الحقيقة بطبيعتها جافة ثقيلة على النفس ، ولكنها إذ تمتزج بالفن يتجلى . فها الجلال والجمال ، والفوة والاناقة ، والبهاء والروا ، والسفاء والوضوح ، فهش لها النفس ، وتهفو محوها الروح ، وبنطلق العقل فى رحاسها الفسيح نشوان متيقظا كالنحل يرف على رحيق الزهر
ولا غرابة إذا لم يكن للحقيقة من نفسها بعض هذا ، وكان لها من الفن كل هذا ، فان مرمة الفن أن يجمل الأشياء ، ويقرب الاوضاع ، ويزين الواقع ، ويصل الحقائق المجردة بالعواطف والاحاسيس ، وغاية الرضا عند الانسان ان يشبع ما فيه من المواطف والأحاسيس
لهذا مجدنا نجفو كثيرا من الحقائق إذ يسردها التاريخ ، ولكنا تهش إليها إذ يروسها الفن ، وإنا لترددها كثيرا فلا تزيدنا الابتا ودة ، ونكررهامر مرارا فلا تنمرنا إلا بالراحة والاطمئنان وها محن أولاء محب أن نتغني كثيرا بخروب طروادة ، وتشغف باخبارها وملاحمها غابة الشقف ولكن لا كما رواها ارواة ودونها المؤرخون ، بل كما انشدها فى القديم الغابر شاعر ضرير اسمه " مرميروس "
وهذه القصة التى تقدمها للقراء اليوم إنما هي حقيقة من تلك الحقائق التاريخية خرجت في إطار من الفن الهذب ، فموضوعها ) حياة جان درك ( وهي اشهر مجاعدة قديسة فى تاريخ النصرانية ، واعرب شخصية بين الكفايات الممتازة الشاذة الاطوار في القرون الوسطى ، جاهدت أن تفرض نفسها ودعا واعاها على الناس فرضا ، فشاع اسمها وذاع فى غرب اوربا ، ولم تكن بلغت العشرين بعد ،
وقد بهضت من الحضيض إلى العلاء مهضه باغته ، لم يكن للناس فيها إلا رايان : رأي يقول : إنها آية من آيات الله ، ورأى يقول : إنها امرأة ثقيلة الظل لا يطبقها إنسان ) ١ (
هي أما واشية مؤلفها فهو ) جورج برناردو ( وهو فى الأدب الانجليز من أكبر شخصياته إن لم تقل اكبرها في القرن العشرين ، وفي احقاب خلت . والقوم هناك بقدسونه إلى حد كبير ، فلن نجد بينهم اسما فى عالم الأدب والسياسة ترهف له الأذان كاسمه ، ولا جدلا بهرع الناس لحضوره كجد له ، ولا لسانا أقذع فى النقاش والذيع فى الجواب كلسانه ، ولا فكاهة تتم عن صاحبها كفكاهته ، فهو شخصية قوية ، وعبقرية متتميزة بكثير من المواهب ، وان له فى فن القصة آيات بينات ) ٢ ( .
وأما المترجم فهو رجل درس العلم ، واتصل بالأدب ، وعالج الترجمة ، فأكسبه العلم الدقة فى الأسلوب ، والتعقل فى الاختبار ، وأفاده الأدب السلامة فى التعبير ، والأناقة فى اللفظ ، وكان له من علاج الترجمة خير سران مكنه فى هذه الناحية وثبت قدمه ، فهو امين في نقل غرض المؤلف ، فطن فى فهم إشاراته ومراميه ، واضح فى التعبير عن ذلك كل الوضوح . وتلك درجة قل في المترجمين من يبلغنها ، وهي الفرق بين ترجمة وترجمة . وهي التى تثبت شخصية المترجم فما ينقل ، وأنا إذ أقول سلامة التعبير ، فأنا اشهد بأن المترجم قد بلغ في ذلك الغاية ، ١٦ قرأت الرواية وأنا أراقب الرجل في أسلوبه ، وحاولت جاهدا أن أحصى عليه ، فلم أقع إلا على ) أصواتها الداوية ص ٧١ ( ، ) كلما داهمهم ص ٢٣٤ ( ( نقص نضوجها ص ٢٦٨ ( . على أن تلك من الأخطاء الشائعة فى الألسن والأقلام ، فقيل فى الأدباء من يفطن إلى الصواب في ذلك فيقول : ) مدوية . وهمهم . والنضج ( . على ان الاخيرة مما يصح فى القياس وإن لم تثبت فى السماع .
