب أن يقال   (اثنان)  وهلم جرا. وقد  نشر جانباً من هذه البرديات المحفوظة بدار الكتب المصرية  الأستاذ المستشرق أودلف جروهمان النمسوي في ثلاثة أسفار  كبار طبعتها دار الكتب قبل الحرب الأخيرة كما وضع  جنابه حديثاً كتاباً قيماً في هذا الموضوع أسماه   (من عالم  البرديات العربية)  وقد نشرته جمعية الدراسات التاريخية المصرية

وأهم النتائج التي ترتبت على تعريب الدواوين من حيث  مستقبل الثقافة الإسلامية أن أصبحت اللغة العربية الأداة  الوحيدة للتخاطب لتتبادل الآراء والأفكار في العالم الإسلامي الذي كان يمتد إذ ذاك من حدود الهند والصين إلى سواحل  المحيط الأطلسي.

هذا، عن تعريب الدواوين وما ترتب عليه من الآثار.  أما تدوين الحديث النبوي فالمعروف أنهم كانوا طوال القرن  الأول يكرهون كتابة الحديث حتى لا يكون إلى جانب  القرآن الكريم كتاب آخر يشغل المسلمين عن تلاوته  وتدبر معانيه؛ بيد أن هذا التحرج لم يمنع نفراً من الصحابة  والتابعين أن يكتبوا مجموعات من الأحاديث لأنفسهم خاصة

لا يقصد النشر والتداول. فلما ظهرت أحاديث لا يعرفها  أعلام الصحابة والتابعين قوى الاتجاه إلى تدوين الأحاديث  الصحاح يروي الخطيب البغدادي في كتاب   (تقييد العلم)   أن ابن شهاب الزهري قال لولا أحاديث تأتينا من قبل  المشرق تنكرها ولا تعرفها ما كتبت حديثاً، ولا أذنت في  كتابته. فلما ولي الخلافة عمر بن عبد العزيز أمر ابن شهاب  الزهري بجمع السنة وكتابتها. وعن إبراهيم بن سعد قال    (أمرنا عمر بن عبد العزيز بجمع السنن فكتبناها دفتراً  دفتراً فبعث إلى كل أرض له عليها سلطان دفتراً) . ثم  استفاض تأليف الكتب في الحديث بعد ذلك حتى كانت  الكتب السنة المشهورة.

والذي نخصه بالملاحظة من هذه المظاهرة العظيمة أن  الأحاديث سواء كانت مروية باللفظ أو بالمعنى، هي في  طبقة عالية من البلاغة فأفادت اللغة من تدوينها نموذجا  للعبارة البليغة مكن للفصحى بعد المنزلة التي بلغتها بالقرآن  الكريم أي تمكين. وإن حرص المسلمين في كل عصورهم  على هذين المصدرين الأقدسين وبالغ عنايتهم بهما أقام  الفصحى على أساس راسخ لا يتطرق إليه وهن ما دام في   الأرض مسلمون وإسلام

ثم إن الأحاديث المروية عن الرسول العربي تعتبر  المصدر الثاني من مصادر التشريع الإسلامي، ومن ثم  وضعت كتب في الحديث مرتبة على أبواب الفقه كموطأ  الإمام مالك وصحيح البخاري فكان منها مادة عظيمة غذت  لغة الفقه الإسلامي وعلوم الحديث وانبعثت فيها تغييرات  ومصطلحات يعرفها من يطلع على الكتب المؤلفة في  هذين العلمين الجليلين.

ثم انتقل، إلى الحادث الثالث وهو أمر المأمون بنقل  كتب الفلسفة اليونانية إلى العربية، فأقول لما فتح العرب  بلاد الشام والعراق مصر وجدوا في أمهات مدنها مدارس  للسريان والفرس والقبط تدرس بها العلوم القديمة وخاصة

علوم اليونان وكانت هذه العلوم قد نقلت إلى السريانية في  الشام والعراق رغبة من النساطرة واليعاقبة في درسها بلغتهم  مبالغة منهم في مقاطعة اللغة اليونانية، لغة الكنيسة  البيزنطية التي انفصلوا عنها من الناحية الدينية. وكان أكثر  ما يدرس في هذه المدارس الفلسفة اليونانية وخاصة المنطق  وما وراء الطبيعة ثم الطب والنجوم والكيمياء. وقد  نقلوا كذلك كتباً عدة في الرياضيات وغيرها عن الفارسية  والهندية والقبطية والنبطية

