الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 683الرجوع إلى "الثقافة"

ثورة مصر على الاستعمار، تقترب من مرحلتها الحاسمة

Share

ينكر كثيرون منا الثورة الصادقة التي يشنها شعب مصر في سبيل استرداد حريته وكرامته ، مدعين علم ما لا يعلمه سواد الناس ، فهم يسخرون بالمتفائلين على زعم أن هؤلاء يبنون تفاؤلهم على العاطفة الجامحة التي تبعد بأصحابها عن الحقائق ، إذ كيف تنجح الثورة المصرية والقائمون بها يواجهون ، وهم قلة ضعيفة غير معدة للقتال ، جيشا فى مرما دوخ الأمصار وكون يأسه الذى لا يقل إمبراطورية لا تغيب عن أصقاعها الشمس .

يحسب أولئك القوم أنهم قلة من العقلاء الممتازين محاطة بشعب جاهل جن جنونه ، وطاش صوابه ، فصار لزاما عليها أن تلمس السبل لترد ذلك الشعب عن غيه ، وتعيد صوابه إلى نصابه ، وتبصره بالواقع الواضح الذي طمس الطيش الجامع الجائح معالمه ، بحسب أولئك القوم أنهم واقعيون لا تخدعهم زخارف الأهواء وأن عفلة الشعب التأثر عن الواقع توشك أن تنحدر به إلى محنة لا يدرك أهوالها غير الذين أوتوا مثلهم البصيرة الواعية النفاذة .

ونحن نود أن نحسن الظن بنيتهم ، فلا تتهم وطنيتهم ،

ولكننا لا نستطيع أن نبرئهم من وصمة الغفلة ، فهم غافلون عن حقيقة الواقع ، وترجع غفلتهم إلى انخداعهم فى ظاهر الواقع ، فالحقيقة تكمن على الأغلب وراء الظواهر الخداعة ، ومادمنا نفترض فيهم حسن الظن فسنحاول هنا إقناعهم بخطئهم الجسيم ، ولن نلجأ إلى المقارنة بين قوة شعب يتجاوز عدده عشرين مليون نسمة ، أفاق بعد رقاد طويل ، وأدرك ما لحقه من غبن ، فهب يطالب بحقه الهضوم ، ويدفع عن نفسه الذلة والضيم ، ويحطم أغلال الاستعباد ، وبين قوة جيش محتل يجد نفسه محاطا بأعداء صمموا أن يقضوا مضاجع رجاله ، فيقطعوا خطوط غويتهم ، ويمنعوا عنهم الزاد ، ويتصيدوا منهم من تصل إليه أيديهم ، ويحرمونهم الراحة والطمأنينة . أن تلجأ إلى هذا القول المعاد الذي يصح أن يكون موضع جدل ، ولكننا سنلجأ إلى تاريخ الصراع الذي نشب بيننا وبين المستعمرين ، وسيعلم الذين لا يعلمون من استعراض مراحل ذلك الصراع مبلغ توفيقه ، ومقدار الشوط الذي قطعه في سبيل الغاية المنشودة . وستظهر

لنا بشائر المستقبل من وراء ذلك الاستعراض الدال على ما تخبئه الأيام .

إن كل موجود متطور ، ومعنى ذلك أن لكل موجود تاريخا ، ونحن لا نستطيع أن ندرك أى موجود على الوجه الصحيح إلا إذا أدركنا تاريخه ، والخطأ الذى يقع فيه الناس لدى حكمهم على الأشياء أنهم يغفلون تاريخها ، ويعزلونها عن ماضها ، وعن ملابساتها ويمنحنونها على أنها قائمة بذاتها لا يعتورها تبديل أو تغيير ، وهذا الخطأ يقع فيه أولئك الذين يدعون للمعرفة ، ويتوقعون لثورتنا الصادقة الإخفاق . وللاستعمار الغاشم الانتصار .

