كل من وهب نفحة من الروحانية المستعدة لتلقي الإلهام أظهرها حسب استعداده وميوله ، كالكهرباء تكون مرة حرارة ، ومرة تبريدا ، ومرة ضوءا ؛ فالموسيقى ينعكس إلهامه موسيقى ، والشاعر شعرا ، والفنان فنا ، والنبي نبوة . والنبي أرقي إلهاما ، لأن ما يتلقي من الضوء أقوي ، ونوعه أكل ، ونوره الذي يعكسه أعم نفعا وأهدي للحقيقة في صميمها . في النبي شاعرية وليس بشاعر ، وموسيقية وليس بموسيقى ، وفلسفية وليس بفيلسوف ، وإنما هو فوق ذلك كله ، لقرب اتصاله بالروح الأعلى وقوة ضوئه الذي يعكسه فينير مناحي الحياة المختلفة - نور كشاف يضئ قلوب من وقعت عليه أشعته - أيا ما كان
شكل الوحي الذي حكي في الكتب المقدسة : من صوت يسمع ، أو ملك يري ، أو نحو ذلك ، فإنما هو القلب يرهف حتى تكون له عين تبصر وأذن تسمع ، وحتى يتجلي بهما الحق أقوى مما يتجلي بالأذن الحسية والعين في وجوعنا .
وما أصعب رسالة النبي ! إن الموسيقى والشاعر والأديب والفنان يدرك بالإلهام ما يعجز عن أدائه أدوات الموسيقى والقلم واللسان والألوان ، ذلك لأن التعبير عن المقولات أهون من التعبير عن الإلهام ، ولذلك احتاج الملهم أن يخترع ما يحاول به أن يكمل نقصه كالاستعارات والمجازات والتشبيهات والكتابات عند الشاعر والأدب ،
والإشارات عند الخطيب ، ونحو ذلك عند سائر الفنانين . وهم - مع كل هذا - يقرون بالعجز عن أداء ما يشعرون ، ويقرون بالفرق الكبير بين ما يشعرون وما يعرضون - وذلك في النبوة أعقد وأعسر . إنهم يريدون أن يعرضوا العالم في خريطة مصغرة ، أو يقدموا المحيط في زجاجة ، أو يخرجوا السموات والأرض من جيوبهم ؟ ولذلك ما كان أعمق معانيهم وأبعد إشاراتهم ! وما أفقه من وقف عند حدود ألفاظهم ، ولم يتخط ذلك إلى فهم رموزهم !
وصعوبة أخري أن الأنبياء يحكم رسالتهم ، لابد أن يسيروا على الصراط بين الروح والمادة ؛ لابد أن يتصلوا بالروح الأعلى ليتلقوا ؛ ولا بد أن يتصلوا بالناس ليذيعوا ، لابد أن يكون رأسهم في السماء وأرجلهم في الأرض .
وصعوبة ثالثة أنهم يواجهون مطالب القلوب المختلفة صفرا وكبرا ، وضيقا وسعة ، وظلاما ونورا . ولابد أن يمدوا كملا بما يحتاجه وبما يستطيعه ، ويوفقوا بين المطالب المختلفة والاستعدادات المتعارضة ؛ ولذلك كانوا دائما في جهاد مع أنفسهم ، وجهاد مع عدوهم ، وجهاد مع صديقهم ، وجهاد مع العالم . وصدقوا إذ قالوا : " إن الحياة جهاد " . ووضع الناس كلهم أنفسهم موضع القضاة لهم أو عليهم ، وما أقساها حكومة !
