الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 196الرجوع إلى "الثقافة"

حديث رمضان :، الايمان بالله

Share

يحكى أن رجلا ما زال يمعن في الشك حتى وصل به إلي الإلحاد ، فحدث يوما صديقه بما ساوره من شكوك وما كان من نتيجتها من إلحاد

فقال له صديقه : ما أظنك ملحدا ، لأني أري فيك ملامح إيمان .

فأكد له الرجل إلحاده

وما زال الصديق ينكر ، والرجل يؤكد حتي استفز الملحد الغضب ، فصرخ قائلا : " والله العظيم إني ملحد :

هذه القصة تمثل ما ركز في طبيعة الإنسان من إيمان بإله ، مهما انحرف العقل وطغي المنطق ، ولهذا نري كثيرا من العلماء قد كفرت عقولهم وآمنت قلوبهم - قد

تختلف صور الإله باختلاف عقلية الامم ، واختلافها في البدارة والحضارة ، والعلم والجهل ، ولكنها كلها تشترك في النزوع الفطري إلي إله له القوة والسلطان ، وبيده الأمر .

لقد جاءت الثورة الفرنسية فرأت ما فعله رجال الكنيسة من اضطهاد العقل ، وغلول الفكر ، والتدخل فيما ليس من شأنهم ، وإظلام الحياة حولهم ، فثار رجال الثورة عليهم وعلى دينهم ، وأعلنوا انهم يريدون إلغاء الله . ولكن ماذا كان ؟ هدأت الثورة ، وخمدت النار ، ورجع الناس إلي ربهم ، ولم يلغ الله ؟ ولكن الغيت تعاليم الثورة في هذا الشأن ، لأنها ضد طبيعة الإنسان

وحاول بعض رجال الثورة في تركيا إلغاء الدين وإلغاء عبادة الله ، ثم ذهبت دعوتهم مع الريح ، وذهبوا هم وبقي الدين ، وبقي الناس مع الدين

وجاءت الثورة الروسية أول أمرها داعية إلي إلغاء الله ، وإلغاء الحرية ، وإلغاء فكرة الخلود ؛ ثم ما لبث الدين ان عاد ، تغير شكله وبقي جوهره ، وذهب تركبه وبقيت بساطته . وعلي كل حال فهو الدين ، وهو الله

ولكن ما الذي لفت الإنسان إلي الله !

لفته أولا شعوره ، والشعور جزء هام من تكوينه ، ومصدر صحيح من مصادر معارفه ، وعليه يعتمد في كثير من شؤون حياته ، فما الصداقة ، وما الأبوة والأمومة ، وما الحب والكره ، وما الإحسان والإنسانية لولا الشعور ، ولو انعدم الشعور لكانت حياتنا جافة لا طعم لها ، بل لم تكن حياة أصلا ، فالشعور بالله جزء مكون لحياتنا كسائر ما ندرك بالشعور

ثم اهتدي إليه العقل بعد ما اهتدي إليه الشعور . لقد كان من أهم ما استكشفه الإنسان إدراكه أن العالم وحدة ، وانه يتبع نظاما في منتهي الدقة ، يدركه الإنسان لأول وهلة في تعاقب الليل والنهار ، والصيف والشتاء ، وحركات الشمس والقمر ، ثم كلما ازداد تعمقه في دراسة الطبيعة ازداد إيمانا بهذا النظام ودقته ، فإذا تبين في شيء ما فوضى ادرك فيما بعد ان ذلك يعود إلي جهله بقوانينه لا حاجته إلي النظام - وأكثر الناس إيمانا بالنظام في فرع من فروع العلم علماء ذلك الفرع ، فالفلكيون اشد الناس إيمانا بنظام الكواكب ، وعلماء الحيوان في الحيوان ، وعلماء النبات في النبات ، وعلماء وظائف الأعضاء في وظائف الأعضاء ، وأطباء العيون في

