٢ - من فرساي إلى يومنا
لبث مثل نابوليون بونابارت فريدا في تاريخ الحروب الحديثة حتى كانت الحرب الكبرى ( ١٩١٤-١٩١٨ ) وعندئذ أثيرت مسألة مجرمي الحرب مرة أخري
انتهت الحرب الكبرى أو الحرب العالمية الأولى بانتصار الحلفاء على ألمانيا الإمبراطورية بعد صراع عنيف دام أكثر من أربعة أعوام ، ولم تدخر ألمانيا خلالها - شأنها في الحرب الحاضرة - أية وسيلة من وسائل السفك المروع أو التدمير الشامل إلا استعملتها ضد أعدائها فمن حرب الغواصات إلي استعمال الغازات الخانقة لأول مرة إلى قتل الرهائن والأسري والفتك بالمدنيين بمختلف
الصور ، أو غير ذلك من الوسائل التي اعتبرها الحلفاء منافية لقوانين الحرب . ومن ثم فقد فكرت الدول المتحالفة حتى قبل انتهاء الحرب في أن تحمل زعماء ألمانيا الإمبراطورية تبعة هذه الجرائم ، وأن تسعي إلي معاقبتهم باعتبارهم "مجرمي حرب " يسألون عما اقترفت بأوامرهم القوات الألمانية المحاربة.
وكانت مسألة مجرمي الحرب يومئذ كما هي اليوم مثار جدل شديد ، وكان المرغوب أن تعتبر جزءا من شروط الصلح التي تفرض على ألمانيا ، وكانت فرنسا أكثر دول الحلفاء تشددا في شأنها ، وكانت أمريكا بالعكس أكثر دول الحلفاء ترفقا بألمانيا المهزومة ، وكانت إنجلترا تحاول كعادتها أن توفق بين مختلف وجهات النظر ، وأخيرا غلب رأي المتشددين واتفق الحلفاء على وجوب معاقبة " مجرمي الحرب " الألمان .
وكانت شخصية ولهلم ( جيوم ) الثانية إمبراطور ألمانيا ورأس " الرايخ " الثانية كما هي اليوم شخصية أدولف
هتلر زعيم ألمانيا النازية ورأس " الرايخ " الثالثة ، تحمل في نظر الخلفاء أعظم التبعات ، سواء فيما يتعلق بمسئولية الحرب ذاتها أو تنظيم الأعمال المثيرة التى اعتبرها الحلفاء جرائم منافية للقانون الدولي.
ومن ثم فقد أدمجت مسألة مجرمي الحرب في شروط الصلح التي فرضت على ألمانيا ، ورأينا لأول مرة في التاريخ في وثيقة دولية نصوصا خاصة تنص على معاقبة مجرمي الحرب وتنظم إجراءات محاكمتهم .
أحكام معاهدة فرساي
وقد أفردت معاهدة فرساي لمسألة مجرمي الحرب قسما خاصا هو " القسم السابع " ( المتعلق بالعقوبات ) ويشتمل هذا القسم على أربع مواد من المادة ٢٢٧ إلي المادية ٢٣٠
وتنص المادة ٢٢٧ على حالة ولهلم الثاني إمبراطور ألمانيا فتقول إن الدول المتحالفة والمشتركة تضع موضع الاتهام العمومى ولهلم الثاني فون هو هنتسرلرن إمبراطور المانيا السابق بصفته مرتكبا لجريمة عليا ضد المبادئ الأخلاقية الدولية وضد حرمة المعاهدات المقدسة
وأن تنشأ محكمة خاصة تتولي محاكمة المتهم على أن توفر له كل الضمانات اللازمة لحق الدفاع ، وتؤلف هذه المحكمة من خمسة قضاة تعين كل دولة من الدول الخمس الآتية واحدا منهم ، وهي : أمريكا وبريطانيا وفرنسا وإبطاليا واليابان ، وتصدر المحكمة حكمها وفقا للبواعث التي تمليها أسمي مبادئ السياسة بين الامم بقصد ضمان احترام التعهدات الرسمية والعهود الدولية وكذلك المبادئ الأخلاقية الدولية ، ولها أن تقرر نوع العقاب الذي تري تطبيقه .
