الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 590الرجوع إلى "الثقافة"

جامعة الدول العربية

Share

يتجدد الحديث عن جامعة الدول العربية في هذه الفترة مع انعقاد الدورة الحاضرة لمجلس الجامعة ، ويوشك أن يكون هذا الحديث مستطيلاً على مدار الأيام منذ كانت كارثة فلسطين ، فلا يكاد يمر أسبوع إلا وتكون أحداث أو وثائق أو مشروعات في مصر وغير مصر تستثير هذا الحديث وتبعث به على صفحات الجرائد والمجلات

وكل ما ينشر عن الجامعة العربية يوشك أن يكون منصباً في التشكى والتمني : التشكي من الروح التي تعالج بها القضايا العربية ، ومن تعرج الطرق ومن تباعدها حيناً ، والتمني أن ينتهي ذلك بعد هذه السلسلة من التجارب المريرة ، إلى بناء سليم تتعاوره أيدى العرب جميعاً بالبناء والتقوية لا بالآثرة والاستثمار .

غير أن الذي يلفت النظر في هذه الدورة أن أصواتاً ارتفعت قبل انعقاد المجلس تنادي بفض الجامعة حيناً . وانتهاج مصر سياسة مصر أولاً ، أو السياسة المصرية الخالصة ، والعمل على التخفيف من قيودها والتزاماتها نحو جاراتها العربيات ، وقد رافق هذه الدعوات وزاملها سلسلة من الوثائق التى نشرتها الصحف توشك أن تقطع بقيام صلات ومفاوضات ، بطبعها الود ، بين إحدي الدول العربية وبين زعماء إسرائيل .

وكذلك نري أن مجلس جامعة الدول العربية ينعقد في جو صاخب مترب ، يملأ صخبة الأذن ، ويسد ترابه الافق ،

وتثور فيه رياح ساخنة لا تدع مجالاً لتنفس هادئ عميق . فماذا سيكون موقف المجلس في معالجة الأوضاع القلقة ؟ أينتهي إلى رأي وعمل فيها ، أم سيكتفى بإدارة الحديث حولها ؟

لندع قصة الأزمة التي واجهت المجلس في أيامه الأولى ، فالمستقبل وحده يكشف عما كان بين يدي هذه القصة وما كان من خلفها يدفعها أو أمامها يجذبها ، والمستقبل وحده يكشف بوضوح عن الخطأ في هذا الاتجاه أو صوابه ، فليس هناك سبيل إلى الحديث عن هذه الآزمة بعد أن وفق المجلس إلى أن يظهر أمام الناس أنه استطاع أن يتغلب عليها أو يقهرها .

وأمام المجلس طائفة من الأمور في جدول الأعمال يبدو أن أولها وأهمها مشروع الضمان الجماعي والمشروعات الأخرى التى قامت من حوله . . وأهميته لا ترجع إلى بنوده فحسب ، بل إلى ما ينتظر أن يكون منه من حيث إنه تصفية لوجهات النظر المختلفة بين الدول العربية وإقرار للتعاون بينها على أكمل وجوهه .

وما يستطيع أحد أن يتنبأ كيف ستكون معالجة هذا المشروع في هذا الجو الذي تنقله النوايا الحذرة وتتوجس فيه النفوس ، وما يدري أحد كيف توفق الحكومات فيما بينها إلى دراسته وإقراره ، وهو مشروع يقوم أول ما يقوم على الرغبة البعيدة في التعاون من نحو وعلى الاستعداد

للتنفيذ من نحو آخر ، وهي الصفاء الصافي فيما بين الدول الأعضاء  .

وأخشى ما نحشاه ، كمواطنين ، كل آمالهم في عالم عربي موحد الهوى واللسان ، أن يدرس المشروع دراسة سريعة فجة ، وأن يقر إقرارا مظهرياً ، ثم يقدم للعالم العربي على أنه ثمرة هذه الاجتماعات المتتالية .

والرأي العام اليقظ في العالم العربي يتملكه الحذر أن يكون المشرفون على شئون الحكومات العربية يحاولون أن يتخذوا من إقرار الضمان ستراً للفشل الذي منيت به السياسة العربية لا علاجاً لها . . أعني أن يخرج مشروع هذا الضمان من أن يكون ضماناً حقا ، وان يكون دفعاً نحو العمل واتجاهاً إلى الحركة وتنظيما للجهود . إلى أن يكون رداء مزخرفاً يلقي به فيما بين الناس وبين الكارثة فيشغلون ، عنها ويتلهون بزخارفه عن سمها الويل .

