لا يسع الباحث - مهما أغفل من الشخصيات الجحوية في أرجاء العالم وهي كثيرة كما رأيتم - أن يغفل الحديث عن (تل) جحا الألمان الملقب: ب (مرآة البومة) .
فنحن إذا تركنا الشرق الذي أبدع فيما أبدع من أعلام الفكاهة الشرقية: هذين الجحوين الفاتنين: الشيخ (أبا الغصن دجين بن ثابت) والأستاذ (نصر الدين)، وانتقلنا إلى ألمانيا رأينا شخصية جحوية ثالثة تظهر في العصر الذي ظهرت فيه شخصية
الأستاذ (نصر الدين) أعني في القرن الرابع عشر الميلادي، وهو رجل شديد الشبه بجحا التركي، يكاد يكون - في كثير من أحواله - نسخة مكررة له، إن لم يكن على التحقيق.
وقد نشأ (تل) : جحا الألمان، كما نشأ صاحبه الأستاذ نصر الدين: جحا الأتراك فلاحاً يحرث الأرض ويزرعها.
وقد ولد (تل) في مدينة ( كنيت لنجن kneit lingen ) من أعمال (برنزويك Brunswick ) ومات في (مين Molln ) بالقرب من (سليسفج Sbossiuig ) عام ١٣٥٠. قالوا:
وكان كثير السياحة والتجوال على قدميه في أنحاء ألمانيا، ولم يتجاوز (تل) منتصف العقد الثاني من عمره حين مات أبوه في مدينة (هللى Holle ) عاش (تل) و (نصر الدين) كلاهما في عصر واحد، كما ترون، في بلدين متباعدين، من قارتين متجاورتين.
وقد أطلق عليه لقب (مرآة البومة) ، وهو لقب بارع الدلالة رائع المغزى. فإن البومة - برغم إجماع الناس - مهما تباينت أجناسهم وعصورهم - على النفرة منها، واستنكار صورتها - لا ترى في المرآة إلا وجهاً طبيعياً ليس به ما ينكر، ولا فيه ما يعاب. وهو لون مبتدع للتعبير عن الحكمة المأثورة الخالدة: (إن المرء لا يرى عيب نفسه) .
وقد شاء بعض الباحثين أن يميز (تل) ذلكم الفلاح الذكي بقسط موفور من الغفلة، كما حلا لآخرين أن يعزوا إليه شيئاً قليلا من الخبث. واستدل بعضهم على ضيق ذهنه وموفور غفلته، بما يؤثر عنه من المغالاة في تطبيق ما يسمع تطبيقاً حرفياً، والوقوف عند مدلول الألفاظ الحرفي، غير معنى بما تنطوي عليه في أثنائها من دلالات حقيقية كانت أم مجازية .
وقد أفتن المتخيلون في نسبة كثير من الطرائف إليه في هذا الباب تمثل - أكثر ما تمثل - ألواناً من آراء متخيليها وروح الدعابة الأصلية في نفوسهم .
ولكن أي الشخوص الجحوية سلم من أمثال هذه الغمزات ؟
على أن سواد الباحثين يذهبون - في غير مغالاة - إلى أن (مرآة البومة) كان فلاحاً ذكياً مستقيم الفطرة، وأنه لم يلجأ إلى التشبث بحرفية ما يلقى إليه من حديث، إلا رغبة في السخرية من غرور سكان المدن المتحضرين الذين لا يستطيعون إخفاء
ما يضمرونه من احتقار لأمثاله من الفلاحين.
ويستدلون على ذلك بقصته مع الخباز، وإليكم خلاصتها فما يتسع الوقت لغير الخلاصات.
قدم (مرآة البومة) على خباز في بعض المدن، واتفق معه على أجر يومي لعمله. وأمره الخباز ذات يوم أن ينجز - في غيبته - ما أعتاد أن ينجزه كل يومٍ من أرغفة الخبز.
فسأله (تل) متبالهاً : (ماذا أخبز؟) .
فضاق صدر الخباز بغباء صاحبه، وقال له متهكما: (اخبز لنا بوماً وغربانا ! ) :
وما كان أشد حيرته حين عاد فرأى صاحبه يطبق ما سمعه منه تطبيقاً حرفياً، فيخبز كل ما لديه من الدقيق بعد أن يقطعه على صور البوم والغربان وأشكالها، ولا يكاد الخباز يعود، ويرى ما فعله (تل) حتى يتملكه الغيظ، فينهال عليه تعنيفاً وتقريعاً. فيقول (تل) : (ماذا يغضبك؟ ألم تقل لي ذلك؟ ألم تأمرني أن أخبزه بوماً وغربانا ؟ ً) .
فإذا اشتد هياج الخباز قال له (تل) : (هون عليك يا صاحبي ولا تتماد في غضبك، وخبرني ثمن ما أتلفت من خبز؟) .
فيقول: (جنيهان) فينقده (تل) ما طلب. ثم يحمل السلة إلى السوق، فلا يكاد يراها الناس حتى يتهافتوا على شراء تلك الأشكال الطريفة التي أبدع صنعها ولم يكن لهم عهد بمثلها فيبيعها بخمسة أمثال ما دفعه للخباز. وينمي إلى الخباز ما ظفر به صاحبه من نجاح، فيعود إليه مستعطفاً، ليستأنف عمله، بعد أن ظهر له وجه الفائدة في ابتكار(تل) ولكنه لا يعثر له على أثر. فقد غادر المدينة، وكأنما كان (تل) يتوقع هذه النتيجة، فذهب إلى مكان آخر ليستديم حسرة الخباز عقاباً له على ما أسلفه إليه من إساءة وغرور.