العيون ، وهكذا ، كل يدرك أتم نظام وأدقه في فرعه ؛ والفيلسوف يدرك ذلك في العالم كوحدة ، بل يدرك أنه لولا نظام ناحية من نواحي العالم ما كان لها علم . فالعلم معناه جملة من القوانين المنظمة تتعلق بجانب من جوانب الحياة ، كالنبات والحيوان والفلك ، حتى الجسم في مقاومته المرض يفعل الأعاجيب في نظامه ، ولولا ذلك ما كان طب - ثم كل جزء من أجزاء العالم مرتبط بأجزائه الاخري ، يخضع هو وهي لنظام عام كعلاقة الخلية في الجسم بالجسم كله ؛ فالعالم حروف هجاء ترتبط ألفه ببائه ارتباطا قريبا ، وألفه بيائه ارتباطا بعيدا ، وكلها تكوين نظاما واحدا ، وتخضع لقوانين واحدة ، حتى إن العالم الدقيق النظر لو تعمق في دراسة جزء من أجزاء العالم أعانه ذلك على فهم سائر أجزائه لشبه القوانين ووحدة النظام . وبلغ من دقة نظامه أنه لولا نظامه ما وجد .

وبعد ، فإذا رأينا آلة تسير جزمنا أن وراءها محركا حركها ، وعقلا دبرها ، وإذا رأينا إنسانا يعمل ويتحرك ويتصرف جزمنا ان فيه عقلا يدبره ويصرفه ، فإذا فارقه العقل فارقه العمل والتحرك والتصرف ، فكيف يسير هذا العالم وفق هذا النظام الذي رأينا ولا يكون له عقل يصرفه وروح ينظمه ؟

إن الله عقل العالم وروحه ، وهو للعالم كعقلنا فينا . وقد صدق الأثر : " إن الله خلق آدم على صورته " .

أعجب ما في العالم عقل الإنسان ، ولعل اعجب ما فيه انه استطاع ان يدرك عجائب العالم ، واستطاع ان يتجاوب مع عقل العالم الذي هو وليده وظله

نحن بين اثنتين : إما أن نكون - كجزء من العالم - خلوا من العقل والروح والغرض ، والعالم كذلك مادة جامدة لا روح لها ولا مدبر لها ولا غرض لها ، أو ان

تكون لنا روح وعقل وغرض ، وللعالم روح وعقل وغرض ، تتجاوب روحنا مع روحه ، وتتحدد اغراضنا بأغراضه ، والأول الكفر ، والثاني الإيمان ، فإن حكمت بعقلك فقد آمنت بعقلك ، وأمنت تبعا لذلك بعقل العالم ؛ وهو الإيمان .

وكما أحكم " عقل العالم تدبير العالم ونظامه ، كذلك اشع عليه من جماله ، فالعالم مغمور بالجمال في صغيره وكبيره ودقيقه وجليله ، في السماء والأرض ، في النجوم بضيائها ولمعانها ، في السحاب المسخر بين السماء والأرض ، في عظمة البحار ، في جلال الجبال ، في شروق الشمس وغروبها ، في الطير يطير في السماء ، في السمك يغوص في الماء ، في الحركة والسكون ، في الأشكال والألوان

الطبيعة جميلة في كل جزء من أجزائها ، وأجمل من أجزائها جمال كلها ، فليس الكل يساوي الأجزاء ، فجمال أجزاء الطائرة مفرقة ليس كجمال الطائرة كلها طائرة . ولا جمال اجزاء الإنسان كجمال الإنسان كلا ، إن الطبيعة في جمالها ككل تسحر العين ، وتأخذ باللب ، وتملا القلب روعة ، حتى ليشعر في وقت صفائه ان هذا فوق ان يوصف ، والألفاظ أعجز من أن تعبر عنه .

وكما كان أكبر قيمة للإنسان عقله الذي استطاع به أن يدرك عقل العالم وتدبيره ونظامه ، كذلك من أكبر قيمته شعوره الجميل الذي استطاع به ان يدرك جمال العالم ، ويتجاوب معه ، ويأنس به ؟ قد يكون في بعض أجزاء العالم قبيح ، ولكنه قبح لطيف لولاه ما استطعنا ان ندرك جمال الجميل .

إن كان تدبير العالم وإحكام نظامه لا بد أن يصدر عن عقل للعالم منظم ، فجماله الذي يشع فيه في دقة لابد كذلك أن يصدر عن خالق منسق .

