اذا كان ثمة شيء لم يكن يخطر على بالى قط او لم أكن اتصوره مطلقا عندما قدمت التى الولايات المتحدة فهو ان يحدثني اميركى عن "طوق الحمامة " وشعر ابن قزمان وعن ... الشيخ الكبادي !
لقد كانت مفاحأة تامة " مطلقة " كالتى تشح بها الاسفار على المسافر فى هذا العالم العصرى .
نعم ان اميركا بلاد العجائب والدكتور نيكل اعجب هذه العجائب وان كان لا يعرف عنه سواد الناس شيئا يذكر سواء داخل الولايات المتحدة او خارجها . وإن أنس لا أنس ذلك المجلس الذي تعرفت فيه على الدكتور لاول مرة : كنا جماعة من الصحافيين الاجانب مختلفة اجناسهم ولغاتهم كأقصى ما يكون الاختلاف ، كان فينا الايرانى والفنلندى والسيلانى ونفر من كوريا وآخر من اوروغواي ( جنوب اميركا ) واذا بالدكتور نيكل يخاطب كل واحد منا فى لغة قومه متنقلا من لغة الى اخرى بسهولة وطلاقة مدهشتين وقد خاطبني شخصيا فى عربية فصيحة لا غبار عليها ولو كان فينا من يتكلم غير هذه اللغات لخاطبه فيها بل لو بعث فرعون من هرمه لجادله فى اسرار الحكمة الهرمسية Hermeneutique)) باللغة " الهيروغليفية " او قام بـختنصر ( Nabuchodonosor) من قبره لسأله عن حروبه باللغة الكلدانية او رجع بوذا الى قيد الحياة لناقشه فى " السرمد " باللغة السانسكريتية ! ذلك ان الدكتور نيكل يحسن جل اللغات المعروفة سواء منها الحية او الميتة وقد بلغ اضطلاعه بها وتبحره فيها حدا جعله لا يحصى التى يجيدها ولد الويس ريتشارد نيكل A . R . Nykl يوم ١٣ ديسمبر سنة ١٨٨٥ بقرية رادليسي Radlice من قرى بوهيميا Bohemia وكانت هذه البلاد تابعة فى ذلك العصر لامبراطورية النمسا ( اما اليوم فهى جزء من تشيكو سلوفاكيا ) . وكانت فوق كل ذلك وما تزال مجمع بحرين : بحر الحضارة الجرمانية وبحر الحضارة السلافية ، ولذا كان مترجمنا يحسن منذ نعومة اظافره اللغتين الالمانية والروسية ثم تلقن في المدرسة اليونانية واللاتينية ففتحت له هذه الاخيرة باب اللغات المتفرعة عنها وهى الفرنسية والاسبانية والبرتغالية والايطالية فأجادها وهو ما يزال صبيا . قال لى فى بعض حديثه : لقد كان دماغي فى عهد المراهقة يعمل بالنسبة لاستيعاب اللغات كالآلة الايلكترونية لا اشرع فى دراسة لغة ما حتى أسبر غورها واملك زمامها بصورة تكاد تكون " حيلية " !
ولما سألته عن بدء دراسته للغة العربية قال : كان ذلك باكرا وكان من قبيل الصدفة المحض . لقد وقع بين يدي وانا لم اتجاوز الخامس عشرة " كتاب الاجرومية " مترجما الى التشيكية مع النص العربى وقد ادرجت فى هذا الكتاب بعض امثلة مقتسبة من القرآن الكريم والمعلقات وخاصة شعر
زهير بن ابي الدكتور نيكل امام جدول به بعض عينات من اللغات التي يجيدها . سلمى فكنت اذهب الى الغاب القريب من بيتنا وأنشد هذه الاشعار باعلى صوتى حتى اتشع برنتها .