إن العالم العربي لا يريد أي مشروع من أية حكومة ما لم يكن وراءه ضمانات صحيحة قوية واضحة لتنفيذه . . إنه بعد يطبق تناول هذه المسكنات التي تتالي عليه في كل دورة لمجلس الجامعة ، والتي شغلته - بالرغم من أن الدماء لم تجف في أرضه - عن التماس أسباب الداء الحقيقي ومعالجتها . وإنما صرف عن ذلك إلى نوع من الجدل والنهائر ، قد يستطيع المتفائلون أن يروا فيه بعض الحيوية والتنبه ونشدان الأفضل ، غير أن أشد المتفائلين لا يستطيع إلا أن يقول إنه نهائر ذهب بالغابة وأضاع الهدف وأرجع الوحدة التي ينشدها الكل إلى خلاف يقع فيه الكل .

ليس مشروع ما إذن ، أي أثر بعيد في مستقبل الجامعة العربية ، أو أثر يعيد في نفس المواطن العربي ، إذا لم يولد ولادة حقيقية ، وإذا لم تتبنه الحكومات العربية تبنياً قائماً على الرعاية ، فتصله وصلاً محكماً بسياستها الداخلية والحارجية ، وتقرر له جانباً من مواردها المادية والأدبية ، وتتيح له أن يعيش جزءا منها من نحو ، وجزءاً مشتركا بينها وبين شقيقائها من نحو . . فأما أن يكون مشروعاً يكتب اليوم

لينسي غداً ، وأما أن يكون مشروعاً تتدارسه هذه الحكومات لتتفي به نيران هذا الغليان الكامن في كل قطر ، ولتطلع به على المواطنين العرب تلطيفاً لمشاعرهم وتصريفاً النشاطهم . . أما أن يكون هذا أو ذاك ، فإنه من الخير لجامعة الدول أن لا تتعرض لهزة جديدة ليس في وسعها أن تطيقها .

إن مجلس الجامعة يعرف أنه ينعقد في دورته الثانية عشرة وهو يعرف أن هؤلاء العرب الشاغرين بأنفسهم لا تملؤهم أية عصبية لأية فكرة بعينها ، وإنما تملؤهم العصبية لشئ واحد ، هو : التقريب بينهم في ميدان العمل المشترك ضد العدو المشترك ، والاندفاع في هذا الميدان في قوة وتصميم . . وهذه الفكرة وحدها هي التي تعيش في رأس الإنسان العربي ؛ فمواجهته بغير ذلك ، ليست خطأ سياسياً فحسب ، ولكنها قد تصل إلى حدود الجريمة في مستقبل هذا الوطن العربي .

فلنخرج إذا بالنتيجة الواضحة العاملة الدافعة . . فإن لم يكن ، ثمن الخير لنا أن نواجه الحقيقة بكل بشاعتها ، من الخير أن نقول لهؤلاء الذين يعيشون في قلق في كل أطراف العالم العربي : إننا لم نستطع . فذلك أبقي من أن تخدعهم بيانات وقرارات لا نعرف ما مستقبلها . إننا نريد أي مشروع ليكون دفعاً للقوى العربية وضبطاً لها واتجاها مشتركا بينها ، وتخشى أن تكون المشروعات في جامعة الدول اشبه بصمام الأمن في الآلة ، إنما ينفتح ليحول بينها وبين الانفجار . . تريد أى مشروع قوة وتعاوناً وحراباً في وجه أعدائنا في الداخل والخارج ، لا حراباً تكسر بها حدة المشاعر ورغبة الانطلاق .

وما لم يكن ذلك ، فإن الفكرة العربية توشك أن تخسر كثيراً من مقوماتها ، وفي مصر بوجه خاص .

فعلي الذين بشرفون من قريب ومن بعيد على دوائر الجامعة والذين يحملون أمانتها ، وعلى الذين سافروا وخلفوا وراءهم بلادهم يأكلها القلق . . على هؤلاء جميعا أن يدركوا هذا .

( القاهرة )

اشترك في نشرتنا البريدية