الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 331الرجوع إلى "الثقافة"

جنة الأوهام

Share

ما كنت أقدر أن سؤالا تقليديا عابرا ، يفضى إلى قصة لعلها تكون شائفة : فلقد أنشأ صاحبى يحدثنى مستغرقا في شبه غيبوبة ، وكأنه يستلهم وحيا :

تسألنى لماذا لم أتزوج ! وأملك لم تنس بعد أننى كنت أسكن - وأنا بالسنة النهائية لكلية الطب - شقة صغيرة ، ولكنها أنيقة رشيقة ، وكانت فى الطبقة الثانية تطل على حديقة كبيرة لقصر مجاور ، وكنت أعدها ملكا لى ، فما كان أحد يتمتع بجمالها مثلى ، وما كنت ألمح فيها غير الجنان منهمكا فى تشذيب أشجارها ، ولكن فى بعض الأيام التى تشرق فيها الشمس ، فتبعث الدفء - ونسيت أن أذكر لك أن ذلك كان فى هجمة الشتاء - كنت أشاهد رب القصر يجلس في سرة الحديقة . على كرسى من الطراز العربى ، وقد لبس عباءته الفخمة وفى يده مسبحته الثمينة ، ويمضى رونق الضحى يكركر فى (( نارجيلته )) وكان أظهر ما يتميز به ذلك الشارب الأصفر الذهبى الذى أطلقه فأضفى عليه الهيبة والوقار ، فحدست - لهذا ولروح المحافظة التى كانت تسود ذلك القصر - أن هذا الرجل من أصل تركى .

ومع أنني كنت أحضر (( للبكالربوس ))  فما كان ذلك ليمنعنى أن أخلو ساعات إلى صديقتى الوفية ، فأحتضنها وأبثها الامى وأحلامى ، تلك هى (( فيثارنى )) المحبوبة . ولعك تعلم أننى ما كنت راغبا فى دراسة الطب لولا أن هذه رغبة والدتى . ولقد كنت أود أن اغذى خيالى المشبوب ، وأشبع نهمى الفنى ؛ لذلك فلما كان كتاب من كتبى يخلو من (( نوتة )) موسيقية أو أكثر .

ولقد نشأت بينى وبين ذلك البستانى الطيب صلة أملتها الظروف ، فلقد كنت أراه مرات كل يوم ويرانى ، حتى

لقد كان يحيينى ويلقبنى (( بالبك )) ثم (( بالدكتور )) . ولا أدرى من لقنه هذا اللقب الأخير ، وكنت أخاطبه باسم (( عمى عواد )) كما كنت أسمع رب القصر يناديه به .

. . . وكان مساء ، وأويت إلى مضجى بعد أن استرق ( ١ ) الليل . وسمعت طرقا على باب شفتى ، فقمت قلقا وفتحت الباب بحذر بعد أن تبينت أن الطارق هو (( عمى عواد )) واستنبأته الخبر ، فقال بلهجة متلهفة .

سيدي البك مريض جدا ! ! ولقد أخبرتهم أن الدكتور (( ممدو ح )) صاحى جدا ! ! وأنك سوف لا تخيب رجائى .

وكدت أضحك من تعبيره لولا رهبة الموقف ، فلبست معطفى فوق المنامة (٣) ، وأخذت سماعتى وحقييتى .

. . . واستراح (( البك )) . . . وكان فى استقبالي وتوديعى ربة القصر . وهى سيدة وقور رزان تداعب الخمسين ، ولكنها تبدو أقل من الأربعين ، جميلة ، ولكن قسمات وجهها تبعث فى القلوب من الهيبة والاحترام أكثر مما تبعث من الحب والإعجاب . وحينما صافحتنى مودعة دعتنى إلى زيارة القصر فى الغد للاطمئنان على صحة (( البك )) .

ووفيت فى الغد بوعدى ، وذهبت إلى القصر ، وقوبات بحفاوة وترحيب ، وسلم على (( البك )) هاشا باشا ، وقد استرد صحته ، وأخذا - هووزوجه - يلاطفانى ويشكرانى ، وأنا مأخوذ بسحر المقابلة والملاطفة ، وبروعة القصر وأنانه ، و . . وشربنا الشاى ، وتجاذبنا أطراف الحديث الذى تفرع وتشعب ، وتطرق إلى الصحة والطب . واقد كان من حديثي (( للبك )) أن خير ما يحفظ صحته ، ويبقى على قوته الترويح عن نفسه دائما . . . وأبنت له سحر الموسيقى فى ذلك وأفضت إفاضة الخبير . . وكم كان مجبى إذ سمعت من ربة القصر تهيدة تفيض أمى ، ورأيتها تهز رأسها

كمن يريد أن يطرد من خياله بعض أشباح الذكريات . . وتكررت الزيارات ، وكنت ألقى من (( البك )) كل

حدب ورعاية . أما السيدة فقد كان قلبها يقيض بالحب الأموى الصادق . وعيناها تنطقان بالحنان العميق ، وكانت ترنو إلى رنوات الأم إلى وحيدها المدلل .