وستقدم الدول المتحالفة والمشتركة إلي حكومة الأراضي السفلى ( هولندا ) طلبا ترجو فيه تسليم الإمبراطور السابق إليها لإجراء محاكمته .
وتنص المادة ٢٢٨ على اعتراف الحكومة الألمانية للدول المتحالفة بحق إحالة الأشخاص الذين ارتكبوا
أعمالا تنافي قوانين الحرب وتقاليدها إلى محاكمها العسكرية ، وأن تطبق العقوبات التي نصت عليها القوانين على من قضى بإدانته منهم وأن تقدم الحكومة الألمانية إلي الدول المتحالفة أو إلي من يطلب منهن إليها جميع الأشخاص الذين يتهمون بأنهم ارتكبوا أعمالا ضد قوانين الحرب.
وتحدد المادة ٢٢٩ جهات الاختصاص التي يحاكم أمامها المتهمون الألمان ؛ فالذين ارتكبوا منهم أعمالا ضد رعايا احدى الدول المتحالفة يحاكمون امام المحاكم العسكرية لهذه الدولة ، والذين ارتكبوا اعمالا ضد رعايا عدة من الدول المتحالفة يحاكمون أمام محاكم عسكرية مشتركة تؤلف من ممثلي الدول ذات الشأن .
وأخيرا تنص المادة ٢٣٠ على تعهد الحكومة الألمانية بأن تقدم كل الوثائق والمعلومات اللازمة لإثبات الجرائم المنسوبة والبحث عن المجرمين وتقدير التبعات.
تلك هي النصوص التي تضمنتها معاهدة فرساي في شأن مجرمي الحرب والتي تمثل وجهات نظر الدول المتحالفة يومئذ ، وقد كانت هذه المسألة كما هي اليوم مثار خلاف وجدل بين الدول المتحالفة . ونحن نعرف ماذا كان مصير هذه النصوص ، فقد بقيت عاطلة دون تنفيذ ، ولم يستطع الحلفاء وضع يدهم على إمبراطور ألمانيا السابق ، لأن الحكومة الهولندية لم تقبل تسليمه تمسكا منها بحق إيواء اللاجئين السياسيين ، ولأن ألمانيا لم تسلم أحدا من أبنائها الذين أريدت محاكمتهم ومعاقبتهم على ما ارتكبوه خلال الحرب من أعمال رأتها الدول الظافرة جرائم يجب العقاب عليها .
الموقف الحالي
والآن يعيد التاريخ نفسه . ففي الوقت الذي تنحدر فيه المانيا النازية بسرعة إلى قضائها المحتوم وإلى هزيمتها المحققة تعود مسألة مجرمي الحرب فتطرح على بساط البحث مرة أخرى . ومن الواضح أنها تتخذ في هذه المرة أهمية
خاصة نظرا لفداحة الأعمال الإجرامية التي ارتكبها الحزب النازي في الحرب الحاضرة وما أنزلته القيادة الألمانية بالبلاد المفتوحة من ضروب التدمير والسفك التي لم يسمع بها والتي لا يكاد يذكر إلي جانبها ما حدث في الحرب الكبرى .
ولهذا نري صيحة الانتقام في هذه الحرب أشد دويا وأبعد أثرا ، والصرخة عامة في جميع الأمم التي اكتوت بعدوان المانيا النازية بوجوب القصاص العادل ومعاقبة سائر الزعماء والقادة الألمان الذين يحملون تبعة هذه الفظائع مهما سمت مكانتهم . وأشد ما تكون هذه الصيحة في روسيا السوفيتية التي اجتاح الغزاة أرضها بأروع الصور والأساليب ونسفوا معظم مدنها ومرافقها وقتلوا الملايين من أهلها ، وقد وضعت روسيا بنفسها أول قاعدة عامة في محاكمة مجرمى الحرب الحاضرة وهي تقضي بأن تتولى الدولة التى وقعت عليها الأعمال الإجرامية محاكمة المجرمين وفي نفس المكان الذي ارتكبت فيه ، وطبقت روسيا بالفعل هذا المبدأ دون انتظار لنهاية الحرب ، فنظمت محاكمات خاركوف الشهيرة لجماعة من صغار القادة الألمان الذين اتهموا بتدبير المذابح المحلية في ذلك الإقليم وقضي بإعدامهم ، وذلك بالرغم من وعيد ألمانيا وتهديدها بالانتقام.
