الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 633الرجوع إلى "الرسالة"

جريزيلدا ، للقصصى الايطالي بوكاشيو

Share

كانت عداوة المركيز جواليترى الشاب أمير مقاطعة سالوزو للنساء سافرة ، يجاهر بها هو ، ويعرفها من ، لأنه ما كان مؤمناً يوماً بوجود امرأة وفية برة تصدق العهد وترعى الذمة والميثاق ! !

وكان ذلك سبب ابتعاده عهن وانصرافه إلى ضروب من اللهو بين وحوش الفلا وأزاهير الربى فى عيش رقيق الحواشى ندى الظل ، وغبطة تتسرى في جوانحه وتشيع في محياه

وإذا كان هذا رأيه هو ، فلم يكن هذا رأى شعبه ، لأن الشعب لم يكن مجمعاً على خيانة المرأة ، ولأن الشعب يريد من يتولى الأمر بعد حاكمه ... هذا إذا جرى قضاء الله عليه فدرج فات !

لذلك. هب أبناء شعبه يطالبونه بالزواج في الجاح عليه شديد وتقدم إليه فريق من وجوه القوم بأسماء الحسان من بنات الأشراف ليقبول كلته فى إحداهن ، والخفوا عليه في ذلك ، فكان جوابه :

- إنه وحده صاحب الحق فيمن يختارها زوجاً لنفسه ، وأماً لولى عهده ، وإذا كان للشعب أن يطالب حاكمه بولى من بعده ، فليس له أن يتحكم في التي يختارها لهذا الخلاف أما !

...تم اتفق معهم على أن يكون أخر اختيار زوجه له ، لاحق لأحد أن يعارضه أو يناقشه فيه ، وهكذا كان

فإن المركز لخارج من قصره إلى قرية قريبة منه يحتال على جواده ، إذ بصر يقروية من بنات الرعاة تحمل الماء من بئر قريبة

إلى دارها في وداعمة أخاذة استوقفته قليلا ، ثم اقترب منها يسألها من عداها تكون ؟ !

اسمی جریز يلدا یا سیدی ! ووقف المركز الشاب أمام جرز يلدا هذه دهشاً

قد علق قلبه ، وذهل لبه ، واشتغل خاطره ، وأراد أن يكاشفها بدخيلة أمره ، وأنه يرغب في أن تكون زوجه ، ولكنه ما استطاع ثم حمل نفسه على أن يصارحها برغبته فقال :

- إننى يا جريز يلدا أبحث عن زوج برة مخلصة لينة المقادة ، قريبة الارتياد ، خلقها دمث ، وطاعتى عليها فرض تتقبله في سرور أفأجد فيك الى أنشد ؟ !

- يا سيدى ، أرجو أن تكون قد وفقت إلى اختيار من تريد !

ثم تم الزواج - كما أراد الركيز أن يكون - في خامة وبهاء ، وجاءت الفتاة القروية إلى قصر الأمير لتبتدى" حياة أرستقراطية غريبة عنها وعن قريتها التى أسلمتها إلى هذا القص المنيف

كانت الفتاة وفية حقا للمركز : تتحرى رضاه فتعمل به ، وتتوخى هواه فتقصد إليه ، وتقضى حق النعمة عليها بشكر أياديه وفضله ..

وكانت برة به كما أراد ، مخلصة له كأفضل ما تمنى ... تعمل على إسعاده ، ولو كان فى ذلك شقاؤها ، وتتمنى له الخير ، ولو كان فيه أذاها ... !

وكانت قد وهبته قلبها : فهى أبداً حريصة على رضاه حريصة على إسعاده ، حريصة على أن يكون زوجها أسعد الناس حياة

وكان شعب "سالوزو" يبصر هذا من الفتاة الكريمة فيعجب بما يرى ، ويغتبط بما يجد أميره من إكرام وحب ووفا من بنت القرية « جريز يلدا » وقد كان هذا الإعجاب الشديد الفتاة في قلوب أهل « سالوزو » أجمعين !