واستمرت هذه الحال في العصر الأموي وأخذ المسلمون  يتصلون شيئاً فشيئاً بهذا الجو العلمي الذي كان يسود الشرق  الأدنى يفضل مدارس الإسكندرية وأنطاكية وقيصرية  ونصيبين والرها وجند يسابور حتى رووا أن الأمير خالد بن  يزيد بن معاوية درس الكيمياء على راهب إسكندري اسمه  ماريانوس وأنه ألف في الكيمياء ثلاث رسائل. فلما كان  زمن العباسيين الأوائل ازداد إقبال المسلمين على دراسة  هذه العلوم، وكان للخليفة المنصور ولع خاص بالطب  والنجوم فترجمت له كتب في هذين العلمين عن السريانية.  وكان للبرامكة أثر كذلك في تشجيع النقل عن السريانية  والفارسية، فلما جاء المأمون وكان ميالاً بطبعه إلى البحث  الفلسفي وآراء المعتزلة كالقول بخلق القرآن وغيره من  مسائلهم، فقد سلك مسلكاً جديداً بالمرة، إذ أنشأ في  بغداد   (بيت الحكمة)  للدرس والبحث. والظاهر أنه حذا  بيت الحكمة هذا على مثال مدارس السريان التي أشرت  إليها، ثم أنه أحب أن تنقل كتب الفلسفة الإغريقية عن  اليونانية رأساً دون وساطة لغة أخرى كالسريانية وغيرها. ويروي ابن النديم في   (الفهرست)  السبب الذي بعث  المأمون على ذلك وهو أن المأمون رأى في منامه أرسطوطاليس  وسأله بعض الأسئلة، فلما نهض من نومه طلب ترجمة  كتبه، فكتب إلى ملك الروم يسأله الأذن في إنفاذ  ما يختار من الكتب القديمة المدخرة ببلد الروم، فأجابه  إلى ذلك بعد امتناع، فأخرج المأمون لذلك جماعة منهم

الحجاج بن مطر وابن البطريق، وسلم (صاحب بيت  الحكمة وغيرهم، فأخذوا مما وجدوا ما اختاروا، فلما  حملوه إليه أمرهم بنقله فنقل. ثم أنه جعل يحرض الناس  على قراءة تلك الكتب؛ ويرغبهم في تعلمها كما يذكر ابن  العبري في كتابه مختصر تاريخ الدول

واقتدى بالمأمون كثير من رجال الدولة وجماعة  من أهل الوجاهة والثروة في بغداد، فتقاطر إليها المترجمون من   أنحاء جزيرة العراق والشام وفارس وفيهم النساطرة  واليعاقبة والصائبة والمجوس والروم والبراهمة يترجمون  من اليونانية والفارسية والسريانيةوالهندية والنبطية واللاتينية  وغيرها. وأقبل الناس على الاطلاع والبحث أيما إقبال.  وقد ظلت الحال على ذلك حتى أنه لم يكد ينتهي القرن  الرابع حتى كان قد تم نقل أهم كتب القدماء إلى العربية.

ولقد كان أثر هذا النقل الواسع المدى عظيماً بالإضافة  إلى اللغة العربية فقد نقل المترجمون مئات الألفاظ الفلسفية  والطبية والكيميائية والرياضية وغيرها إلى اللغة العربية،  مترجمين بعضها إلى ما يقابله في العربية وناقلين بعضها بلفظه  مما جعل من علماء اللغة على أن يخصوه بتأليف خاصة مثل  كتاب   (المعرب والدخيل)  للجواليقي. ومهما يكن من  شيء فقد كسبت اللغة العربية مادة غزيرة وفيرة مكنت النحاة  والمتكلمين والفلاسفة الإسلاميين من خوض مسائل  علومهم المختلفة بلغة مواتية وألفاظ دالة على المعاني التي  يريدون التعبير عنها.

وبعد فإنا إذا اعتبرنا ما أداه تعريب الدواوين إلى اللغة  العربية في مجال المصطلحات الإدارية المالية، وما أنتجه  تدوين الحديث في مجال السنة والفقه، وما أثمره نقل كتب  الفلسفة والطب والرياضة والكيمياء في ميدان العلوم  العقلية والطبيعية فإنا نجد أن اللغة العربية قد أصبحت في  القرن الرابع بحراً خضماً مما اقتضى وضع معاجم تجمع مادتها  وتشرح معاني مفرداتها. وهذا كله بفضل ما في هذه اللغة

نفسها من قوة وحيوية عجيبة , ثم بفضل السياسة التى انتهجتها الدولة بازائها على النحو الذى بيناه

وأخيراً أختم كلمتي فأقول: ما أشبه الليلة بالبارحة،  فبعد مضي أكثر من ألف سنة عادت اللغة العربية إلى  شبه الحال التي كانت عليها في أزهى عصور الإسلام. لقد  عربت دواويننا بعد أن كانت بلغات أجنبية بين  تركية وفرنسية وإنجليزية، ثم هاهي ذي حركة نقل قوية  عن اللغات الأوربية في مختلف العلوم والفنون والآداب  يقوم مجمعنا الموقر على توفير المصطلحات العربية اللازمة  لإنجاحها. وكما كانت العربية أداة التفاهم وتبادل الرأي  والفكر في الدولة الإسلامية القديمة، فإنها بسبيل أن تصبح  كذلك في عالم شرقي حديث يمتد من أقاصي إندونيسيا إلى  مراكش. وهو لعمري أوسع وأشمل من العالم الإسلامي القديم.  ولكن هذا معناه تزايد العبء الملقى على أبناء العروبة وحماة  لغة الضاد، وأخص منهم بالذكر رجال مجمعنا الموقر، أن الآمال  المعقودة عليهم في جعل العربية تنهض في المستقبل القريب  نهضتها في الماضي البعيد لآمال قوية لا يعرف اليأس إليها  سبيلاً. فإذا ما تحققت هذه الآمال وهي متحققة بإذن الله  فسيكون للعربية شأن أي شأن في نشر الثقافة العليا في  القارتين الآسيوية والأفريقية والله ولي التوفيق

اشترك في نشرتنا البريدية