إن الذي يحكم على الظاهر دون التغلغل إلي ما وراءه لا يقل غفلة عن الذى يحكم على الحاضر دون الإلمام بماضيه ، فما دام كل شئ يتطور ويتبدل كل لحظة ، فالحكم عليه فى لحظة من اللحظات دون ما التفات إلى تطوره لا يمكن أن يصب الحقيقة ، لأنه يقع على مظهر كان متعثرا قبل الحكم ، وسيعثوره تغير جديد بعده . وليس إلحاحا على القارئ فى سبيل إيضاح هذا الرأى إلا لما له من آثر حاسم فى تصويب حكم الناس على الأشياء . ولعل المحاولة التى سنبذلها فى هذا المقال لتدرك حاضر ثورتنا من استعراض المراحل التي مرت بها ، والتغيرات التى طرأت عليها ، ستؤيد ما نقول .

استبد اليأس بقلوب المصريين في أول عهدهم بالاحتلال البريطانى البغيض . فقد أحدث احتراق الإسكندرية بمدافع الأسطول المعتدى ، وانهزام الجيش المصري بفعل الخديعة والخيانة أثرهما البليغ . لقد حسب أهل مصر بعد احتلال العداة الغزاة البغاة للقلعة ، وبعد قبضهم على زمام الحكم في البلاد أنهم أصيبوا بغية لا أمل في انكشافها ، وراق الطغاة المعتدين أن يروا الجزع مستوليا على الأهلين فزادوهم تخويفا وإرهابا ، واطمأنوا إلى أن ذلك العسف والجور سيحول دون انبثاق أمل جديد ...

ولكن خيوط الأمل الجديد أخذت تنبثق رغم حيطة المستعمرين . فإن السخط المكبوت على الاستعمار وجد بعد

قليل متنفسا بين طلبة الحقوق . ولم يلبث أن قام من بينهم مصطفى كامل مطالبا بحث بلاده المهضوم فى الحرية والأستقلال ، ومعبرا عما يجيش في صدور زملائه الطلبة ، بل ومواطنيه أجمعين من تبرم بالاحتلال ، وتطلع إلى رفع نيره وتحطيم أغلاله . وأن تعليل فى الحديث عن تلك الحركة الوطنية الرائعة ، فلا تحسب أحدا يجهل أمرها ، ولكنا نلحظ أنها انحصرت في التعبير عما كان يعالج صدر كل مصرى ، أي أنها قامت على الخطابة والكتابة فلم تتمد حدودهما . وقد حاولت أن تفوز بعون فرنسا وتركيا لتحقيق أهدافها ، ولكن محاولتها فى ذلك الميدان لم تكد تحرز نجاحا .

وما حل عام ١٩١٩ حتى كانت نواة تلك الحركة قد أثمرت وأسفرت عن الثورة التي خمدت شوكة الاستعمار وصدعت أركانه . لم تقم بتلك الثورة الطبقة المثقفة وحدها . بل قامت بها الأمة جمعاء ، ولم يكتف القائمون بتلك الثورة الشاملة الجارفة بإلقاء الخطب وتحبير الصحف ، ولكنهم قطعوا المواصلات ، وخربوا المنشآت ، وأضربوا عن العمل ولجأوا إلى التجمع والسير في مواكب صاخبة تهتف متوعدة الاحتلال ، ومطالبة بالاستقلال ، ولم يلجأوا إلى دولة أو دولتين يستجدون منهما العون . ولكنهم أوفدوا وفدهم إلى مؤتمر الصلح بعد الحرب الكبرى معلنا على الملأ حق مصر فى استرداد حريتها الكاملة .