وما لبنت جريز يلدا أن وضعت بنتا .... فرق الخبر إلى شعب سالوزو ، وابتهج الشعب لهذا وفرح ؛

وأعلن عما في نفسه من أسباب الفرح والحبور بالاحتفالات يقيمها ، والمآدب يولمها ، والتهانى يرفعها إلى أميره

ولكن الأمير لم يثلج بالأمر صدره غبطة - كما توقع الشعب ذلك منه بل كان في نفسه ما يحز فيها حزاً من سوء الظن الأثيم ! ... فإن الرجل قد خيل إليه أن من وراء هذا الذى تبديه له زوجه من الحب والوفاء - خيانة مستترة - لا يعلمها هو ، ولكن وجدانه ينبئه ولا يعرف عنها شيئاً ، ولكن حسه يوقظه ... وتتعاظم هذه الخواطر في نفسه فتطفى على كل شمور ... وإذا ما كان فى نفسه عن المرأة قد عاد إليه ... وهل تكون جرير بلدا ، هذه إلا امرأة ؟ !

وإذا فليتغلغل إلى دخيلة نفسها ليعرف الحق ، وليمتحنها ليطلع على ما عند المرأة من خيانة وفجور ..

... وأرسل إليها يطلب منها ابنتها معلناً أن شعبه لا يرضى أن تكون ولية العهد بنتاً من أم وضيعة الأصل ، حقيرة البيت ، من أهل القرى ..

وفهمت هذا الذي كان يدور بخلده - وما كان ذلك ليخفى عليها .. وأدركت أنها مفارقة ابنتها البريئة ، ثمرة إخلاصها ووقتها وتفانيها في الحب لمولاها وزوجها المركيز - قراقاً لا تعلم مداه ... بل قد لا يكون له مدى يقدر ، أو نهاية تعرف !

... وألم بالمسكينة الجزع في شكل الشكل ، وملكتها غموم الوالدة تفقد وحيدها ، فاشتملت عليها ، وتشعبتها آلام الفجيعة في شكل مربع ... ولما رأت أن الأمر قد تعقد وأعضل ، ودعت ابنتها في لوعة مريرة وبأس ... ثم تقدمت بها إلى الرسول.

ومضت بعد ذلك أعوام طوال كانت ( جريز يلدا » مع زوجها على سيرتها الأولى : من طاعة وحب ووفاء ... وصبر على ما تلقاه منه من مكروه ا ثم قدر الله فوضعت ولداً ...

وكان لهذا الوضع أثره فى نفسها المحزونة ، فقد أملت منه خيراً يأتيها به أبوه ... وقالت في نفسها : إن الشفاعة من ولى

العهد ولا شك ، وكيف تشك وها قد وضعت ذكراً ينوب في حكم الشعب مناب أبيه ؟ وكيف تشك وهذه أمنية المركيز التي يطلب ، ومرباده الذى يبتغى - هو ومن ورائه شعب ( سالوزو » الكريم ؟ !

ولم يدعها المركيز ( جو التيرى » تحلم  ... وتبتعد في حلمها عن الواقع المقدر لها ولانها هذا فقد بعث يطلبه كما بعث من قبل يطلب أخته !

وتكرر فصل  المأساة ، ولكن في مظهر أروع ، وأعيد الحزن إلى قلب المسكينة ولكن في شكل أقسى ؛ وقدمت المسكينة طفلها هذا كما قدمت أخته من قبل إلى الرسول !

وإذا كان جرو السبع لا ينفعه رضاع الشاة ... فإذا كان النبت لا يقوم اعوجاجه حين يشتد عوده ويستأسد ، فإن المركيز لم يكن ينفعه تفانى المرأة في إخلاصها وإظهار طاعتها له... والطباع إذا كان فيها عوج متأصل ، لا تفيدها كل أنواع المقومات !

... وكذلك صبرت جريز يلدا ، على الخسف ميتة عشر عاماً طوالا ، كانت خلالها مثال العفة في الخدمة ، والشرف في أداء حقوق الزوج ، صابرة على ما تلقاه من هذا الذى يدعونه زوجها ، وليس في قلبه من معانى الزوجية التى تعتمد على الشرف والإخلاص شيء!