للنبي رسالة ظاهرة ، وهي : إقامة الشعائر والتشريع لإصلاح المجتمع ؟ ورسالة باطنة ، وهي : نصب سلم تتدرج فيه النفوس لتعرف الحق ، وتعرف الحقيقة ، وتعرف الله من طريق القلب . قد تختلف الأديان في الشعائر والشرائع تبعا لاختلاف البيئات الطبيعية والاجتماعية ورقي الإنسانية ، أما في الرسالة الباطنة فلا تختلف إلا بمقدار الرقي في السلم ، فالحق غرض كل الأديان . ليس يختلف الأنبياء في حقيقة رسالتهم كما يختلف الفلاسفة في تعاليمهم ، فقد يقرر فيلسوف أمرا وينكره آخر ، وقد ينقض اللاحق ما بني السابق ؛ أما الأنبياء
فيقررون دائما ، ويبنون دائما ، ذلك لأن العقل فيما وراء المادة قائد فقير ، قائد في الظلام ، والقلب في ذلك قائد بصير ، قائد في وضح النهار . إذا تكلم مائة إنسان بقلوبهم اتحدوا ، وإذا تكلم ثلاثة بعقولهم اختلفوا . وما يصد الناس عن رؤية الحق إلا إقفال قلوبهم عن رؤية النور ، وتعلقهم بصغائر الأمور ، وبالجزئيات دون الكليات . إن الإنسان الفرد قد يحب ، وقد يكره ، وقد يعجب به ، وقد يشمأز منه ، ولكن الإنسانية - ككل - تحب وهي موضع الإعجاب .
تتبع سلسلة الأنبياء فترى بينهم قدرا مشتركا من التعاليم والمبادئ ، فهم يؤمنون أقوى إيمان بالله وكماله وقدرته ، وبالإنسان وشرفه ومسئوليته ، وضلاله ووجوب هدايته ؛ وهم يعلنون في جزم أنهم لم يتلقوا تعاليمهم من تقاليد قومهم ، ولا من علمهم ومنطقهم ، ولا من أي شئ خارج عنهم ، ولكن من الله نفسه يحدث نفوسهم ، ومن نوره يسطع على قلوبهم ؛ وأنهم لا يشكون في شئ منه ، كما يشك الفيلسوف والعالم ، ولذلك يتحملون أكبر الآلام من قومهم وملوكهم ، ولا ينحرفون قيد شعرة عن عقيدتهم ، لأنهم يرون الحق بقلوبهم أصدق مما يرون الأشياء بأعينهم ؛ وأنهم يبلغون رسالة ربهم كما وعوها - هم بذلك يقررون أن علمهم بحقيقة العالم وبالخير والشر آت من أعلى إلى قلوبهم ، على حين أن علم العلماء والفلاسفة آت من أسفل إلى عقولهم .
أنكر قوم دعوة النبوة على هذا النحو ، وأرادوا ألا يسلموا بشيء إلا إذا كان عن طريق الجبر والهندسة والرياضة ! ولكن أمن الحق أن كل علمنا ومعرفتنا عن هذا الطريق ؟ إن الإنسان قد يعلم الحقيقة ، وقد بشعر بالحقيقة . إذا علم العقل الجير والهندسة ، فالقلب يشعر بالحب ، والحب حقيقة كحقيقة الجبر ، والرجاء والأمل
والخوف والأمن حقائق كحقائق الهندسة . والإنسان عقل وقلب ، ولكل غذاؤه ، ومكلف الإنسان أن يقتصر على نمط الفلسفة والمنطق والعلم إهدار لنصف شخصيته ، والمؤمن بمواهب الإنسان المتعددة مؤمن بالدين .
ولكل موهبة طريق تربيتها ؛ فالعقل يربى بالتجربة والمنطق وبالمران على ربط الأسباب بالمسببات ، وعلى ربط النتائج بالمقدمات ، والشعور يربى بالرياضة الروحية وتطهير النفس ، ومن هذا القبيل شعائر الدين .
