الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 588الرجوع إلى "الرسالة"

ثورة على القطيع

Share

لم يقتصر نيتشه على مناهضة أصحاب النزعة العاطفية المغالية،  بل لقد حاول أيضاً أن يناهض أصحاب النزعة العقلية المتطرفة؛  فحمل على (العلماء)  الذين يؤمنون بالعلوم الوضعية ويرون  فيها شفاء ومقنعا للفكر الإنساني، وحمل أيضاً على (الفلاسفة)   الذين يؤمنون بالعقل ويعتبرونه المعيار الوحيد للحقيقة. وبين  هؤلاء الذين لا يصدرون فى تفكيرهم إلا عن  (العقل) ،  وأولئك الذين لا يصدرون إلا عن (القلب) ، وقف نيتشه  موقف أستاذه شوبنهور، فجعل الصدارة للإرادة، وقدم القوة  على الفكر والعاطفة، فالإرادة عند نيتشه هى جوهر الوجود،  وكل ما فى الوجود إنما هو تعبير عن هذه الإرادة غير أن الإرادة قد تفهم إما بالمعنى الفردى أو المعنى

الجمعي؛ وهذا المعنى الأخير هو ذلك الذى يحرص عليه  الديمقراطيون والاشتراكيون، فيخضعون الفرد للجماعة.  ولكن نيتشه يتمرد على   (غريزة القطيع) ، ويعلن سيادة  الفرد المطلقة فى نظام الطبيعة، على نحو ما أعلن رجال عصر  النهضة

وقد انقسم عصرنا الحاضر كله إلى طائفتين: طائفة  الاشتراكيين، وطائفة الفرديين؛ وهاتان الطائفتان قد  تشكلت كل منهما فى نهاية الأمر بصورة   (إنسانية) .  أما النزعة الرومانتيكية فإنها فى الواقع قد اتجهت إلى عبادة  الشخصية، وإن كانت قد قدست على وجه الخصوص تلك  التى لا تخضع إلا لقانونها فقط، أعنى تلك التى لا تتقيد  إلا بالشرعة التى استنتها قوتها الخاصة، متمثلة فى  الهوى المنطلق، أو الإرادة التى لا ضابط لها. وقد ترتب على  هذه النزعة، أن ظهرت الفردية المتطرفة التى أفضت فى النهاية إلى ظهور المذاهب   (الفوضوية) . ووجدت فى الوقت نفسه  نزعة رومانتيكية اشتراكية وديمقراطية، على يد بيير ليروه،

وفيكتور هيجو، وجورج صاند، وميشيليه؛ وهذه أشاعت  فى المجتمع مبادئ السعادة، والحرية الشاملة، والإخاء،  والمساواة. إلى آخر تلك المبادئ التى نادت بها الثورة الفرنسية.  أما نيتشه فقد رأى فى كل هذه النزعات انحرافاً وانحلالاً، ولذلك  فقد عاد إلى النزعة الفردية البدائية، ونصب   (الأنا)  أو  الذات، ضد المجتمع بأسره. وبدلا من تلك الديمقراطية التى  تتهدد بالمساواة بين الجميع ومحو كل الاختلافات والفروق،  أو تلك الاشتراكية الشعبية التى تفنى الفرد لحساب المجتمع،  نجد نيتشه يدعو إلى أرستقراطية جديدة يعارض بها كل تلك  المذاهب الديمقراطية والاشتراكية والفوضوية، ويعتبرها سبيل  الخلاص الوحيد، فيستبدل بالرجل المتوسط المساوى لغيره من  الناس، الرجل الكامل أو   (الإنسان الأعلى) Uermensch والرجل المتوسط الذى يحمل عليه نيتشه هو ذلك الإنسان

الوضيع الذى ينساق مع القطيع، على طريقة خراف بانورج(1)  Les moutons de Panurge أما ذلك الذى ينطوى على  نفسه، ويفزع إلى الوحدة لكى يعيش كالنجم الغارق فى السكون،  فهو فى نظر نيتشه الرجل القوى المبدع:   (إن الأحداث العظيمة  لا تنشأ إلا بعيدا عن الجماهير والأمجاد، فكل من ابتدعوا  القيم الجديدة قد انتبذوا لأنفسهم مكانا قصيا، على منأى  من العامة، وبعيدا عن الأمجاد)  والرجل الممتاز إنما هو ذلك  الذى يهرع إلى الوحدة، وينفرد بنفسه، لكى يحيا كتلك    (الدوحة التى تشرف على البحر فى سكون، وتصغى إلى هديره  فى صمت) !

