الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 1الرجوع إلى "الفكر"

حافظ ابراهيم، كما أراه اليوم

Share

خمسة وعشرون عاما مضت على وفاة حافظ ابراهيم ! فيالسرعة سير هذا الزمن المتعجل ! ويا لقصر هاته الاعمار!

انني لاتذكر جيدا ذلك الصيف من سنة ١٩٣٢ حين نعنى الينا حافظ . فقد كنت اذ ذاك بالقيروان اكتب مقال " الشعر فى تونس " الذى نشر فى مجلة " العالم الادبي " وفيه أذكر الادباء التونسيين بأن الشاعر الحق هو الذي يكون في الطليعة يدل الامة على طريق الحرية ويهيب بها الى مقاومة الظلم والظالمين . وقد ضربت المثل على ذلك بشعر حافظ ابراهيم فى مصر ومعروف الرصافى فى العراق . وما ان أنهيت الكتابة حتى حملت الينا جريدة " النهضة " نبأ موته فأشرت الى ذلك فى ذيل المقال .

لقد كان حافظ ابراهيم فى نظرنا ، نحن شباب ١٩٣٢ رمز الشاعر العظيم ، وكنا فريقين فريق يتعصب لحافظ وفريق يتعصب لشوقى . وكانت المنازعات والخصومات لا تخلو من طرافة . ولم نكن فى ذلك الا صورة مصغرة من المنازعات والخصومات التى كانت تثار فى مصر وفى كامل البلاد العربية حول هذين الشاعرين ، ذلك أنهما كانا قطبي الشعر العربى فى ذلك الزمن ، وكان شعرهما يملأ دنيا الادب ويشغل أعمدة الصحف ، ويمكن القول انهما أخملا كل من عداهما من شعراء مصر واغلب شعراء البلاد العربية على كثرتهم

نعم ! مضى ربع قرن على وفاة حافظ ابراهيم وفي خلال ربع القرن هذا جدت على العالم العربى احداث هزت كيانه ، وظهرت تيارات فكرية لا عهد للعرب بها ، ونبغ شعراء ذهبوا بالشعر العربي مذاهب جريئة ، واودعوه احاسيس جديدة فى قوالب مبتكرة وتعابير متحررة من سيطرة الماضى . فكيف اصبح يبدو لنا حافظ بعد مرور هاته السنوات الخمس والعشرين ؟

أقول بكل صراحة انه اصبح بعيدا عنا . انه لم يعد يرضينا ولم نعد نجد عنده غذاء لعواطفنا وارواحنا . اننا نقرأه اليوم فيستولى على نفوسنا السأم والفتور؛ ان الاغراض التى يتناولها في شعره لم يعد يهمنا منها الا الجانب التاريخي ؛ وان المشاكل والمآسى التى يحدثنا عنها تظهر لنا هينة لينة الى جانب المشاكل والمآسي التى يتخبط فيها العالم العربى اليوم بعد كارثة فلسطين وحرب الابادة فى الجزائر ومؤامرات الساسة الغربيين على ثروات الشرق العربى واستقلاله

أجل ! لم يعد يروقنا من حافظ غضباته الفاترة وحماسه المتزن وشكواه الهزيلة يصوغها في اسلوب ناعم حريري لا يكره ان يتسلى ويتلهى - بعض الاحيان - بالمحسنات البديعية والقوالب الجوفاء .

القد اصبحنا نريد من الشاعر ان يكون ثائرا ومن الشعر ان يكون ثوريا .

اصبحنا لا نستطيع قراءة الشعر الفاتر اذا قيل فى الاغراص السياسية والاجتماعية .

اصبحنا نريد من الشاعر ان يكتب اشعاره بلهجة نارية مدمرة او يسكت سكوت القبور . والحقيقة ان بعض اشعار القدامى وبعض الشعراء الاقدمين اقرب الينا من شعر حافظ وان بعد اصحابها فى الزمن . فعضبات المتنبى مثلا وهمزات ابى العلاء للمتسلطين وهجاء ابن الرومى لاعداء الشيعة ما زالت تثير فى نفوسنا اي اصداء وتقدم لعقولنا متعا فكرية حقيقية . ذلك ان اصحابها طبعوها بطابع ثوري او انسانى لا يؤثر فيه مرور الزمان وتعاقب الاجيال

إذن فما هو مكان حافظ في الادب العربى ؟ ليس من غرضنا ان نكتب دراسة عن ادب حافظ او نعقد مقارنات بينه وبين شعراء عصره - لقد قيل كل شئ عن حافظ في حياته وفى خلال هاته الفترة التى مرت بعد وفاته - انما نقول - بايجاز - ان ظهور حافظ فى فترة معينة من تاريخ الامة العربية كان ضرورة من ضرورات كفاح الشعوب ضد الظلم والاستعمار - إن الكوارث القومية توجد الشاعر الذى يهيب بالامة ليوقظها من سباتها ويبعث فيها الوعى بذاتها او - إن كانت واعية يقظة - ليعبر عن شعورها وتوقها الى حياة الكرامة والحرية - حتى اذا قضت وطرها ووصلت الى غايتها بقى الشاعر قائما فى التاريخ يدل على المراحل ويذكر بالطريق المقطوع.

ان حافظ لم يكن من طراز أولئك الشعراء الصالحين لكل زمان ومكان ، الذين يستطيعون ان يقدموا للانسانية فى كل اطوارها واجيالها غذاء فكريا وزادا روحيا ونورا لا يزداد - مع مرور الايام - إلا سطوعا واشعاعا بل كان الشاعر الذى تنبته البيئة لغرض من الاغراض وتفرض عليه ظروف زمانه وظيفة من الوظائف حتى اذا فات الغرض وانتهت الوظيفة سكت الشاعر ولم يعد عنده ما يقول - وقد سكت حافظ فترة طويلة من الزمن رضي فيها بالوظيف الحكومى وخضع الى القيد وهو الذى كان مفروضا عليه ان يفر من كل قيد .

لا نكران أن حافظ - رحمه الله  - كان شاعرا نافعا ، وانه اسهم بقسط كبير فى ايقاظ الامة العربية وبعث وعيها السياسى والقومى ، ولا نكران انه كان ابن الشعب البار وترجمانه الصادق فى التعبير عن غضبه ورضاه وآلامه وآماله في وقت لم يكن الشعب يدخل فى اهتمامات الشعراء ولكن كل ذلك لا يكسب حافظ - في رأينا - المكانة التى تجعلنا نرى فيه عبقرية من انصع العبقريات الشعرية العربية في العصر الحديث أو نرى فيه قائدا واماما يستطيع ان يلهب حماسنا ويغذى ثورتنا فى هاته الآونة التى يتلمس فيها العالم العربى طريقه ويستقبل عهدا جديدا لاعهد له بمثله فى ماضيه الطويل .

اشترك في نشرتنا البريدية