- ٤٩ - لقد هبطت عن عرشك لتقف بازاء باب كوخي كنت جالساً وحدي في زاوية أترنم بألحان ألقيت أنت إليها سمعك فهبطت عن عرشك لتقف بازاء باب كوخي
وفي فنائك أحتشد العظماء والأغاني تتردد هناك في كل حين؛ غير أن لحناً بسيطاً أرتفع بين هذه الأغاني فجذبك إليه؛ هو لحن قصير فيه الشجن أختلط بموسيقى العالم العظمى فهبطت ومعك هدية من زهر. . . هبطت لتقف بازاء باب كوخي
- ٥٠ - وانطلقت أتكفّف الناس وأنتقل من باب إلى باب على طريق القرية. ثم بدت عربتك الذهبية عند الأفق كأنها الحلم اللذيذ ! فعجبت: ترى من يكون ملك الملوك هذا
ولمع الأمل في نفسي وخيل إلي أن أيام السوء قد انقضت فوقفت أنتظر الهبات، وهي تعطي في غير سؤال، والمال وهو ينثر هنا وهناك
ووقفت العربة بازائي. وحين وقع بصرك علي دلفت نحوي وعلى شفتيك ابتسامة، فاستشعرت السعادة في نفسي؛ وعلى حين فجأة مددت إلي يمناك وأنت تقول: (ماذا عندك لتهبه لي؟)
آه! إنها دعابة ظريفة أن تمد يدك تسأل شحاذاً. واضطربت وسيطرت عليّ الحيرة ثم تناولت من سلتي أصغر حبة قمح. . . تناولتها في بطء وقدمتها إليك
لشد ما عجبت حين أفرغت سلتي عند الغروب، فألفيت بين متاعي الحقير حبة من ذهب في قدر حبة القمح، فرحت أبكي في حرقة وأسى لأنني لم أجد في نفسي القوة على أن أقدم إليك كل ما أملك
- ٥١ - أظلم الليل وانتهى عملنا اليومي، وخيل إلينا أن آخر ضيف قد قدم لأن أبواب القرية غلقت؛ غير أن قائلاً قال: (سيأتي الملك)
فسخرنا منه وقلنا: (لا، لا يمكن!)
وبدا لنا كأن طارقاً يدق الباب فقلنا إنه الريح؛ ثم أطفأنا المصابيح وانطلقنا إلى الفراش؛ غير أن قائلاً قال: (إنه رسول!) فضحكنا منه وقلنا: (لا، بل هي الريح!)
وفي أعماق الليل دوى صوت فخيل إلينا - والنعاس يغالبنا - أنه هزيم الرعد؛ ثم زلزلت الأرض زلزالها، واضطربت الحيطان ففزعنا عن مراقدنا، وقال قائل: (إنه صوت عربات) فقلنا في صوت الحالم: (لا، إنه جلجلة السحب!)
وفي جوف الليل رن في مسامعنا دوي الطبل، ونادى مناد: (هبوا، لا تنوا!) فوضعنا أيدينا على قلوبنا والخوف ينفضنا نفضاً شديداً، وقال قائل: (ويلي، هاهي ذي راية الملك تخفق!) فاندفعنا نصيح: (لقد أزف الوقت فلا تتكاسلوا!)
لقد جاء الملك، ولكن أين المشاعل؟ أين الأكاليل؟ أين العرش ليستوي عليه؟ يا للفضيحة، يا للعار! أين الدار؟ أين الزينة؟ فقال قائل: (عبثاً تصيحون، حيوه بأيد فارغة وادعوه إلى حجراتكم المعطلة. . .)
افتحوا الأبواب، واعزفوا الألحان! ففي جوف الليل جاء الملك إلى بيتنا الموحش المظلم. إن الرعد يزمجر في السماء وإن البرق يزيح أستار الظلام. هات فراشك البالي وأفرشه في الفناء؛ فهو قد جاء على حين بغتة مع العاصفة الهوجاء. . . هو رب الليل الحالك المهيب. . .
