الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 960الرجوع إلى "الرسالة"

جمال الدين أباظة بك:

Share

من هذا المكان يا عمى الذى طالما أحببت أن تقرأ لى فيه،  والذى كنت تقرأ فيه ما سمعته قبل أن ينشر..

من هذا المكان الذى رأيتني فيه منذ بدأت أكتب حتى  اليوم.. من هذا المكان أحب أن أكتب..

ولكن أترانى أستطيع؟ أحاول كلما فكرت فى ذلك أن أنفى عنك فكرة الموت ولكنها تلاحقنى فيك فأبعدها.. هى الحقيقة الثابتة. وأنا الجازع منها لا أستطيع أن أصدق. ولا أستطيع أن أكذب، فماذا أقول لك؟

أحقا انتهى الأمر؟ أحقا لم يعد فى استطاعتى أن أذهب إلى الضاحية التى أشرقت بك حينا من الزمان، والتى بها لاقيت أو لاقينا نحن فيك المصاب؟ أحقا لن أخاطبك بعد الآن لأسألك رأيك وأطلب مشورتك؟ أحقا لن نلتقى فى تلك الأماكن التى  طالما التقينا بها؟ أحقا لن تراعينى بعد اليوم كما كنت تفعل..  أحقا لن تفرح بى كلما فرحت بنفسى وكلما فرح بى أبواى؟ وحقا  لن تألم كلما ألمت لنفسى أو ألم لى أبواى؟ أحقا لن نذهب بعد  اليوم فى كل يوم سبت إلى الندوة المعهودة؟ أحقا لن تطلب منى  أن أنتظرك فى المقصف الملاسق لباب اللوق.. أحقا لن أقرأ  عليك هذا الكلام.. أحقا خلت كل هذه الأماكن منك؟  أو لتخل هذه الأمكنة المادية. ولتقفر المناضد التى جلسنا إليها  ولينضب الورد الذى نهلت منه. ولكن مكانك فى النفس لن  يخلو.. سأنظر إليه كلما أقدمت على أمر.. سأظل أنظر إليه ألتمس العون وأسأل المشورة. ولن يبخل. وهل بخلت أنت يوما..  وهل بخلت أنت بشىء.. كنت الصفاء فى هذه الحياة العكرة..  كنا كلما فكرنا في شخصك تمثلت لنا القمة التي ترتقي إليها  الإنسانية. بل تمثلت لنا الملائكة. كنت تثبت لنا بوجودك أن  هذه المعانى السامية التى قد نسمع بها ولا نراها موجودة قائمة

رائعة. سامية. جليلة. كانت إياك فى تسامحك حتى لتنزل عن نفسك، وكانت إباك فى رقتك حتى ليخجل محادثك من ماديته.  ثم أنت لا تشعره بأرتفاعك.. وكانت إباك فى تواضعك وترفعك..

فى بساطتك وكبريائك.. وكانت إياك فى كل خلقك.. وبعد..  عساه.. ماذا أقول.. أأقول ألمنا..؟

ما أهون! أأقول جزعنا.. لا يكفى.. أأقٌول فقدنا فيك  إيمانا بالسمو مع التواضع والزهد مع العظمة.. أأقول فقدنا فيك إيمانا بإنسانية الإنسان.. لا.. إن شيئا من هذا لا يجرؤ أن  يعبر عما فقدنا. كل ما نستطيع أن نقول إننا فقدنا جمال الدين أباظة بك.. فقدناه لراحته هو فنحن لم نفقده.. وإنما نفتقده  ولا نجده..

كنت هنا فى الأرض تشيع حولك جوا ملائكيا، ساميا،  طاهرا. رفيعا. وكنت تنعم بما تشيع وينعم به الجالسون إليك؛  ثم ما تلبث هذه الأرض النكدة أن تذكرك أنك ما زلت عليها  ليشتبك الحديث فى ماديات أنت أزهد الناس فيها. وإذا انتهت  الجلسة وانصرف أصحابها واضطربوا مع الحياة أذلتهم وأذكرتهم  بأنهم هنا.. هنا ما زالوا أبناءها وعبادها. وكنت وحدك تترفع  عن عبادتها فلا تتجه بوجهك لغير الله. ولا تذكر فى نفسك  غير هذه الملائكية الرقيقة التى أنشأتها على الأرض.. أما الآن  فاهدأ ولنجزع نحن.. اهدأ فقد أصبحت فى المكان الذى طالما تمنيت أن تكون فيه، وها نحن أولاء ما زلنا ننظر إلى مكانك  فترتفع معك بأفكارنا لنهدأ وترتاح جوانينا أن أصبحت أنت فى  أهنأ مقام ثم نهبط بأنفسنا إلى هنا.. إلى حيث نحن الآن،  فتلتاع النفس حسرات وشوقا، ونريد أن نهرب من هذه الحياة  إلى سمائك التى كنت تنشئها على الأرض فإذا هى قد ارتفعت إلى السماء التى أعد الله فيها جنات لك وللمتقين.. وهكذا نهرب من  الحياة إلى الحزن عليك، ثم هى تحاول أن تلهينا ولكن عز فيك  التلهى وجل فيك العزاء

وبعد فيا عماه.. ماذا أقول؟. أينتهى هكذا مجال القول فيك؟ أقسم أنه ما ضاق إلا لسعته وما عجزنا إلا لمصابنا.. فما  أنت بالراحل الذى يكفى فيه البكاء؟ ولكنه من هذا المكان

الذى أحببت أن تقرأ لى أحببت أنا أكتب إليك مما كنت  تسمع وتقرأ.. ولكننى اليوم وامصيبتاه .. لن أستطيع أن أسمعك.. فإذا قرأته فلن أعرف رأيك فيه.. وما أحتاج الرأى  اليوم، فما هى إلا عبرات شاء بها القلم أن يجارى تلك العبرات المنهمرة من صاحبه. وكلانا العاجز الذى يعلم عجزه ولا يستطيع  أن يواريه. بل هو يرى فى الظهور به بعض التخفيف مما يلاقى..  وحسبنا الله ونعم الوكيل

اشترك في نشرتنا البريدية