ومن بديع ما يستدل به الباحثون على حرص (تل) على التقيد بحرفية ما يقول بعد أن استدلوا - بما أسلفناه - على حرصه على التقيد بحرفية ما يسمع، تلكم الطرفة التالية: سأله سائل: ترى بعد كم من الزمن أبلغ المدينة ؟
فقال له (تل) : سر في طريقك. فحسبه الرجل لم يسمع، فأعاد عليه السؤال مكرراً رجاءه
بصوت مرتفع. فأجابه (تل) نفس إجابته الأولى. فغضب الرجل وحسبه يهزأ به. فصرخ فيه : أجب عن سؤالي أيها الغبي ؟
فقال له: (سر في طريقك) فتركه الرجل، وسار في طريقه وهو يكيل له اللعنات، والغضب آخذ منه كل مأخذ، ولم يكد الرجل يبتعد عنه قليلاً حتى صاح به (تل) أن يتمهل ربما يفضي إليه بأمر يعنيه. فوقف الرجل متعجبا من غرابة أطوار هذا الرجل. وسأله: (ماذا تريد؟) .
فقال له في هدوء الفيلسوف: (إذا سرت على هذا النهج بلغت المدينة بعد ساعتين ) .
لم يفهم الرجل أول الأمر ما يعنيه (تل) بقوله: سر في طريقك وحسبه يتعالى عن أجابته ويرغب في التخلص من رؤيته، ولكنه أدرك أخيراً أن صاحبه على صواب، فلم يكن في وسعه وهو يتوخى الصحيح في أجابته أن يعرف مدى الزمن الذي يستغرقه حتى يبلغ المدينة قبل أن يتعرف من مشيته مدى أتساع خطوته. ألم يقل أبو نواس: (عرفت شيئاً وغابت عنك أشياء) ثم، ألم يقل المتعمقون: إن لكل مسألتين وجهين على الأقل؟ فها هو صاحبنا يأخذ في فهم ما يسمع وما يقول بالوجه الثاني للمسألة، فلا يبعد في حاله عن الصواب. ورحم الله القائل :
( خذا وجه هرش أو قفاه، فإنما كلا جانبي هرش لهن طريق )
ومن عجيب المصادفات أن تجني الحرفية والتشبث بالمشكلات اللفظية على صاحبنا بعد مماته، كما جنت عليه أثناء حياته. فإن لقبه: (مرآة البومة) مؤلف - كما ترون - من لفظين:
(مرآة) و(بومة) ، وكلمة مرآة تكتب بالألمانية (سيجل siegel ) وتذكرنا حروف رسمها كلمة (سجنجل) ومعناها - فيما يعلم القارئ - مرآة، وهي ترجمتها بالعربية.
ولكن حروف سييجل، إذا لفظها الألماني قلب الياء الأولى باء، فنطقها (شبيجل) دون أن يثبت هذا القلب في كتابتها. وقد استخرج الفرنسيون منها لفظاً يجمع بين الكتابة والنطق، وتمسكوا بالحرفية في كليهما، فأضافوا إلى بنية الكلمة
المكتوبة حرف (الباء ؟ ) الذي ينطق به الألمان ولا يثبتونه.
وبذلك تألفت منها كلمة (اسبيجل espiegle ) ، ومعناها:
ألعبان أو هازل ثم خرجوا منها كلمة (esieglerie) ومعناها الألعبانية أو المجون. ثم أوحى لهم هذا التخريج الجائر ومشتقاته أن ينحلوه قصصاً يدور محورها على الهزل والمجون. فكان لهم ما أرادوا. ورحم الله المتنبي القائل: (ومثلك من تخيل، ثم خالا) .
وقد ذكرتم تلكم المغالطة اللفظية - أو الحرفية إن توخينا الدقة - بمغالطة أخرى منطقية ابتدعها ابن الرومي الشاعر البارع منذ أكثر من أحد عشر قرناً تخلص منها إلى نتيجة عجيبة، لا تقل في غرابتها عما وصل إليه ذلكم الساخر الفرنسي الذي جوز لفظ المرآة - وهي ترمز إلى الطيبة أو الغفلة - إلى لفظ (الألعبان) وفيه من الخبث ما فيه.
اتخذ ابن الرومي من قول الإمام العراقي أبي حنيفة بجواز شرب النبيذ وتحريم شرب الخمر، ومن رأى الإمام الحجازي الشافعي: أن النبيذ كالخمر، نتيجة لم تخطر على بال الإمامين على بال . أرد الشافعى كما تعلمون وكما يعلم ابن الرومي المغالط الأكبر أن يقول :
(إن النبيذ كالخمر فهو مثلها حرام)، وعكس ابن الرومي قصد الإمام فقال: مادام النبيذ حلالا في رأي أبي حنيفة، والخمر كالنبيذ في رأي الشافعي، فالخمر حلال كالنبيذ في رأي القياس المنطقي.
وهكذا استطاع الخبيث بما وهبه الله من أدوات الخبث وفنون المغالطة أن يتخذ من المنطق سلماً إلى الفرار من الحقيقة التي لم يخلق المنطق إلا لدعمها وبنائها، فقال : غفر الله له :
أجاز العراقي النبيذ وشربه وقال : (الحرامان المدامة والسكر)
وقال الحجازي: (الشرابان واحد) فحلت لنا من بين قوليهما الخمر
سآخذ من قوليهما طرفيهما وأشربها، لا فارق الوازر الوزر