وكانت المرحلة الثانية فى دراستي للعربية عندما اقمت بالمكسيك سنة ١٩٠٧ فى عهد الحاكم المصلح بورفيرو دياز Porfirio Diaz وكان يسود البلاد هدوء سياسى عظيم وقد تعرفت صدفة ايضا على جريدة " الشرق L oriente " التى كان يصدرها فى مكسيكو السد عقل البشعلانى احد اعيان الجالية العربية هناك فتوطدت بيني وبين السيد عقل اواصر المودة واعانني على استيعاب مبادىء اللغة العربية وعرفني باسماء عدة شيوخ افاضل من علماء مصر وسوريا مما شجعنى على الرحيل الى الشرق العربي والاقامة به فاتصلت بهؤلاء المشائخ واستفدت منهم عظيم الاستفادة . ومن الجدير بالذكر ان الدكتور نيكل معجب بالشيخ جاويش وبالمنفلوطى ويرى ان المحدثين من الادباء العرب لا ينصفون القدامى لانهم لا يفهمون عقليتهم
كما ينبغى ان تفهم ...
وبارح مترجمنا مصر سنة ١٩١١ قاصدا الشرق الاقصى حيث اقام حتى سنة ١٩١٦ متنقلا بين الصين واليابان وانهمك طبعا فى دراسة اللغتين الصينية واليابانية ولم يمض طويل وقت حتى بلغ تضلعه فيهما حدا جعل نادى السيارات اليابانى يسند اليه ادارة المجلة التى يصدرها شهريا فى طوكيو باللغتين اليابانية والانكليزية . وقد ابتكر الدكتور نيكل طريقة جديدة لتعلم الرموز الصينية التى تستعملها اللغة اليابانية اودعها كتبا ثمينا عنوانه "han - Ji " لم يتمكن من نشره الا سنة ١٩٤٧ وفى جويليا سنة ١٩١٦ قفل الدكتور نيكل راجعا الى وطنه الثانى الولايات المتحدة الذى كان قدم اليه منذ سنة ١٩٠٥ . وكانت الولايات المتحدة فى جويليا ١٩١٦ الدولة الوحيدة التى بقيت على الحياد . ولما كان الدكتور نيكل يكره الحرب ويؤمن بالحلول السلمية لجميع الخلافات فقد ساعد بصورة فعلية على انتخاب الرئيس ويلسون " Wilson " الذى وعد الاميركان بالبقاء على الحياد والتفرغ الى بعث الازدهار الاقتصادى واشتغل الدكتور نيكل فى هذه المدة ايضا بالتدريس فى غرينل كوليج ( غرينل . ولاية إنديانا ) اولا حيث درس اللغة الفرنسية ثم فى جامعة نورث واسترن ( إيفانسطون ولاية إيلينوى ( Northwestern University - BVANSTON - ILL ) حيث درس اللغات الرومانسية ( Romance Languages ) وذلك الى سنة ١٩٢٥ حيث سافر من جديد الى المكسيك واشتغل هناك بعدة ابحاث تخص اللغة الاسبانية ثم عاد الى الولايات المتحدة سنة ١٩٢٦ ودرس هذه المرة اللغة الاسبانية فى جامعة ماركات ( Marquette University ) حتى سنة ١٩٢٩ . وفى هذه المدة ألف كتابا عن ادب " الاعجمية " )١( (A Compendium of Aljamiado Literature ). وكان هذا التأليف هو الاطروحة التى تحصل بها على درجة " دكتور " . وفى هذه المدة ايضا ضبط النص النهائى لــ " طوق الحمامة " لابن حزم وترجمه الى الانقليزية .
قال لى : لقد كان شائعا فى تلك المدة فى اوساط المستعربين ان " الطوق " كتاب صعب تعسر ترجمته الى اللغات الاوروبية . فقلت فى نفسى ولم ازل اذ ذاك فى شرخ الشبان لا اعرف التعب والكلل : انا صاحب هذا الكتاب ، فترجمتة فى اشهر معدودات .