- ٥٢ - لقد أردت أن أطلب إليك عقد الورد الذي تحلي به جيدك غير أني لم أجسر، فانتظرت حتى تبرح عند الصباح. وحين غادرت وجدت بقايا منثورة على الفراش، وفي السحر رحت أفتش عن الوريقات المفقودة كأنني شحاذ
آه، ماذا وجدت؟ ماذا تركت ذكرى هواك؟ إنك لم تترك الزهر ولا العبير ولا زجاجة عطر بل سيفك العظيم يتألق كشعلة من لهب، وهو ثقيل كالصاعقة. لقد أخترق نافذتي أول شعاع فتيِّ من أشعة الصباح فهم الطير يسقسق ويسأل: (أيتها الفتاة، ماذا أصبت؟) لا، لم يكن الزهر ولا العبير ولا زجاجة عطر، بل هو سيفك المهيب
وجلست أفكر في دهشة: ماذا عسى أن تكون هذه الهدية؟ لم أجد له مخبأ، وإني لأخجل أن أتقلده وأنا حطام متهدم، وإنه ليؤذيني إن ضممته إلى صدري، ولكني سأحمل في قلبي هذا
الشرف. . . هذا العبء الثقيل من الآلام. . . هذه الهدية الغالية والآن لم يبق في هذه الدنيا ما أخافه لأنك أنت نصيري. لقد نزعت عن رفيقي الموت، فسأفديه أنا بروحي. إن سيفك معي لأحطم به قيودي فلا يبقى في هذه الدنيا ما أخافه
سأنزع عن نفسي - منذ الآن - زخرف الحياة؛ ولن أتوارى بعد - يا مليك القلب - في ركن أبكي، ولن أستحي أو أرقق من خلقي فأنت قد حبوتني سيفك لأزين به فلن أتحلى بسواه من زينة الحياة
ما أجمل سوارك وقد زينته النجوم، ورصعته كواكب الحلية؛ غير أن سيفك أحلى منه في عيني وهو يلمع كأنه جناح طير فينشو المقدس، وقد انتشر في أشعة الغروب الحمراء
، إنه يضطر كأنه آخر أحاديث الحياة حين يسيطر الألم على الإنسان في ساعة الاحتضار فيذهله عن نفسه؛ ثم هو يتألق كأنه شعاع الوجود الطاهر حين يرسل شرارة حامية فتلتهم كل العواطف الأرضية
ما أجمل سوارك وقد زينته كواكب الحلية! غير أن سيفك - يا إله الرعد - قد رصع بجمال باهر يفوت الوصف ويفوق الخيال
- ٥٣ - لن أطلب إليك شيئاً؛ ولن أذكر اسمي عند مسمعيك. وحين تنأى عني سأقف في صمت. لقد كنت لدى البئر وحدي والظل وارف، والفتيات ينطلقن إلى دورهن، يحملن جرارهن المترعة؛ لقد نادينني: (تعال معنا، إنه يضنيك أن تنتظر من لدن الصباح حتى الظهر) غير أني ترددت حيناً ثم ذهلت عن نفسي وسط الخواطر المضطربة
ما سمعت دبيبك حين جئت، وكان في نظراتك الأسى حين وقع بصرك علي، وكان في صوتك أثر الأين والتعب حين قلت: (آه، إنني مسافر ظمآن) ففزعت عن أحلامي لأصب الماء في كفيك، فحفت الأوراق من فوقنا، وانبعث شدو الطير يمزق سكون الظلام، وفاح أريج عطر الزهرات من منعطف الطريق
ووقفت صامتاً في خجل حين سألتني عن أسمي، ماذا أسديت إليك فتسأل عن أسمي لتذكرني؟ ولكن ذكرى الماء الذي أطفأت به حرتك ستعلق بقلبي وتبعث فيه الرضى. إن ساعات الصباح
قد انطوت، والطير يغرد في كلال، والأوراق تحف من فوقي، وأنا جالس إلى نفسي أفكر وأفكر
- ٥٤ - ما يزال الفتور يسيطر على قلبك، والنعاس يستولي على عينيك أفلم يبلغك أن الزهرة تحكم بين الشوك في كبرياء؟ أستيقظ؛ أوه، انتبه! لا تدع الزمان يمر عبثاً
عند نهاية الطريق الصخري وفي بلاد الوحدة الطاهرة. . . هناك يجلس صاحبي في عزلة، فلا تخدعه. أستيقظ؛ أوه، انتبه!
ماذا لو أن السماء تلهبت واضطربت في قيظ الظهيرة المحرق. . . ماذا لو أن الرمال المتأججة نشرت لظى الظمأ. . .
أفلا تجد الطرب في قرار قلبك؟ أفلا تتفجر قيثار الطريق - في كل خطوة من خطواتك - عن لحن شجي فيه الألم؟
- ٥٥ - إن رغبتك تامة فيّ، وإنه أنت الذي هبطت إليّ؛ فمن عسى أن يكون حبيبك - يا إله الملك - إن لم أكُنْه؟
لقد اتخذتني لك شريكاً أقاسمك هذا الثراء العريض؛ ففي قلبي السرور اللانهائي أستمده منك، وفي حياتي مشيئتك تسيطر عليّ
لهذا زينت نفسك - وأنت ملك الملوك - بالجمال الخلاب لتأسر قلبي، ولهذا بذلت حبك في سبيل من تحب، فظهرت للأعين كاثنين امتزاجا معاً
- ٥٦ - أيها النور، أيها النور الذي تشرق على العالم، وتقبل العيون وتنفث البهجة في القلوب!
آه، إن النور يرقص - يا عزيزي - في أعماق حياتي إنه يضطرب بين أوتار قلبي؛ إن السماء تنفرج، والريح تهب عاصفة، ورنات الضحك تتردد على الأرض
إن الفراش ينشر أجنحته على لجة النور، والزنبق والياسمين يضطرب فوق موجها
لقد تحطم النور فوق كل سحابة - يا عزيزي - إلى قطع من لجين استحالت إلى جواهر تتألق
إن البهجة تتناثر - يا حبيبي - على أوراق الشجر فيعم السرور، وإن نهر السماء يفيض على شاطئيه فيملأ الطرب كل مكان