ولم يعدم ذلك العهد عقلاءه الذين لم يكفوا عن الإهابة بالشعب الصري الثائر أن يقلع عن ثورته التي توشك أن توغر صدر الاستعمار فيبطش به ويقضى عليه ! ولكن الشعب لم ينصت حينذاك للعقلاء البلهاء ، واستسلم لجنونه الذي ظهر فيما بعد أنه عين الرشد ، وظلت ثورته على أشدها حتى أسقط في يد الاستعمار المجهز بالجبوش الجرارة ، فاضطر إلى بذل جهد الجبابرة لإرضاء التأثرين بعد عجزه عن أخذهم بالشدة والبطش ، وحين اصطدم بإصرارهم على نيل حقوقهم كاملة اضطر إلى التسليم ببعض تلك الحقوق بإعلان صادر من جانب واحد ، أى منه دون المصريين ، ذلك الإعلان الذى عرف بتصريح ٢٨ فبراير .

وظلت الثورة الوطنية تشتد وتستفحل حتى وصلت إلى مرحلة جديدة من مراحل التطور ، فلم يعد المصريون يتخيرون الوسائل لتحقيق أهدافهم ، بل لجأوا إلى كل وسيلة دون ما تنظر إلى سلامتها من الناحية الخلقية أو الشرعية . وظهر الفدائيون الذين طفقوا يتصيدون من يصل إليه رصاصهم من رجال الاستعمار ، وبلغ بهم الأمر كما هو معلوم إلى قتل السردار ؛ وما وصل الأمر عند هذا الحد حتى تجاوز هلع العقلاء كل مدى ودوت صيحاتهم المتشنجة في الفضاء تندد بالفدائيين ، وتكيل لهم أقبح النعوت ، وتحملهم مسئولية الكوارث التي ستحل بالبلاد على يد الاستعمار الغاضب ، وكان غضب المستعمرين قد بلغ بالفعل غايته ، فدفعهم إلي ارتكاب سلسلة من الحماقات زادت وطنية المصريين اشتعالا ، وزادت موقف الغاصبين حرجا ، وقد وقع أولئك الغاصبون في نفس الخطأ الذي وقع فيه عقلاؤنا ، فلم يلتفتوا إلى التطور الذي طرأ على المصريين ، وحسبوا أنهم سيرهبون الأسطول البريطانى كما رهبوه على أثر إطلاق قنابله على الإسكندرية وإحراقها ، ولكن تردد البوارج والمدمرات البريطانية على الموانىء المصرية مهددة متوعدة لم يبعث الرعب إلا فى قلوب السادة العقلاء .

ومن السذاجة أن يظن أن الاستعمار ينكص خطوة إلى الوراء غير مرغم ؛ فالاستعمار لا يرحم ، ولا يجامل ولا يعقل ، لأنه يقوم على استغلال الشعوب وامتصاص دمائها وهو لا يجهل أن خطوة واحدة يخطوها إلى الوراء تعرضه للانهيار التام ، بل إن توقفه عن توسيع دائرة استقلاله يعرضه للأنحلال . ولذلك تراه يزداد جشعا ، ولا يكف عن الجري وراء مضائم جديدة ، فإذا صدر منه تصريح ٢٨ فبراير فقد صدر ولا شك قسرا عنه . وفى عام ١٩٣٦ اضطر تحت وطأة عباب الوطنية المصرية إلى إبرام تلك المعاهدة التي لم تكن هى كذلك إلا حلقة من حلقة تطور النهضة المصرية ، أو حلقة من حلقات التدهور الاستعماري .

ظلت ثورة الشعب المصري فى مد ، وسيطرة

المستعمرين الإنجليز فى جزر ، حتى انتهى الأمر تهيؤ مصر لتخطو الخطوة النهائية فى سبيل استقلالها . فبدأت إعلان إلغاء المعاهدة المبرمة عام ١٩٣٦ ومعاهدتي السودان ، فقطعت كل صلة تربطها بانجلترا . وأخذت تستعد لمناجزة جيش الاحتلال لتجليه عن أراضها ، فهرع شبابها إلي المعسكرات لينالوا قسطا من التدريب العسكري ، ثم لم يلبث من استعد منهم أن سافر إلى القنال ليقاتل جيش الاحتلال . وكلنا يعلم ما جري اليوم هناك بين الفدائيين وبين الغاصبين . وكلنا يري حماسة المصريين تزداد ، وإقبالهم على التدريب بشتد ، وتصميمهم على طرد جيش الغاصب من أرض الوطن يتضاعف . فالذى يريد أن يحكم اليوم على الصراع الناشب في القنال ، وأن يستشف نتائجه لا يستطيع أن يصل إلى الحقيقة المقارنة بين قوى الفريقين المقتتلين العسكرية . ولكنه يستجلها إذا رجع إلى تاريخ ذلك الصراع وتتبع مراحله على نحو ما فصلناه فى هذا المقال ، وتبين منها ما يأتى :

