الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 306الرجوع إلى "الثقافة"

حبة القمح

Share

لحبة القمح تاريخ مجيد ، فأينما نمت واثمرت وجدت المدنية والعمران ، وما ذلك إلا لأنها غذاء صالح يكون الأجسام السليمة ذات العقول السليمة . فالشعوب التي تتغذي على القمح شعوب ذات تاريخ حافل ؛ فكان لشعوب البحر الأبيض مدنية سجلها التاريخ لان القمح نما عندهم منذ القدم كما ثبت في تاريخ مصر القديم ! فلا عجب أن يكون عصرهم زاهرا بمدنية سبقت غيرهم

ومن الغريب أن يحكم آكل القمح غيره من الأقطار ، فقد حكمت الهند آكلة الارز ، وحكمت امريكا لما كان غذاؤها الذرة والفول ، واليابان لم تتقدم إلا بعد أن بدأت تأكل القمح

وقد حاول العلماء أن يكتشفوا نوعا من القمح البري ، ولكنهم لم يتمكنوا من ذلك إلا عام ١٩٠٦ ؛ وقد كان هذا الكشف نتيجة لعثور احد علماء النبات على نوع من الحشائش وجده مجففا مع نبات اخر في معشبة المتحف الآهلي بفينا ، وكان ذلك عام ١٨٩٩ . وقد ذكر هذا العالم أن النبات هو نوع من القمح البري ؛ وكان قد جمع من جبل هرمون بفلسطين عام ١٨٥٥ . بعد ذلك بدأ العلماء يبحثون عن ضالتهم في جبال فلسطين حتى وفق عالم يهودي إلي الوصول إلى بغيته ، فعثر على القمح البري ناميا على صخرة في الجبل ، وبذا ثبت منشأ هذا النبات .

وقد زرع الإنسان القديم نبات القمح ، وجاء من بعده البابليون وقدماء المصريين ثم اليونان والرومان ، وكان القمح عنصرا أساسيا في غذائهم . ولم يعرف بالضبط كيف توصل الإنسان لمعرفة قيمة القمح الغذائية ، وربما كان ذلك في العصر الحجري ؛ ففي ذلك الوقت عاش الإنسان على ما يقتنصه الرجل من حيوانات . وربما حدث

ان أحد النسوة فقدت عائلها فلم تتمكن من الوصول إلى حيوان تتغذي عليه مع صغارها ، فاضطرت إلي أكل ما ينمو حولها من حشائش ، وقد يكون نبات القمح واحدا منها فاستساغت طعمه وأشبعها بعد جوع ؟ فلما تبينت ذلك حاولت ان تغذي صغارها بحبوب القمح الجافة ،

فلم يتمكنوا من طحنها لضعف اسنانهم ، فطحنت بعضا من هذه الحبوب بين حجرين صلبين . ولا يبعد مطلقا أن تكون المرأة أول من عجن القمح وأول من خبزه .

ولم يكن القمح البري بالكثرة التي تكفي لسد رمق عائلة ، لذا كان من الضروري ان يحاول الإنسان القديم زرعه في مساحة محدودة ، يتعهده بالرعاية والري . ويعتقد أيضا أن المرأة كانت أول مزارعة ، فعرفت أنه إذا تعهدت نباتا بعد بذره حصدت محصولا اكبر مما تجمعه من نباتات تنمو بريا . فاقتلعت الحشائش من بقعة من الأرض ثم غرست الحبوب ، وبذا حصلت على مقدار اكبر من القمح . واكتشاف هذه الحقيقة كان تطورا كبيرا في عالم الزراعة ، وبدونه ما تكونت مدن ، ولبقى الإنسان معتمدا على ما ينمو بريا ، ولبقى الجنس البشري مشتتا في مساحات شاسعة .

وتمتاز حبة القمح على غيرها من الحبوب لاحتوائها على مقدار كبير من النشا وبعض البروتين . ولمعرفة تركيبها يجب علينا أن نفحص طبقاتها المختلفة ، ولكي يسهل ذلك نترك الحبة في الماء لتنتفخ وتلين ، ونلاحظ ان لحبة القمح شقا طوليا ، فلو قسمت إلي نصفين بشقها طوليا مبتدئين بهذه القناة ومنتهين بالجهة المقابلة لها ،

اتضح لنا تركيب الحبة ؛ فيحيطها من الخارج أغلفة تنفصل عند الطحن على شكل نخالة ؛ ويليها من الداخل طبقة مكونة من مادة بروتينية ؛ واخيرا جزء كبير يشغل معظم حجم الحبة ، وهو نسيج يخزن في خلاياه حبيبات

النشا وفي الجزء الأسفل من الحبة نجد تركيبا آخر ، وهو ما نسميه بالجنين ، وهو ما يكون النبت الحديث إن

استمرت الحبة في إنباتها . والجنين هنا يتكون من الجذر والساق . ويفصل الجنين من النشا نسيج خاص وظيفته تكوين خمائر ، ويعمل على تحويل النشا وغيره من المواد المخزونة في الحبة إلى مواد بسيطة يمكن امتصاصها بواسطة الجنين فينمو ، ويكون نباتا له ورق اخضر يعتمد على نفسه بعد ذلك في صنع غذائه . من هذا يتبين أن الحبة تحتوي على مواد نشوية ومواد بروتينية ؛ وهذه الأخيرة توجد في الغلاف الذي يحيط النشا كما توجد في الآجزاء الجنينية من الحبة . وقد دل البحث الحديث على ان القيمة الغذائية لبروتين القمح لا تقل عنها في بروتين اللحوم . فالجزء الجنينى يحتوي على ٢٠ % من وزنه من البروتين ؛ كما وجد انه سهل الهضم ، ويمتاز عن بروتين اللحوم بوجود كمية أكبر من الفيتامينات والمركبات المعدنية وخاصة الحديد .

