3- الشاعر الرجيم . بودلير للأستاذ عبد الرحمن صدقى
أول ما مر بى اسم بودلير أيام كنا ندرس إلمامه بالأدب الفرنسي في مستهل دراستنا بالجامعة .
ولقد جاء اسم بودلير في هذه الإلمامة خلال كتيب صغير كان علينا أن ندرسه . وكأنما تحرج واضعه أن يفيض في خبر هذا الشاعر ، فقد كان قبله شعراء وبعده شعراء , لم يتحرج في إيراد أخبارهم كما تحرج في خبر بودلير . وإني لأذكر أن كل ما جاء عنه لا يعدو سطوراً تذكر ميلاده ، ووفاته ، واسم ديوانه " أزهار الشر " .
وظلت " أزهار الشر " هذه عالقة بالذهن كعنوان غريب ، أغرب منه التحرج الذي لمسته في التعريف ببودلير . تحرج ما أشبهه بتحرج أستاذ الأدب العربي حين كان يحدثنا عن شعر الغزل الطبيعي ، فدفعنا إلي تقصيه في شتي الكتب ، وإن وقف بنا عن تقصي " أزهار الشر " القصور والنسيان ، واتجاهنا في نواح تباعد بيننا وبين الشعر الفرنسي والشعراء الفرنسيين .
وعند ما أصدر الصديق على محمود طه كتابه " أرواح شاردة " كان أول ما قرأت في كتابه مقاله الممتع عن بودلير ، فتهيأ لي علم غير قليل بالشاعر , تمنيت معه لو أتيحت الفرصة لكاتب أن يترجم لهذا الشاعر ترجمة وافية . وكأنما أراد الله أن يحقق أمنيتى ، فأقرأ بعد عامين كتابا عن بودلير ... الشاعر الرجيم ، هو كتاب الأستاذ عبد الرحمن صدقي.
ولقد سألت نفسى حين طويت الصفحة الأخيرة من هذا الكتاب ؛ هل عرفت بودلير ؟ وهل عرفت واضحاً سر ذلك التحرج في ذكره ؟ ولقد جاءني الجواب حين ذكرت مقدمة الكتاب . وذكرت أن بودلير نفسه كأنما كان يحس بذلك التحرج حين قال :
أيها القارئ المطمئن الوداع
يا رجل الخير ، السليم الطوية ، القانع
اطرح من يدك هذا الكتاب
هذا الكتاب المستهتر الفاجع ....
.... لهذا كان التحرج ؛ إنه شاعر لا يقربه القانعون ، إنه مستهتر عند أصحاب النظر السطحي . فاجع عند القادرين على أن يمعنوا في الأغوار !
وإنها لبراعة استهلال من عبد الرحمن صدقي أن يلتمس لمقدمته هذه الأبيات من شعر بودلير ، فيتيح للشاعر أن يكشف عن نفسه بلسانه ...
أجل . إنى لأعرف بودلير الآن بعد أن صاحبته من مولده لوفاته منتقيا معه في كل منحنى سارت فيه حياته. أعرف أنه انحدر من حيث هيأ له محتده إلى حيث هيأت له الظروف التي دفعته في سبيلها ؛ وأعرف كيف انحدر. ولم كانت هذه الظروف التي دفعته . هذه الظروف التي قد تمر بالإنسان العادي ، فلا تترك ما تركت في نفس شاعر ، ولا يتعدى أثرها تدرج الأحداث . أما في نفس شاعر فهي تكون الأحداث وترسم الأخلاق ، على صورة تتوقف على عمق الإحساس بهذه الظروف . ولعل في رسالة بودلير إلي بعض أصحابه يحدثهم فيها عن مولده وظروفه التعسة أبلغ تعبير عن عمق شعوره بظروفه ، وبأثر هذه الظروف ،
فإذا ما مضيت في الكتاب زاد إحساسى بمعرفتي للشاعر ، ونما إلي جانب ذلك أحساس آخر بالعطف عليه رغم انحداره وتدهوره ، حتى ليصبح هذا العطف إعجاباً حين أمر بلحظات السمو التي لم تفارقه في أشد حالاته تدلياً وانحداراً . لحظات السمو التي يتطلع فيها إلي السماء من قرارة الهاوية ، فأحس معها بأن بقية الخير لا زال ماؤها يترقرق في نفسه رغم جفافها.
عرفت إذن بودلير علي هذه الصورة : شاعر تآمرت عليه ظروف مولده وظروف نشأته، وطبيعة في نفسه ، وثنيات في حياته ، فجعلته الشاعر الرجيم .
وعرفت إلي جانب ذلك أن هذا الشاعر الرجيم لم يكن أقل إحساساً بالفضيلة والخير والسمو من أسمي الشعراء . . فهو شاعر غريب حقاً ! جدير أن يتحرج من ذكره
القانعون ، بل جدير أن يطرحوا شعره على حد تعبيره . . . .
وإلى جانب بودلير في هذا الكتاب تقوم شخصية واضع الكتاب . إن في سياقه لحياة الشاعر تبدو شخصية مترجم موفق ناجح ، استطاع في حيز محدود من الصفحات أن يصور حياة كاملة واضحة المعالم والقسمات ، حياة محللة مردودة أحداثها إلي الظروف والملابسات والدوافع في غير تعسف ولا إسراف في التأويل والتحميل .
فإذا تركت الكتاب كقصة حياة ، عدت إلي ما فيه من شعر مترجم عن بودلير . إن فيه ما يزيد عن مائتي بيت ، وفي كل بيت ، بل وفي كل كلمة ، أثر لجهد كاتب دقيق في اختيار ألفاظه ، رشيق في تصيدها ، مما جعل شعر بودلير يحتفظ بمعناه وكثير من روعته وجماله .
إن أمامي إلي جانب هذه الترجمة العربية لشعر بودلير ترجمة إنجليزية ، طبعت في مصر خلال هذا العام للأستاذ بولن Bullen ،المحرر بمجلة الإسفنكس ، وهي لمجموعة متفرقة من شعر بودلير . وإني لأشعر الآن ، وقد أهملت قراءة هذه الترجمة حيناً ، أنى سأقرؤها بشوق ومتعة .
فقد عرفت الشاعر واستسغته . . وهنا تبدو خاطرة طافت برأسي : ترى ! وهذا شعر بودلير القليل في كتاب الأستاذ صدقي لا يكاد يخرج عن تصوير لبعض لمحات حياته ؟ أيكون كل شعره تصويراً لكل حياته ؟ فإذا كان الأمر كذلك ألا تكون صورة لحياته تجمع بين دفتيها كل أشعاره أوسع أفقا وأكثر وضوحا ؟ أحسب أن ذلك ما يحسه قارئ يقرأ هذا الكتاب ، فيجد المؤلف يتناول أبيات الشاعر كأنها أيام من حياته ، وخلجات من نفسه . . وأحسب أن ذلك ما يحسه المؤلف أيضاً ، وما يجول بنفسه ، و لعله متهيئ لذلك إن واتت الظروف .