لقد سلك رجال الدين في تأييده وتقويته مسلكين : قوم حددوا عقولهم ، وقوم أرهقوا مشاعرهم ؛ فأما الأولون فعلماء التوحيد أو علماء الكلام ، وأما الآخرون فصادفو الصوفية - في جميع الأديان - فالأولون جعلوا الدين منطقا وفلسفة ، وخلفوا لنا تراثا ضخها من المؤلفات تبرهن برهانا عقليا منطقيا على وجود الله وصفاته وما إلى ذلك . ولكني أعتقد أنهم لم ينجحوا في ذلك نجاح العلماء في البراهين العقلية على قضايا العلم . إن قانون الكيمياء أو الطبيعة أو الرياضة إذا قال به أحد العلماء وبرهن عليه ، آمن به كل الناس بلا فارق بين أمة وأمة ، وأهل دين وأهل دين ، وشرقي وغربي . أما علم التوحيد أو علم الكلام ، فبرهان لمن يعتقد لا لمن لا يعتقد ، برهان لصاحب الدين لا لمخالفه ؛ ولهذا لم تر في التاريخ أن علم الكلام كان سببا في إيمان من لم يؤمن أو إسلام من لم يسلم إلا نادرا . إنما كان سببا في إيمان الكثير وإسلام الجم الغفير الدعوة من طريق القلب لا من طريق علم المنطق .
قرأت مرة أن صديقين مثقفين خرجا يتروضان ، وكانا يتحدثان في الدين ، فمرا على حديقة بديعة مملوءة بالأزهار الجميلة : ورد أحمر بالغ ، وورد أصفر فاقع ، وورد أبيض صاف ، وبراعيم لم تتفتح وهي آخذة طريقها إلى
نضجها وتفتحها ، والجو مملوء بعبيق الأزهار ، والريح تلعب بالأغصان ، وجمال كل شئ حولها يأخذ باللب ؛ فصرخ أحدهما : هذا أقوى دليل على الله ، وهنا موضع سجود له لجلاله وجمال عظمته ! فقال صاحبه في برود العلماء : وأي برهان علمى على ذلك ؟ ! ما البرهان المنطقي علي أن الجمال دليل الله ؟ إن كان هنا جمال فثم قبح ، وإن كانت الأزهار هنا تتفتح فهي هناك تذيل ! ثم عادا ، هذا بإيمانه وهذا بالحاده .
وكان نابليون - في حملته على مصر - في سفينة حوله علماء ملحدون ، وفي ليلة بديعة لمعت النجوم في السماء وتلألأت في رونقها وبهائها وجمالها ؛ فقال نابليون : انظروا أيها الرفاق ، ما أبدع النجوم وما أجملها ! فمن أبدعها ؟ قال ملحد ، نحن لا نسأل هذا السؤال ، وما يدور في ذهنك من هذه الأسئلة لا يدور في أذهاننا ، إنما نسأل نحن كيف تطور هذا العالم ، وكيف ارتقى ، وما الظروف التي مر بها ، حتى وصل إلى ما نري . " إن برهانك - أيها الإمبراطور - دليل جميل لك "
إن دعوة الإيمان دعوة لما في النفس ؛ فإذا استعدت ، فكل شئ برهان ، وإذا لم تستعد فلا برهان . في النفس لا هي العقل غريزة الإيمان ، والدعوة الحقة بإيقاظها ، لا بمقدمة صغرى ولا مقدمة كبرى ، ونتيجة مؤلفة من موضوع ومحمول ! ليس العقل هو دليلنا الوحيد في الحياة ، بل هناك أدلاء أخر ، منها النفس ، ومنها العواطف ، ومنها الإلهام .
أما الطريق الآخر الذي سلكة صادفو الصوفية ؛ فهو أن يربوا شعورهم ، ويقووا نفوسهم لا عقلهم ، ويصفوا روحهم من التعلق بالمادة وشؤونها ، حتى يتصلوا في نهاية مراحلهم بالروح الأعلى ، يريهم ؛ وهم يقررون أنهم بهذه الرياضة يصلون إلي نوع من انكشاف الحقائق أوضح وأجلى
وأنور من الانكشاف الحسي ، وأنهم يطلعون على عالم روحي لا يخضع لما تخضع له المادة من حدود وأزمان ومكان ، ولكنهم - مع الأسف - عجزوا عن وصف هذا العالم الروحي وصفا بينا لنا ، أو عجزنا نحن عن فهم وصفهم ، ولهذا ساد كتبهم وأقوالهم الغموض التام في كل دين .