أن عنف الاستعمار ، وخنقه للروح الوطنية المصرية بالحديد والنار ، لم يحل دون ترعرع تلك الروح واشتدادها إلى درجة أنها توشك اليوم أن تقضى عليه .

وأن المظاهرات التى بدأت عام ١٩١٩ ، وما أعقبها من تدمير وتخريب ، انتهت إلى تصريح ٢٨ فبراير سنة ١٩٢٢ .

وان الاغتيالات السياسية واشتداد الروح الوطنية انتهت إلى معاهدة ١٩٣٦ .

وأن المظاهرات الدامية التى أسفرت فى كثير من الأحيان عن اشتباك المتظاهرين بالقوات الإنجليزية انتهت إلى انسحاب جيش الاحتلال من المدن المصرية إلى القنال .

وأن الذي يجرى اليوم فى منطقة القنال ليس مجرد خطب ومقالات ، أو صخب ومظاهرات ، أو حفنة من الاغتيالات ، ولكنه قتال ينشب كل يوم بين أبناء مصر وبين أعدائها ، وأن عدد المشتركين فيه من أبناء مصر يزدادون ، وأن شدته تستفحل .

( البقية على الصفحة التالية )

هذه هى خطوات التطور ، وهذا هو اتجاه سيره . فكيف يشك إنسان فى النهاية التي سينتهى إليها بعد أن وضحت هذا الوضوح !!..

وإذا كنا لا نستطيع أن ندرك أى شئ على حقيقته إلا إذا امتحناه على أنه متطور ، فإن علمنا به يظل كذلك ناقصا إذا لم تمتحن ظروفه وملابساته إلى جانب تطوره التاريخي . وإن الظروف والملابسات التي تحيط بنا اليوم تلائم الصراع الغائم بيننا وبين الغاصب ، وتشد من أزرنا . وتقرب إلينا النصر ، وبيان ذلك أن الدول لم تبد فيها مضي أى اهتمام بمقاومتنا للاستعمار . بل إنها كانت تؤيده فى أكثر الأحيان تحقيقا لمصالحها . وقد أصمت أذنها فلم تنصت إلي توسلات مصطفى كامل ، ومحمد فريد ، أو ندءاآت سعد زغلول ... وعلى الرغم من ذلك فقد استطاعت مقاومتنا

للاستعمار أن تنال منه .

ولكننا نلفت اليوم حولنا ، فنرى غيرنا من الأمم الواقعة فى قبضة الاستعمار تغالبه وتصارعه ، فيشد ذلك من أزرنا ، لان اتساع الجهة المقاومة للاستعمار تزيده ولا شك ضعفا . إننا ننادى اليوم فيتردد صدي ندائنا فى أصقاع الدول الشقيقة ، والدول الشرقية المحبة للسلام . لقد دوخنا الاستعمار البريطاني يوم قاومناه وجدنا مقاومة سلبية ، فكيف يكون حاله اليوم ونحن نقاومه بالسلاح متكاتفين مع الدول الأخرى المناضلة مثلنا فى سبيل الحرية ، ومع الدول المحبة للسلام !!..

ولعل الحقيقة تكون قد وضحت للذين يخلطون بين الظاهر الخادع وبين الواقع ، ويتهمون غيرهم بالغفلة وهم الغافلون .

اشترك في نشرتنا البريدية