لقد زعم بعض أصحاب مذهب النشوء والارتقاء أن الجمال نشأ عن قانون الانتخاب الطبيعي وبقاء الأصلح ، وأن الجمال في الجنس منحة الطبيعة لإغراء الجنس . كالأنثى تتبرج للرجل حفظا للنوع ، فإن كان هذا صحيحا فما تفسير جمال الجماد وجمال المناظر الطبيعية ؟

هذا هو الجانب الإيجابي في الاعتراف بالله ، وهناك الجانب السلبي ، وهو لا يقل عنه قوة وإقناعا

لقد تقدم العلم وتقدم ، واعتز بنفسه وملأه الغرور ، ومع هذا كله لم يستطع أن يفسر إلا السطح وإلا المظاهر ، ما العلة الأولى للخلق ؟ من الذي بعث الحياة في الخلية الأولى للعالم ؟ كيف تفسر ملايين الحقائق في عجائب الطبيعة وفي عجائب أنفسنا ؟

إن اقصي ما يصبو إليه العلم ان يعرف نصف الحقائق ، وهو الظاهر والإجابة عن " كيف " اما النصف الآخر - وهو أقوم النصفين - وهو باطن الحقائق . والإجابة عن " ما هي " لا كيف هي ، فعاجز كل العجز عنه لا يستطيع أن ينبس فيه بحرف .

إن من يؤمن بالعلم وحده وينكر ما وراءه ، ومن يؤمن بالقوانين العلمية وينكر ما عداها لا يؤبه بقوله حتي يقول : إني استطيع أن أفسر العالم من ألفه إلي يائه ، فأما أن يفسر الآلة ولا يفسر محركها ، ويفسر تطور الحياة وتدرجها ولا يفسر كيف وجدت لأول عهدها بالوجود فضرب من السخف ، أو هو علي احسن تفسير كقول الطفل لا أعلم لأنه يريد أن يتعلم

إنكار العلة الأولى للعالم وعقل العالم الذي يديره يلقي على عاتقنا عبئا لا نستطيع حمله .

إن العلم في حقيقة أمره ، يزيد عجائبنا ولا يحليها ، هذا الفلكي بعلمه ودقته وحسابه ورصده وآلاته ماذا صنع ؟

(البقية في ذيل الصفحة التالية )

ابان ان ملايين النجوم في السماء بالقوة المركزية بقيت في أماكنها أو أتمت دورتها ، كما أن قوة الجاذبية في العالم حفظت توازنها ومنعت تصادمها ؛ ثم استطاعوا أن يزنوا الشمس والنجوم ويبينوا حجمها وسرعتها وبعدها عن الأرض ، فزادوا عجبا . ولكن ما الجاذبية وكيف وجدت ؟ وما القوة المركزية وكيف نشأت ؟ وهذا النظام الدقيق العجيب كيف وجد ؟ اسئلة تخلي عنها الفلكي لما عجز عن حلها - وابان الجيولوجي لنا من قراءة الصخور كم من ملايين السنين قضتها الأرض حتي بردت ، وكم آلاف من السنين مرت عليها في عصرها الجليدي ، وكيف غمرت بالماء ، وكيف ظهر السطح ، وأسباب البراكين والزلازل ، وكذلك فعل علماء الحياة في حياة الحيوان ، وعلماء النفس في نفس الإنسان ؛ ولكن هل شرحوا إلا الظاهر ، وهل زادونا إلا عجبا ؟ سلهم كلهم بعد السؤال العميق الذي

يتطلبه العقل دائما وهو : من مؤلف هذا الكتاب المملوء بالعجائب التي شرحتم بعضها وعجزتم عن اكثرها ؟ اتأليف ولا مؤلف ، ونظام ولا منظم ، وإبداع ولا مبدع ؟ من انشأ في هذا العالم الحياة وجعلها تدب فيه ؟ ما عقله الذي يديره

إن النشوء والارتقاء لا يصلح تفسيرا للمبدع ، وإنما يصلح تفسيرا لوحدة العالم ووحدة المصدر ، وكلما تكشفت أسرار العالم وتكشفت وحدته ، ووحدة تدرجه ووحدة نظام وتدبيره ، كان الإنسان اشد عجبا ، وأشد إمعانا في السؤال ؛ وليس يقنعه بعد كشف العلم عن أسرار العالم ، وعجزه عن شرحها وتعليلها ، إلا أن يهتف من أعماق نفسه : " إنه الله رب العالمين " .

اشترك في نشرتنا البريدية