والسبب في هذا أن طريقة التفكير العقلي عامة عند الناس ، ووسائل إيصال المعلومات العقلية من ذهن إلي ذهن متوفرة ، وليس كذلك الشأن في المشاعر ؛ فمن السهل أن تقيم البرهان لآخر على قوانين الضوء وقوانين الجاذبية ، وقوانين الرياضة والطبيعة والكيميا ، وتقيم البرهان على النظريات الهندسية ، وليس كذلك الشأن في المشاعر . إذا كان عندك برهان على أن هذا المثلث يساوي هذا المثلث أمكنك أن تنقله إلي من لم يعرفه ؛ ولكن إذا أكلت الكمثرى وشعرت بنوع حلاوتها ورائحتها وطعمها ، لا يمكنك بحال أن نصفها لمن لم يذقها إلا على سبيل التقريب والتشبيه ، فإذا كان قد أكل نوعا قريبا من الكمثرى أمكن التشبيه وقرب فهمه وإن لم يكن دقيقا ، وإلا فما أبعد الفهم ! وكذلك الشأن فيما عندي من حب وبغض وإعجاب ، ونحو ذلك ، كلها مشاعر من الصعب نقلها . فالشاعر والعواطف " تذكرة شخصية " على حين أن العقل " تذكرة عامة " يصح أن يحملها كل شخص
بذلك يمكن التفرقة بين معرفة تنقل ومعرفة لا تنقل . واللغة قد تكون أداة طبيعة للمحسوسات والمقولات ، وهي أداة غير صالحة للمشاعر والعواطف - والمعرفة عن طريق الإلهام ، أو بعبارة أخري عن طريق الرياضة النفسية ، آخذة بشبه من الطرفين ، طرف العقل وطرف المشاعر ، وهي إلى المشاعر أقرب ، ولشبهها بالعقل تنكشف انكشاف
المعقول ، ولشبهها بالمشاعر يصعب نقلها .
وإذ كان شعور الصوفي شعورا شخصيا صعب التعبير عنه ، وأحيط بالغموض ولم تسعفه اللغة ، وكان من يفهمه ويشاركه هو الذي جرب تجاربه ، وسلك طريقه ، وقرب منه أو فاقه في إلهامه . ويشبه ذلك ما قاله أرسطو من أن الناشئ يمكن أن يكون عالما بالرياضة ، ولكن لا يمكن أن يكون سياسيا ، لأنه يمكن أن يتعلم الرياضة ويحفظ قوانينها ، ويفهم براهينها ، ولكنه لا يمكنه أن يكون سياسيا لأن السياسة قوامها التجارب في الحياة ، وهو لم يجر بها حتى ينغمس في أحداثها ، ويشعر بتياراتها ، ويري نتائجها
ويبلغ الأمر بالمتصوف في رياضته ، وصفاء نفسه ، أن يصل إلي نتيجة تختلف كل الاختلاف عن التفكير العقلي ؛ ذلك أننا في التفكير العقلي نشعر بأن الذي يدرك غير المدرك ، والذي يعلم غير المعلوم . فإذا فكرت في حل مسألة هندسية ، فالمسألة الهندسية غيري وغير عقلى المفكر . ولكن الأمر في نهاية التصوف ليس كذلك ، إذ تفكر الحدود بين العالم والمعلوم ، والعارف والمعروف ؛ فإذا وصلت النفس إلي العلم بالله اصبحت شخصية العارف ، وصارت هي والمعروف شيئا واحدا ، ويتحقق هذا عندهم في هذه الحياة ، كما يتحقق بعد مفارقة الروح للجسم . وأقرب شبه بهذا ما يحدث من هيام المحب بالمحبوب ، حتى يكونا روحا واحدا ، ويصبح التعبير بأنا وهو ، تعبيرا لفظيا لا تعبيرا نفسيا ، أما النفس ومحبوبها فشئ واحد ، وتقني النفس الزائفة في النفس الحقة . ومن أجل هذا قالوا : " من عرف نفسه فقد عرف ربه " . وحول هذا تكون الأدب الصوفي كله .
