فى عدد مجلة المصور. . . الذى صدر يوم الخميس ٢٩ من مارس ١٩٥١ قرأ الناس قصة عراك نشب فى بلدة حلوان بين فريق من أهل البلدة وفريق من أهل دمياط سببه أطفال صغار كانوا يلعبون بكرة أمام منزل أحد الحلوانيين وراح ضحيته رجل فى مقتبل العمر خلف وراءه فى يد الأقدار أفراخا لما ترش بعد وزوجته مكلومة يقطر قلبها بالدم فذكرتنى تلك الحادثة بأخرى تماثلها حدثت فى مدينة السويس منذ عام بين جماعة من أهل الإسكندرية جاءوا بقضهم وقضيضهم من مصنع السماد الذى يعملون فيه وجماعة من أهل السويس وتجمعوا لملاقاة السكندريين وكانت معركة رهيبة أغمدت فيها السكاكين فى الجسوم وتفجرت الدماء غزيرة فى منظر بشع تقزز منه النفس ولا أظن أن كان لتلك الحادثة
سبب أقوى من السبب فى الحادثة الأولى بل هو كالذى وصفته المجلة بقولها (يعملها الصغار ويقع بها الكبار) أو كما هو معروف من المثل الشائع (وأول النار من مستصغر الشرر) فهذان الحادثان وأمثالهما مما يقع عادة بين العائلات وخاصة فى الريف، لا يجوز للعاقل أن يسميها بالحوادث الطارئة التى تحتمها ظروف خاصة قهرية وتتمخض سريعة فى نفس اللحظة التى يولد فيها السبب والدافع ثم لا تلبث أن يضيع آثرها أما أن تركت ذيولا وأثارا فذلك ما أردت من القارئ أن يشاطرنيى فهم نتائجه فهما صحيحا وهل خليق بتلك الذيول أن تعمل عملها فى الناس وتثير بينهم مثل هذه النوازع إلى الشجار العنيف المميت؟ أم أن الناس جبلوا على أن يتناولوا المبدأ القديم (أنصر أخاك ظالما أو مظلوما) تناولا عماده الجهل وعدم تقدير للعواقب كما كان العرب يتناولونه ويطبقونه فى تصرفاتهم قبل شروق الإسلام وأخذ المسلمين به بعد تبنيه من الرسول عليه السلام؟ الحق الذى لا مراء فيه هو أن الأسباب مادامت متهالكة واهية والمقدسات ركيكة متداعية فإن النتائج تكون أوهى وأضعف وليست شيئاً ذا بال. . . فلنخلص من ذلك إلى كلمة نسم بها تلك الحوادث المخجلة المخيفة (وهى النتائج الفادحة لمقدمات تافهة لا قيمة لها وعمل الشعوب البدائية القديمة لا عمل الشعوب المتدنية الحديثة) فنقول: إنها العصبية القبلية والمنهجية البغيضة التى طالما سمعنا وقرأنا عنها وهى تفعل أفاعيلها بين أهل الريف من قرى الصعيد وكثير من قرى الوجه البحرى حيث يفنى بعضهم بعضا ويحكم بعضهم على بعض بالإعدام تارة بالرصاص وأخرى بالذبح وثالثة بالشنق والخنق، وهل بعيدة عنا تلك الحوادث الدامية التى دارت رحاها بين قبيلتي (الهوارة والفلاحين) فى مركز دشنا؟ وإنا لنرى متعجبين أن حياة النازحين من أهل الريف إلى القاهرة والإسكندرية والسويس مثلا برغم تبدلها بانتقالهم من بيئة خشنة جافة فى الريف إلى أخرى لينة ناعمة فى العواصم فلم تبرح تلك العصبية تتملك أزمتهم وتحيا فى رؤوسهم حتى بات الأخذ بالثأر القانون الأول فى دستور ابن الريف. ولا ندرى متى تنتهى تلك العصبية القبيحة البالية؟ ومتى يا ترى تحل محلها عصبية أخرى من المحبة والسلام والخير والجمال؟ ليت شعرى هل يكون صاحب الدم نفسه أول من يستجيب فيرضى الله مخلصا بالتسامح والعفو، فيضع حدا لسفك الدماء حقنا لها وإبقاء على حياة البرآء الآخرين؟
(السويس)