لقد يصرخ به القطيع قائلا: (إن من فتش فقد ضل،  وما الوحدة إلا خطيئة) ، ولكنه يمضى غير آبه بصوت القطيع  الذى يهيب به، لأنه يعلم أن صوته نداء العبودية يستصرخه  أن يبقى، وصوت الوحدة نداء الحرية يستصرخه أن ينطلق!  اجل، إن الرجل الممتاز لم يخلق لكى يسير وراء القطيع،  بل لكى يكون ثورة على القطيع، ونارا حامية تصلى بها  الجماهير! فليس على الرجل الممتاز أن يخضع لحكم العامة، بل  عليه أن يخضع لحكم نفسه فحسب. وليس من واجب الرجل  المبدع أن يأخذ بما يمليه عليه قانون السواد الأعظم، بل إن من  واجبه أن يتخذ من إرادته قانونا له، فيشرع لنفسه الخير والشر.  وليس ينبغى للرجل القوى أن يمد يده متسرعا لمصافحة من  يلتقى به فى طريقه، بل ينبغى له إذا التقى بتلك الحشرات التى  يتحلب ريقها بالسم، أن يسارع إلى وحدته، حتى لا تمتد إليه  السموم الخبيثة التى تنفثها حشرات المجتمع! فالرجل الممتاز إذن هو ذلك المتوحد الذى يعتزل الناس

لكى يعيش بعيدا عن المجتمع، منطويا على نفسه؛ وأما الرجل  الضعيف فهو ذلك الذى يشعر بحاجته إلى الاجتماع بالناس،  والانضمام إلى القطيع. ولذلك يقول نيتشه: إن الأقوياء ينزعون  إلى الانفصال والتفرد، على حين ينزع الضعفاء إلى الاتحاد  والتجمع. والرجل الممتاز - كما يقول زرادشت - هو ذلك  الذى ينفر من المجتمع، ويأنف من الجماعة، ويحلق بجناحيه  فوق السحاب، فترمقه أعين الحاسدين، وترشقه نظرات  الحاقدين. وليس بدعا أن يثور الناس على مثل هذا الرجل،  فإن من دأب العامة أن تتمرد على كل رجل مبدع يعزف بنفسه  عن غمار الناس:   (إنك لتعلو عليهم وتسمو فوقهم، ولكنك  كلما ازددت علواً، ازددت صغاراً فى أعينهم الحاسدة. أما ذلك  الذى يحلق بجناحيه فوقهم، فليس أبغض إليهم منه) !

ولكن، أليس الإنسان حيوانا اجتماعيا يميل إلى التجمع  بفطرته، وينفر من العزلة بطبيعته؟ ألم يقل أرسطو إن حياة  العزلة لا تتهيأ إلا لإله أو حيوان؟ إذن فكيف يزعم نيتشه  أن (الرجل القوى)  هو   (الرجل المتوحد) ؟ وكيف يذهب  إلى أن الضعفاء هم الذين ينزعون إلى الاتحاد والتجمع؟. يجيب  نيتشه على هذا فيقول: إن الإنسان حيوان مفترس متوحد،  فالأقوياء الذين هم سادة النوع البشرى يميلون بالضرورة إلى  العزلة والتفرد، وينفرون من كل نظام يضطرهم إلى الاتحاد  والتجمع، وبعبارة أخرى فإن الحياة الاجتماعية فى نظر نيتشه  معارضة للطبيعة، لأن الإنسان حيوان غير اجتماعى بفطرته.  وإذا كان الأقوياء قد يكونون مجتمعا فى بعض الأحيان،  فإن ذلك يرجع إلى رغبتهم فى القيام بحركة عدوان مشترك،  يرضون بها إرادة السيطرة التى توجد لديهم جميعا. ولكن  شعورهم الفردى فى معظم الأحيان، ينفر من تلك الحركة المشتركة،  ويتأذى من ذلك العمل الجمعي. أما الضعفاء فإنهم يرتبون  أنفسهم فى طبقات متلاصقة، إرضاء للحاجة التى يشعرون بها  نحو هذا التجمع، وبذلك تلقى غريزتهم لذتها القصوى الكاملة