ولقد قالت لى مرة : أراك تتحدث كثيرا عن الموسيقى وأخبرنى (( عواد )) أنك تعزف كثيرا على القيثارة . فهل أنت مغرم بها إلى هذا الحد ؟ فقلت لها : إننى أرى أننى خلقت لها . وكنت أود أن أهب نفسى إياها ، ولكنى أرغمت - تحقيقا لرغبة والدتى - أن أسلك طريق الطب ، ومع ذلك أحمد الله على أن ذلك لم يلهنى من إشباع رغبتى . . .

ثم سألت : ألم تتزوج ؟ فأجبت : كلا !!

فتنهدت طويلا ، وهزت رأسها وقالت : لقد تحقق حلمك يا عصمت !! قلت لها : ومن عصمت ؟؟ قالت : وحيدتى ! لقد وهبت نفسها للموسيقى ، فامتزجت بروحها ودمها ، وكانت كل أمنيتها أن تجد ذلك الشاب الذى يقدر الفن قدره ، فهو حد بينهما برباط طاهر مقدس متين .

ولطالما سفهت رأيها ، وحاولت عبئا إقصاء هذه الخواطر عن نفسها ، وكانت أمنيتى أن يكون زوجها طبيبا ، وكثيرا ما احتدم بيننا الخلاف ، وأخيرا كنا نبتهل إلى الله أن يحقق أملينا معا . وها أنت ذا !! فنان وطبيب !!

آه لو رأيتها ! ! جميلة . . حلوة . فتانة . . ساحرة . . بماذا أصفها ؟ ؟ ودعنا من هذا ! ! تعال معى! ! وجذبتنى وقادتنى إلى حجرة فاقت كل ما يتصوره الإنسان من الفخامة واليها ، والجمال والرواه . . . إنها غرفة (( عصمت )) الخاصة ، فيها سريرها . . . ومكتبها . . وبيانها وصوان ملابسها ، وإن شئت فقل إنه متحفها ، ففيه كل شئ يخصها حتى الزهرية فيها الأزهار التى تحبها متسقة نضيدة ، غضة ناضرة .

وعلى (( البيان )) صورتها فى وضع طبيبى فاتن ، فى إطار ذهبى أنيق .

يا الله  ! ! إنها لرائعة ساحرة ! ! وتملكتنى الحيرة والدهش ، ووقفت مأخوذا مبهوتا ، لا يستقر طرفى على شئ فى هذا المتحف المجيب ، فكل ما فيه فاتن ساحر . ولم تكتف السيدة بذلك ، بل فتحت أحد أدراج المكتب ، وأخرجت منه محفظة أنيقة ثمينة وأخرجت ما فيها ، كلها صور لعصمت ، وكانت السيدة تنثرها أمامى واحدة فواحدة وكانت تردد كثيرا : أليست جميلة . . . أليست رائعة ! !

ثم فتحت درجا آخر ، وأخرجت منه كثيرا من (( النوت )) الموسيقية ، وتعزفها أمامى أيضا ، وتشرح : هذه لعبد الوهاب ، وتلك للنسجي ، وهذه لبيتهوفن ، وتلك لوزار . أما هذه فمن وضعها هى ، وعنوانها (( أحلام )) وتلك أيضا وعنوانها (( دللال )) ثم قالت : أتجيد العزف على (( البيان )) ؟ فقلت : بعض الإجادة فسألتنى أن أعزف بعض القطع التى وضعتها (( عصمت )) . وما إن عزفت قطعة بعنوان (( فراق )) حتى بلغ التأثر منها كل مبلغ ولم تستطع مغالبة الدموع ، وأرادت تبرير ذلك فقالت : إنك لرائع ! ! فقلت : بل إن (( عصمت )) هى الرائعة ! !