وعلى أن الحزن الممض لا يقوى على احتماله بشر له قلب وشعور ، فإن جريز يلنا » كانت تحتمل ما تلقاه في جلد واحتمال عجيب ، كأن ما تراه من عقوق ، هو عين الحق الذي يجب أن تعامل به الوفيات أمثالها

ولكن زوجها المركيز لم يرضه هذا ... بل عمد إلى طردها من قصره إلى حيث كانت في كوخها الريق الحقير

وخرجت ( جريز يلدا » في أطمار بالية من القصر كما دخلته من قبل ؛ ورجعت إلى كوخها وليس معها من آثار النعمة التي كانت فيها غير ... أسوأ الذكريات ، وغير ما في قلبها البكلوم من حزوز

ولكنها لا تكاد تستقر في ريفها حتى يأتيها رسول « المركيز » يأمرها بالرجوع إليه .

لتسعد قصره الذى برحته لزواج جديد !! من حسناء من بنات الأشراف ...

ونزل عليها الخبر كالمصيبة تنال المرء بعد كثير من أمثالها : لا تكاد تستقر واحدة حتى تتلوها الأخرى أشد إيلاماً وأنجم !

... ورجعت إلى القصر وإن قلبها الجازع من هذا الذى يرى؛ ولكن ستاراً من الابتسامات العذاب كان ينسدل على ذلك القلب الكسير فيخفى ما به من آثار اللوعة والشقاء ...

وتم إعداد القصر للزواج الجديد .

وتمت دعوة الأشراف والنبلاء إليه في ليلة الزفاف ... فكان القصر ليلتئذ بحسناواته ومظاهر المسرة فيه جذوة من

اللهب تتقد في قلب جريز يلدا التي كانت تتفشى طمراً أبلاه الدهر وأخلقه ... قابعة في زاوية من زوايا القصر ، خانسة ، فكأنها في ذلك القصر المائج بالعيد الفاتنات تمثال البؤس الذي يتحاشى المترفون النظر إليه ... أن يشقيهم أو يكدر صفو حياتهم الى يحيون !!

ورفعت الجريز يلدا» عينيها إلى العروسين الداخلين فاحتارت مما رأت ... لقد كانت ، في يوم من الأيام ، كهذه الحسناء التى تقيه بجمالها للفتان وتزهى ... لقد كانت يوماً قبلة الأعين تستجلى جمال وجهها الباهر السني في إعجاب شديد !

... وجاء ( المركيز » إلى زوجه القديمة البائسة يتألها وأبها على ملأ من الحاضرين - في عروسه الحسناء ؟ ! فأجابت :

إن في منظرها - يا سيدى - لحسناً ... وأرجو أن يكون لها مثل ذلك في غيرها عند الامتحان ... ثم توسلت إليه أن يكون منصفاً لهذه الفتاة يعاملها في رفق وإحسان ... وأردفت ذلك يجمل الدعاء والتوفيق لهما ... ولطها ساعتئذ كانت أصدق ما تكون ...

قال المركز : - ولكن اغتفرى لى يا « جريز يلدا ، هذا الذي رأيته

متى من جور و كفران ... لم أكن معك يافتانى من المنصفين ... لقد كنت أنهم وفاءك ، خائفاً أن تكون وراءه خيانة أو ربية .... ولكنك الآن أمامي مجلوة مثل كرائم الأحجار ...

دعيني - يازوجي البرة - أقدم إليك هذه التي تحبينها عروسى كما يحسبها غيرك من الحاضرين - على أنها ... ابنتك التى انتزعها منك منذ أمد بعيد ... وهذا يا جريز  يلدا المحبوبة ولدنا العزيز الذى أرسلت إليك في طلبه كما أرسلت من قبل على أخته ... ضميهما إليك ... إلى صدرك ... لتقرى بذلك عين ولتكونى من الفرحات الناعمات لقد حرمتهما حيناً من الدهر طويلا... قانعمي بعد ذاك الحرمان الطويل ... أقبلى عليهم التمسى العزاء عندهما عما مضى وكونى - كما عهدتك ـ تصفحين عن الإساءة وتتقلبين منى كل شيء بالصدر الرحب ، والفقران :

( بغداد )

اشترك في نشرتنا البريدية