ومنذ معرفة هذا الكشف بديء بإمداد بروتين القمح بطريقة تجارية لمحاولة سد النقص الناتج من عدم توفر اللحوم في الظروف الحاضرة . ولما كان الجنين في حبة القمح يكون حوالى ١٠ % من وزنها ، وكان من الممكن فصل نصف الجنين بسهولة ، فإنه يسهل الحصول علي كميات

كبيرة من البروتين من هذه الآجنة ، وخاصة ان وجودها في الحبة يعوق الصناعات الأخرى التي تستخدم فيها حبوب القمح . وقد أحصيت كمية الآجنة الممكن الحصول عليها في الولايات المتحدة ، فوجد انها تقرب من ٥٠٠ مليون رطلا بعد أن يستخلص منها الزيت والدهون .

والطريقة أن تعالج عجينة القمح السائلة بمحلول كبريتيت الصوديوم ) مادة فائضة يتحصل عليها في صناعة الورق ( وينفصل البروتين على شكل جلط تطفو على سطح السائل ؛ وهذه إذا جففت فإنها تشبه بياض البيض . وقد حسب ثمن الرطل بعشرة مليمات ، وهو ثمن صعب التصور . وبعد فصل البروتين يبقي محلول يستخدم في صناعة الكحول .

لا شك أن القمح البري كان صغير الحبوب ، وكانت كمية المواد الغذائية التي تحتويها الحبة قليلة ، وباستمرار غرسها وتعهدها زادت محتوياتها . وقد عمل الإنسان على هذه الزيادة إذ أصبح القمح محصولا أساسيا في غذائه . وقد كان من الطبيعي ان يشغل القمح جزءا كبيرا من وقت علمائنا النباتيين ، فبدأوا في تهجين انواع مختلفة لكل ميزته ، وقصدوا بهذا التهجين ان يجمعوا محاسن الأنواع المختلفة في نوع واحد .

وكان من الصعوبات التي واجهت العلماء ان القمح الجيد الذي يحتوي علي كمية كبيرة من الجلوتين يصاب بمرض الصدأ الذي يسبب خسارة كبيرة للمحصول ، بينما نجد أن هناك نوعا من القمح يكون حبوبا رديئة النوع ولكنه منيع لا يصاب بالصدأ . وقد خطر للسير بيفون في كمبردج أن يحاول إيجاد نوع من القمح يجمع الصفات المرغوب فيها بعد ما كثرت الشكوي من القمح . وقد بدا له أن يهجن بين مختلف الأنواع ، وبهذه الطريقة يجمع الفضائل في سلالة واحدة . وقد أجري هذا التهجين فعلا ،

فحصل على جيل كل أفراده تصاب بالصدأ ، إذ كانت هذه الصفة متغلبة ، ولذا ظهرت على صفة المناعة ، وهذه نتيجة تدعو إلي اليأس ؛ ولكن لم يقف بحث السير بيفون عند هذا الحد ، بل واصل عملية التهجين بين افراد الجيل الأول ، فكانت نتيجة ذلك أنه حصل على أنواع مختلفة تجمع تشكيلات متنوعة من الصفات ، ومن بينها نوعان يمتازان بأنهما يحملان صفة الجودة والمقاومة لمرض الصدأ .

ومع أن هذين النوعين لم يظهرا في السوق قبل عام ١٩١٢ ، إلا أنه لم يأت عام ١٩٢٧ حتى كان ثلث الأراضي المزروعة قمحا في العالم من هذين النوعين .

ومن الأبحاث التي أجريت على القمح محاولة إيجاد سلالات تنضح في وقت اقصر ، وقصر هذه المدة معناه زحف النبات إلي المناطق الأكثر برودة فكل يوم

يختصر في متوسط الوقت اللازم لدورة النبات ، معناه زحف النبات بضعة اميال نحو الشمال . وقد تقدم هذا البحث في أوائل القرن العشرين على يد عالم من علماء الوراثة يسمي saunders وساعده ولداه في ذلك وتمكنوا من الحصول على سلالة تدعي الماركيز ، وهذه يتم نضجها في مدة تقل أسبوعا عن غيرها . وبين عامي ١٩١٦،١٩١١ زحفت هذه السلالة خمسين ميلا إلى الشمال . واستمر البحث بعد ذلك فاستنبطت سلالات تنمو وتنضج بسرعة عن غيرها فزحفت أربعين ميلا اخري إلي الشمال . وليس هذا معناه ان الزحف لن يتوقف ، إلا ان هذا لم نصل إليه بعد . على ان البحث مستمر ، وهو يعمل على إيجاد سلالات يتوفر فيها كل ما نرجوه من صفات تسد حاجة الجنس

البشري في معظم مناطق العالم .

اشترك في نشرتنا البريدية