ولقد كثرت الترجمة فى هذه الآيام ، وملات فجاج الارض وزادت على حاجة القراء خصوصا فى الأدب الرواني ، ولكنها فى الواقع ترجمة رخيصة مبتدلة ، لا تتصل بفن ، ولا تقوم على وضع ولا تزيد في الثروة الأدبية ولكنها نقص وتدهور ، فهى لا تعنى إلا بالقصص الداعر ، والغراميات الحيوانية ، وحواءث الاجرام واللصوصية ، والسفك والانتحار ، وكل ما هو تمرد على الأخلاق وقلب للا وضاع ، واستهانة بالتقاليد . اما الترجمة القويمة التى محن فى أشد الحاجة إليها لتنهض بنا في متاحي البقل والنفكير والشعور والاحساس والحب والعطف والخير والكمال فذلك عندنا شئ قليل نادر كالكبريت الأحمر ، وما ترجمة ) جان درك ( إلا من هذا الشئ القليل النادر ، المفيد النافع ، فهي ليست من القصص الفارغ الذي يطلبه الفارىء لفتل الوقت وتزجية الفراغ ، ولكنها أثر أدنى جليل حى بموضوعه وبفنه ، فترجمتها إلى العربية يد جليلة - وفكرة رشيدة قد أسداها الدكتور الفاضل إلى اللغة العربية والفكرة العربية
وقد تقول : إن قصة ) جان ( العميمة في وقائعها قاسية على العواطف بفجائعها ، وانا اقول : أجل ولكنها مع ذلك سائغة محتملة بالفكاهة والنكنة المستبلحة ، والنادرة الساخرة ، والبادرة البارعة ، يحرص ) شو ( على ذلك فى كل مواقف الرواية وحوادثها ، وناهيك بفكاهة ) شو ( وبراعته في ذلك ، ولت زاد في قوة الرواية الفنية تلك الحياة التى خلقها ) شو ( فى كل أشخاصها فكل منهم متحرك في عمله ، وكل منهم ظهر بنفسه في تأدية دوره ، فلا ظهور لشخص على حساب شخص معطل كما يفعل ذلك كثير من القصصين ، ولا نبر ولا شذو ولا إغراق كما صنع مارك توين في قصته عن ) جان ( ولكها الراد مجرى على الوضع الطبيعي وتسنقر على النهج المألوف
ر . يا يزيد فى قيمة الرواية ويرفعها تلك المقدمة الحافلة التى تناول فيها المؤلف شخصية ) جان درك ( الغريبة ، فنظر إليها من جميع جهانها ، وابدى رأيه صريحا فى كل مظهر من مظاهرها وقارن بينها وبين الأشخاص الدين هم على شاكلتها ، وانت تعلم أن جان فرنسية ، وشر ايجلنزي ، وجان كاثوليكية ، وشو نشأ في بيئة بروتستنتية ، وجان روحانية في تفكيرها وفي آرائها ، وشو رجل يحترم عقله ويقدس العلم والفكر الحديث ، ولكنه فيما كتبه عن جان وضع الحق فوق كل اعتبار فكان حرا صريحا ، وكان باحثا مخلصا ينظر إلى الواقع بعقله وقلبه وروحه وشعوره
وعلمه وخبرته ، وقد استعرض ) شو ( أقوال الكتاب والروائيين الذين كتبوا عن ) جان ( من قبله ، فانتقدما فها من التهافت والأغراق ، وحاول ان يظهر جان فى شخصيتها الطبيعية مرتفعا بها عن مبالغات قوم قدسوها فطاروا بها إلى مسبح الافلاك ، ومحامل قوم حقروها فامحطوا بها إلى مجرى الأسماك ، وعند ما يقف عقل ) شو ( فلا يجد له منغذا للتأويل والتخريج مجد الرجل لا يوارى ولا يدارى ولكنه يصارحك بالحقيقة التى فى نفسه كما يقول وهو يتحدث عن اصوات جان واطيافها : إن المقيدة تتحصل للانسان فيما تتحصل من أنماط عيشه وعادات بيته ، فأما انماط عيشي فمكنورية ، وأما عادات بيتي فبرونستنسية ، فمن اجل عاداتي وانماطى هذه أجدنى عاجزا عن الملص من نفسي لا حكم حكما مجردا بأن أطياف جان كانت أطيافا حقة "
ففي قصة جان وفي مقدمها اجتمع فن ) شو ( وعقله ، ونجلت عبقربته وبراعته ، وإن الدذور أحمد زني بك خير من يؤدي ذلك بدقته واناقته ، فلا غرابة إذا قلنا إن القصة قد جاءت في موضوعها وفي تأليفها وفي ترجمتها آية القوة والبراعة والدقة