وفى سنة ١٩٢٩ عين فى مركز ( Fellow أستاذ باحث ) بجامعة شيكاغو
وذلك للقيام بابحاث عن الحضارة العربية ، فقضى ثلاث سنوات منتقلا بين اسبانيا والمغرب الاقصى والجزائر وتونس وطرابلس الغرب ومصر والشام وتركيا . وقد تعرف فى اسبانيا على حل المستعربين الاوروبيين وذلك بمناسبة عقدهم لمؤتمر هناك (١) وتعرف خاصة على المستعرب الفرنسى الكبير العلامة وليام مارسي w .Marcais الذي دعاه الى باريس ووضع تحت تصرفه مكتبته الزاخرة بالمؤلفات العربية . والدكتور نيكل معجب بهذا الاخير ايما اعجاب . قال لي : لقد تعرفت على كثير من العلماء سواء من العرب او المستعربين غير انى لم ار مثل مارسي في غزارة علمه واطلاعه على اسرار العربية الفصحى ولهجاتها الدارجة على اختلاف انواعها واحسبنـى لن ارى مثله ابدا وقد وطد بينى وبينه اواصر الصداقة هيامنا الاثنين بلغة الضاد . ولما قدمت الى تونس كنت اتردد عليه في بيته الكائن بنهج بوشناق وكثيرا ما يلتحق بنا فيه الشيخ الكبادى والاستاذ عثمان الكعاك فكنا نقضي الساعات الطويلة نتحدث فى الادب والأدب الاندلسى بالخصوص .
وإنى اتذكر جيدا عن اقامتي بتونس انه حدث اثناءها طاعون هلع منه الناس الامر الذى جعلني انتقل ايضا من الحاضرة الى قرطاج حيث نزلت بنزل " سان لوى " واتممت فيه مراجعة ترجمة " الطوق " التى حملتها معى من الولايات المتحدة وعرضتها على صديقى مارسى واستفدت من نصائحه الثمينة فى خصوص بعض مواطن الالتباس فى هذا الكتاب . وكنت ايضا اثناء اقامتى بقرطاج اتردد على بلدة سيدى ابى سعيد وخاصة على بيت البارون دير لانجى Baron d Brlanger فاقضى معه الساعات الطويلة استمع الى الموسيقى الاندلسية العتيقة وحديثه عنها ... وكان طبيعيا ان يشغف الدكتور نيكل بالحضارة بإسبانيا والحضارة الاندلسية بعد دراسته لادب " الاعجمية " وترجمته لــ " الطوق " واستمتاعه بالمالوف والموشحان العتيقة . فتحول من جديد الى اسبانيا والبرتغال ولبث فيهما عدة سنوات طافحة كلها بالدرس والعمل المفيد فحقق وترجم الى الانكليزية ديوان ابن قزمان (٢) ومن الجدير بالذكر ان الدكتور نيكل نشر شعر ابي قزمان
بالاحرف اللاتينية عوض الاحرف العربية ولست ادرى بالضبط ما هو السبب الذى دعاه الى ذلك .
قال لى : لقد حققت هذا الديوان وترجمته فى ظرف اربعة اشهر واني عندما اذكر هذه الفترة من حياتى اعجب من نفسى فقد كان ذلك عملا بطوليا . كان الزمن شتاء والشتاء فى مدريد قارس شديد القروسة وخاصة فى بيت صديقى المستعرب الكبير ميكال حسين بالاسويس ( Miguel Acine Palacios ) الذي نزلت به . فكنت انهض منذ الصباح الباكر وانا ملتف فى معطفى فاعمل كامل النهار لا اشعر بمرور الوقت .
