لنا فى كل يوم مثل جديد ينهض دليلا قاطعا على أن النهضة الفكرية الحديثة جادة لا هازلة، قوية لا تعرف الخور، ثابتة الأصول لا يخشى على بنائها من الزلل والسقوط، فهي نهضة تستمد الوحي من ماضيها الناصع المجيد، ثم لا تقف عند ذلك راثية باكية، إنما هى تتخذ من ذلك الماضي عدة. وعماداً لمستقبل تنظر إليه بعين يملأها الأمل، وقلب يحدوه الرجاء. وأن نهضة لا تقيم صرحها فوق هام ذلك العماد الركين، لهي هباء يسبح فى الهواء، لا يتصل بالأرض ولا يرتفع إلى السماء. لأنها عندئذٍ تكون هائمة فى عزلة زمنية، لا تعرف لشوطها مبدأ ولا نهاية، كما يخبط ذو السبيل الجائر فى بيداء موحشة مقفرة، يرى الموت جاثماً فى أحضان كثبانها أنى سار
وإنا نضرب لك مثلاً أوروبا حين قامت تنفض عن نفسها غبار القرون الوسطى ونهضت تشيد حياة جديدة زاهرة، فلم تنشىء جديداً من عدم، ولا هى أولت القديم ظهرها مزدرية له ناقمة عليه، بل نظرت إلى الوراء قبل أن تبدأ السير إلى الأمام، واستلهمت التاريخ - تاريخ الإغريق والرومان - لتستقي من معينة الدافق ماء الحياة التى تريد.
من أجل هذا، يحق لنا أن ننظر إلى نهضتنا نظرة فيها ثقة ورجاء، لأننا نلاحظ فيما نلاحظ اتجاهاً إلى تاريخ العرب والإسلام، يزداد سعة وشمولاً فى اطراد لا ينقطع، وأقل ما يقال فى هذا الاتجاه، أنه يشحذ الهمم الخامدة، ويهدي نهضتنا سبيلاً سواء. فبين يدي الآن مجلدات أربعة، كتبت فى حاضر العالم الإسلامي، ألفها الكاتب الأمريكي لوتروب ستودارد ثم نقلها إلى العربية
الأستاذ عجاج نويهض وفيها فصول وتعليقات وحواش مستفيضة عن دقائق أحوال الأمم الإسلامية وتطورها الحديث بقلم الأستاذ الكبير والمجاهد العظيم الأمير شكيب أرسلان، وقد يظن القارىء
- وله عذره فى هذا الظن - أن الكتاب المترجم هو الأصل، وأن ما كتبه الأمير شكيب حواش متناثرة هنا وهناك، ولكن الواقع نقيض ذلك، فالفصول المترجمة لا تتجاوز خمس المقدار، وأربعة الأخماس الباقية هى حواش للأمير، وأنه ليخيل إلي أن كتاب لوتروب أتخذ تكأة لنشر هذه الفصول الكثيرة القيمة التى دبجتها يراعة الأمير شكيب أرسلان فى شئون المسلمين والإسلام فأما الفصول المنقولة إلى العربية التى استأثرت بعنوان الكتاب فهي تسع كلها بحث دقيق فى حالة الشعوب الإسلامية فى العصور الحديثة، فهو يحدثك فى تحليل ممتع عن اليقظة الإسلامية، والجامعة الإسلامية وسيطرة الغرب على الشرق، والتطور السياسي، والعصبية الجنسية والتطورين، الاقتصادي والاجتماعي، ثم يختم فصوله يبحث فيما يسود تلك الشعوب من قلق يدفعها إلى الثورة والانقلاب
أما حواشي الأمير فليس إلى حصرها من سبيل، وكلها شيق ممتع ولكنها - عندي - قد خرجت بالكتاب عن وحدته وتجانسه، بل خرجت بالكتاب عما يجب أن تكون عليه الكتب من تركيز فى موضوع بعينه، وأدنته من دوائر المعارف التى من شأنها أن تجمع بين دفاتها شتيتاً من ضروب العلم والمعرفة، وهو يعترف بذلك فى المقدمة إذ يقول عن هذا الكتاب أنه لم يصل بعد إلى الدرجة المنشودة من السعة والشمول، وانه يرجو أن تتسع يوماً ما حتى (يصح أن يقال أن فى اللغة العربية إنسيكلوبيديا إسلامية أشبه بموسوعات العلوم التى عند كل أمة من الأمم الراقية التى يقتدي بها) ثم يستطرد فيحفز همة الحكومات لوضع تلك (الإنسيكلوبيديا فيقول (وهذا الأمر وهو وضع معلمة إسلامية وافية ضافية لا يجوز أن يغيب عن نظر الحكومات الإسلامية التى تبغي الفلاح، وتنشد الرقي والطيران إلى النجاح بجناح ...)
ومهما يكن من أمر هذه الفوضى فى التأليف لا نطمئن إليها
ولا نرضاها، فهو كتاب جليل القيمة كبير النفع، ويجدر بنا أن نقتبس لتقديمه إلى القراء عبارة الأمير التى صدر بها الكتاب (أما كتابنا هذا فى أجزائه الأربعة فأنه يجوز أن يقال إنه معلمة إسلامية صغيرة، بل هو فى المباحث الجغرافية والتاريخية والإحصائية عن أقطار الإسلام النائية وبقاعة المجهولة فذ فى بابه، وكذلك يمتاز هذا الكتاب بالمباحث السياسية التى قيض لمحررها أن يعلمها. من عين صافية، وأن يقف على الرواية الوثقى منها بطول خبرته، وقرب سنده، واستمرار مزاولته لهذه الأمور47 سنة، وفيه بعد تراجم وأخبار، لم يسجلها كتاب ولا جرى بها قلم، فلا يجدها الناشد فى غيره إذ هى نتيجة مشاهدات الكاتب وما رآه بالعين وما سمعه بالأذن، وما كان له فيه أخذ ورد. وعلى كل حال ففي هذا الكتاب من الطريف ما لا يسع إنكاره الجاحد، ولا يضير مراء الحاسد. ولا شك فى أن الأمة الإسلامية الناهضة إلى تجديد تاريخها، النازعة إلى النماء بجميع فروعها وشماريخها، ستتفطن إلى كل ما يعوزها من هذه المقاصد الجليلة، ومن جملتها تأليف المعلمة الكبرى التى هى من ضرورات رقيها وأشراط نموها،.