ولا تقل امريكا وانجلترا عن روسيا تصميما في هذا الشأن وإن اختلفت بعض وجهات النظر من الناحية الشكلية ؛ ذلك أن الرأي العام الإنجليزي أو علي الأقل فريقا منه يميل إلي الاعتدال في تقدير مسألة القصاص . ومع أنه لا يوجد خلاف في وجوب القصاص من زعماء ألمانيا النازية وعلى رأسهم أدولف هتلر ، فإن المسائل الفقهية ما تزال تثير بعض الجدل ، وأخص ما يختلف الرأي عليه هو كما قدمنا الطريقة التي يحاكم بها أولئك الزعماء والقانون الذي يطبق عليهم والعقاب الذي يحسن أن يوقع عليهم وقد تجلى هذا الإجماع على وجوب محاكمة مجرمي الحرب ومعاقبتهم في مؤتمر الأقطاب الثلاثة ( تشرشل
وروزفلت وستالين ) الذي عقد اخيرا في القرم حيث نوه المؤتمر في بيانه الرسمى بهذه المسألة واعتبرها عنصرا أساسيا في شروط الصلح التي ستعرض على ألمانيا عقب هزيمتها .
وقد رأينا كيف حلت هذه المسألة في معاهدة فرساي وكيف نص فيها على إنشاء محاكم خاصة لمحاكمة الإمبراطور ولهلم الثاني ومحاكم عسكرية لمحكمة باقي مجرمي الحرب الألمان . ولكن يبدو أن مثل فرساي وإن استرشد به من حيث المبدأ لا يكفي لحل جميع المشاكل الفقهية التي أثيرت أمام لجنة جرائم الحرب ؛ والأمر واضح بنوع خاص فيما يتعلق بموقف الحكومة الإنجليزية من اكابر مجرمي الحرب مثل هتلر وموسوليني ، فهي تري أن تكون محاكمتهم والقصاص منهم بقرارات سياسية على نحو ما اتبع في شأن نابوليون ، وتأبي أن تضعهم في قائمة مجرمي الحرب العاديين خلافا لما تراه روسيا وأمريكا .
ومن جهة أخري فإنه يبدو أن الدول المتحالفة مصممة هذه المرة على الا يفلت الجناة من يدها كما حدث في الحرب الكبرى بالنسبة للإمبراطور ولهلم الثاني . فقد أكد مستر تشرشل في تصريحاته الرسمية امام مجلس العموم غير مرة " أن الحكومة الإنجليزية مصممة على أن تحول دون التجاء المجرمين النازبين إلي البلاد المحايدة ، وعلى أن تنزل بهم العقاب العادل " وبالفعل وجهت إنجلترا - كما وجهت روسيا وأمريكا - إنذارها إلي الدول المحايدة تحذرها من قبول اللاجئين إليها من الزعماء النازيين
ولكن هل يكفي هذا التحوط لتحقيق أمنية الدول المتحالفة في وضع يدها على أولئك الذين تعتبرهم أعظم المستولين عن إثارة الحرب الحاضرة وما ارتكب خلالها من الفظائع ؟ وهل تستجيب الدول المحايدة كلها بالفعل إلي هذا الإندار ؟ إن الحرب تقترب من نهابتها بسرعة ، والغد ملىء بالمفاجآت . وسنري عندما تحل الخاتمة المحتومة ماذا يصيب أولئك الطغاة المحكوم عليهم من أعاجيب القدر .