ولقد وجدت من نفسى جرأة على سؤالها : وأين عصمت ؟ ؟ فقامت إلى نفسها ، وقالت : تسألنى عن عصمت آه ! ! لقد دعاها عمها ( رياض بك ) إلى قضاء شهرين فى ضيعته بالريف .

ثم أشمل لفافة ، واستأنف حديثه  . وكانت حياتى أهدأ من مياه الغدير الرقراق ، وجد هذا الطارئ فكان كالحجر يلقى فى الغدير غير جه رجا عنيفا . وكان قلبى غافيا ولكنه صحا متمردا ، ظامئا .

وكنت أفضى الليل ساهرا ، وأمامى صورة لعصمت

اختلستها من بين صورها ، فأتأمل عينيها الحالمتين ، وشفتيها الظامئتين ، وأتملى جمالها الباهر ، وحسسها الساحر

وكنت أحتضن قيثارتى ، فأنطقها بما أعجز عن التعبير عنه ، وأضممها إلى صدرى لتترجم همسات القلب وخطراته .

وكم حمدت الله أن حقق ذلك الحلم الجميل الذى كان يراودنى فى يقظتى ومنامى :

وأنت تعرف أننى ريب الريف بعاداته وتقاليده ، ولكى تأثرت بالمدن بحضارتها ومدنيتها . ولقد كنت مبلبل الفكر لا تروقنى الريفيات لجهلهن وتأخرهن . . وأمقت المدنيات لخلاعتهن وتبذلهن . . وأخيرا اعتقدت أن الله قد حقق ما كنت أصبو إليه وأحلم به .

ولبثت منتشيا بخمرة هذ الأحلام أكثر من شهرين . ولم أدر تحديد هذه المدة إلا بعد أن سموت - كنت فى أثنائهما أحج إلى متحف (( عصمت )) فأتزود منه بزاد من الوحى والإلهام ، والمنى والأحلام .

. . واستبد بى الهوى ، وأرقتنى الأوهام والأحلام ، وعيل الصبر .

وكنت جالسا مع (( عمى عواد )) فى الحديقة ، نتجاذب أطراف الحديث ، وكنت - إلى تلك اللحظة - أنزة امم معبودتى أن يذكر ، أو أن يكون موضع حديثى مع أى شخص ، لاسيما عمى عواد الذى تطورت علاقتى معه ، فانقلبت من الحب إلى الاحترام بعد أن رأى منزلتى فى القصر ، حتى لقد أضحي يلقبنى (( بسيده )) .

ولكنى مع هذا لم أجد حرجا ، بل وجدت نفسي مندفعا إلى سؤاله عن عصمت . وما إن نطقت اسمها حتى أنتقص الرجل ، ورفع كفيه وناظريه وقال فى شبه تضرع وابتهال : الله يرحمها ! ! الله رحمها ! ! لقد ماتت منذ عامين ! ! وذرفت عيناه الدموع .

ومن الغريب أننى تملكنى الذهول ، وانعقد

لبدائى، ونظرت نظرة خرساء ، وبسمت بسمة ساخرة بلهاء . وفى لحظة خاطفة وجدتنى مطرودا من جنة الأحلام إلى أرض الحقيقة والآلام .

وأغرب من هذا أننى كنت أخدع نفسى ، فأطوف حول أسوار هذه الجنة المنيعة ، وأوهمها أنها لم تمت ، وأبقيت صلتى بالقصر ، وكنت أحج إلى معبدها ، فأقضى لحظات أنتثى فيها بسحر هذه الجنة ونعيمها . . ولكن مارد الحقيقة الجبار ، لا يلبث أن يكتشف مقرى ، فيطبق على بيديه الفولاذيتين ، ويقذف بى مهشم الاضلاع مضعضع الحواس .

ثم تأوه صاحبى أهة عميقة واغرورقت عيناه ، وشرد قليلا ثم أفاق قائلا : وتسألنى بعد هذا : لماذا لم تتزوج ؟ .

فقلت له : ولا زات اسأل ! ! فقال : لقد كان قلبى وردة ناضرة ، ولكنها لم تتفتح ، وما إن أطلت عليها (( عصمت )) بسحرها حتى تفتحت ، ولم تلبث إلا قليلا حتى انطبقت . فقلت : ومتى تتفتح مرة اخرى ؟ فتنهد ثم أخرج من محفظته صورتها وقال : لن يفتحها إلا عصمت أخرى ، ولكن هيهات ! !

(سوهاج)

اشترك في نشرتنا البريدية