وقد اضطلع الدكتور نيكل فى هذه المدة ايضا بتحقيق " كتاب الزهرة " لابى بكر محمد بن ابى سليمان داود الاصفهانى وهذا الكتاب مجموعة من القطع الادبية المأثورة عن ادباء الاندلس وهو مصدر من اهم مصادر " الطوق ". وقد تمم الدكتور نيكل تحقيقه بمشاركة الاديب العربي المعروف الاستاذ ابراهيم طوقان ونشره فى بيروت ( مطبعة الاباء اليسوعيين ) سنة ١٩٣٢
وفي سنة ١٩٣٤ وجهته جامعة غرناطة الى روما ليقوم على حسابها بابحاث فى مكتبة الفاتيكان تخص المخطوطات المتعلقة بالاندلس ، فقضى كامل السنة بايطاليا ، ثم قضى السنوات التى سبقت اندلاع الحرب العالمية وهو يجوب الدول الاوروبية من اسكاندنافيا الى بولونيا الى البلقان قال لى : لقد كنت موقنا بان الحرب آتية لاريب فيها وان كنوز الحضارة الاوروبية قد تتلاشى فى هذه الطامة الكبرى فكنت اتبارى مع الحوادث حتى اسبقها فى السير ..
وفى سنة ١٩٤٠ قفل راجعا الى اسبانيا حيث عين مديرا لمدرسة الدراسات العربية بغررناطة (١) وفى هذه المدة القى عدة محاضرات فى جامعة كوانبرا (٢) بالبرتغال وبعدة ابحاث تخص النقوش العربية فى هذه البلاد وقد نشر كتابا عن هذه الابحاث سنة ١٩٤٦
وفي سنة ١٩٤١ عاد الى الولايات المتحدة فعين استاذا " محاضرا " في جامعة هارفار وذلك فى اللغتين الاسبانية والبرتغالية . وفى صائفة سنة ١٩٤٣ دعته الجامعة
القومية المستقلة بمكسيكو (١) لالقاء عدة محاضرات عن الشعر العربى الاسبانى .
هذا وقد نشر الدكتور نيكل علاوة عما ذكرنا كتاب " البارى فى احكام النجوم " لابن ابي الرجال بعد تحقيق نصه . ودراسة عن الادب الغنائى في جنوب فرنسا (٢) وترجمة للقرآن الكريم الى اللغة التشيكية سنة ١٩٣٤ ونشر " قصة بياض ورياض " وهو كتيب ممتع اطلعت عليه في مكتبة جامعة هارفار ببوسطون يصف مجالس الادب والغناء والغرام في العهد الاخير من الحكم الاسلامى بالاندلس (٣) كما نشر دراسة عن الشعراء الاندلسيين في كتاب الف ليلة وليلة ومختارات من الشعر الاندلسي سنة ١٩٣٩ في نشريات " دار العلم للملايين " ببيروت وله علاوة عن هذا دراسات فى اللغة والحضارة اليابانيتين ...
والدكتور نيكل عضو في الجمعية الاسيوية الفرنسية والجمعية الاسيوية اليابنية وفى اكادمية اللغة بمدريد وفى المعهد الشرقى ببراغا (Prague) وجمعية علماء الآثار بلشبونة . وهو على علو مكانته العلمية متواضع دمشق دمث الاخلاق لطيف النكتة . قال لى : لم احل ببلد الا واندمجت فيه وحسبني سكانه فردا منهم ما عدا في الشرق الاقصى فقد تغلبت على اللغتين الصينية واليابانية غير انى لم استطع طبعا تغيير سحنتى الاوروبية ...
نعم ان الدكتور نيكل لم يتمكن من تغيير سحنته كما لم يتمكن من تغيير اي شيء فى العالم وقد طالما حلم بذلك . قال لى : " كنت اشعر في عهد الشباب انى استطيع غزو العالم بفضل اجادتى للغات سائر الشعوب مثلما غزاه آخرون بحد السيف ولكن كان ذلك شعورا رومنطيقيا ..."
ولعل هذا يميط اللثام عن الكآبة التي كانت تبدو أحيانا على محيا الدكتور نيكل اثناء حديثه معى وذكره مرارا لهذا البيت (٤) : ومر من كل شيء فيه أطيبه حتى التمتع بالآصال والبكر . نيويورك - نوفمبر ١٩٥٧