ولكن، هل من الحق أن التجمع دليل الصعف؟ أليس  التاريخ الطبيعى شاهدا على فساد هذا القول؟. . . إن الواقع  أن الحيوانات التى توجد لديها   (غريزة القطيع)  قد استطاعت

أن تخرج من معركة تنازع البقاء ظافرة منتصرة بينما خرجت  الحيوانات المتوحشة مغلوبة منكسرة. وهاهى ذى الحيوانات  القوية تعيش جماعات، فتكون القردة لنفسها أسراً، على  الرغم من أنها لا تقل فى ذكائها عن النمورة والفهود. وهاهو ذا  التاريخ يظهرنا على أن الإنسان القديم لم يكن يعيش وحده،  بل كان يعيش فى مجتمع. فليس من الصحيح إذن أن قوة  الكائن الحى هى التى تولد فيه الميل إلى الوحدة والتفرد، بل  الصحيح أن الكائنات القوية تجنح إلى الاتحاد والتجمع، وتنفر  من الانفصال والتفرد. وهل كانت الفيلة حيوانات ضعيفة،  لأنها تحب الاجتماع؟ أو هل كان رجال   (ما قبل التاريخ)   ضعفاء، لأنهم كانوا يميلون إلى التجمع، كما سبق لنا القول؟. . .  إن سيد الكون الذى دان له كل شيء فى الطبيعة، والذى قهر  سائر الأجناس الحيوانية ولا يزال يقهرها، إنما هو   (الإنسان)   الذى يعتبر الحيوان الأول بين طائفة الحيوانات القطيعية؛ فهل  علينا من حرج إذا قلنا إن الإنسان حيوان اجتماعى بفطرته؟

لقد أراد نيتشه أن يتمرد على المجتمع، لكى يقتصر على  عبادة الذات وتقديسه، ولكن هل نسى نيتشه أن ما يسميه

(ذاته)  إنما هو فى جانب كبير منه، تراث اجتماعى تعاقبت  على تكوينه الأجيال؟ فماذا عسى أن يكون نيتشه، وماذا عسى  أن تكون ذاته، إذا جردناه من كل ما وضعه فيه الآخرون،  وإذا استبعدنا من نفسه كل ما أودعه فيها المجتمع؟ إن نيتشه  حين يتوهم أنه يتأمل ذاته، فهو فى الواقع إنما يتأمل العالم كله؛  وهو حينما يظن أن فى إمكانه أن ينفرد بنفسه ويعتزل الناس،  لا يزال بالرغم من ذلك محتفظا فى أعماق نفسه بكل أصداء القرون  الخالية. ففى أبعد أغوار نفسه - مهما تنكر للماضى - ترن  أصداء الأجيال الغابرة. وهل يستطيع الفرد أن يفكر إلا إذا  استعان بأفكار السابقين، واستند إلى أعمال المتقدمين؟ إذن  فمن الجهالة والعقوق، أن يتنكر الإنسان للجنس البشرى كله،  وأن يكفر بكل شيء، اللهم إلا فرديته وما يجيء معها من أثرة  وعجب وحمق وغرور! ولو أن نيتشه تدبر الأمر فى جو حر  لا تفسده نزعة أرستقراطية متطرفة، لما تردد فى أن يقول مع  جو يو Guyau  (أنا لست ملكاً لنفسي؛ لأن كل موجود  ليس بشيء من غير الكل. فالموجود بمفرده لا شىء!)

اشترك في نشرتنا البريدية