أعلن الناقد الإنجليزي (فرانك سوينرتون) فى صحيفة (الأوبزرفر) عن قرب صدور الكتابين الجديدين للمؤلفين الكبيرين (ولز) و (موجهام) فقال فى مقدمة كلامه: (هناك تناقض يغرى بالتساؤل بين موقف العصريين وموقف الجيل الفكتورى حيال الكتاب النابهين. فقد كان هؤلاء الكتاب يحاطون بالإجلال المرهوب حين ينتهون إلى الشيخوخة ويقلعون عن التأليف، وكانوا قبلة التبجيل والتشريف والحجيج من سائر البلاد. أما اليوم فنقيض ذلك هو الواقع: اليوم يلبث كتاب الأمس فى الميدان ولا يخرجون منه ولا يتطلعون إلى إجلال مرهوب أو يستقبلون التبجيل والتشريف، وكل شاب ذى ملكة موهوبة يقتضيهم الثناء السخى والتشجيع ولكنه يرى لنفسه حقاً فى الإنحاء عليهم واتهامهم بالوقوف فى طريق الثورة الأدبية)
هذه حرب الأجيال التى يتحدثون عنها فى البلاد الأوربية، ويقصدون بها قيام جيل من الكتاب والأدباء وراء جيل، ومحاولة الجيل الجديد أن يفسح له مكاناً إلى جانب الأعلام النابهين فى ميدان الأدب والتأليف
وهذه الحرب قديمة لم تنشأ فى زماننا هذا ولا فى الزمان الذى قبله وإن اختلفت فيها الدعاوى والأساليب
ولكنها اشتدت فى الجيل الحاضر لعوامل جديدة طرأت عليها: منها التزاحم العنيف، ومنها أن النظرة إلى (الماضى) اختلفت بين العهد الفكتورى والعهد الحاضر، أو بين أوائل القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين
كان التوقير حقا للماضى، لأن الناشئين كانوا ينتظرون منه كل شىء ويتجهون إليه إذا أرادوا العلم والخبرة والحنكة والهداية
أما اليوم فقد جدت مشكلات نفسية واجتماعية ليس للماضى فيها تصريف ولا احتيال، ولا يتجه فيها أحد إلى الماضى ليعرف ما عنده لها من علاج وتدبير، لأنها لم تكن معروفة فيه ولم تكن 28- 12
معروضة على أهله، فتحول الاتجاه من الماضى إلى المستقبل، وبطل ما كان مألوفا مقررا للماضى من التبجيل والتشريف
هذه المشكلات هى سر الحياة وسر الأزمات العالمية وسر القلق والاضطراب فى علاقات الاجتماع
ليس للماضى فيها تصريف ولا احتيال. فهل التصريف والاحتيال فيها للحاضر؟ وهل هما للمستقبل القريب أو البعيد؟
كلا! التصريف والاحتيال فيها للزمان وللعمل المشترك بين جميع الناس من شيوخ وكهول وشبان وأطفال لا يزالون فى المهود أو لا يزالون فى الأصلاب
وهل يرجى أن يجىء على الدنيا عهد من العهود خلواً من المشكلات التى تطلب الحلول ولا ينفرد بحلها جيل واحد من الأجيال؟
كلا! إن هذه المشكلات لا يحلها الحاضر ولا المستقبل برأى هذا أو باحتيال ذاك، ولكنها تنحل مع الزمان تارة بالعمل المقصود وتارة بأعمال كثيرة غير مقصودة، ولا تزال طبقة منها وراء طبقة على مدى السنين
هذه هى الحقيقة التي يجهلها بعض المتعجلين. وليس من غرضنا فى مقالنا هذا أن نسهب فى توضيحها وتمحيص نظرات الناظرين إليها، وإنما أردنا أن نشير إلى العامل الجديد الذى أضاف بعض الشدة والعنف إلى حرب الأجيال، وأدى إلى ذلك الموقف الذى لخصه (فرانك سنوينرتون) فيما تقدم
يوشك من يقرأ كلمة الناقد الإنجليزى ويذكر ما يكتب فى مصر وفى بعض الأقطار العربية أن يبادر فيقول: (إن بعض الحال من بعض) أو (الحال من بعضه) كما يقول العامة فى البلاد المصرية...
فإن قال قائل مثل هذا فهو مخطئ، لأن الحال الذى يحسب (بعضه من بعض) لمختلف أبعد اختلاف.
هناك يتكلمون عن الشيوخ الذين أنافوا على السبعين، وهنا يطالبون الكهول فيما دون الخمسين بالسكوت والانزواء.
هناك يأتى بعد جيل (ولز) جيل هكسلى وهو فى الرابعة والأربعين، ثم يأتى بعده جيل الشبان الناشئين وهم فى نحو
الثلاثين، وهنا لا يتجاوز الشاب العشرين حتى يتعجل الشهرة بل يريدها له وحده خالصة دون أبناء الثلاثين أو الأربعين أو الخمسين، بل دون زملائه الآخرين من أبناء العشرين.
هناك يؤلفون ويبتدعون ويزاحمون الرأي بالرأى، والنهج بالنهج، والتفكير بالتفكير؛ وهنا لا يؤلفون ولا يفكرون ولا يقرءون، ولا يزيدون على إبراز شهادة الميلاد والترنم بما يسمونه حقوق الجيل الجديد.
هناك يثبون إلى المستقبل فيسبقون، وهنا يرجعون إلى الوراء ويشبهون الببغاوات فى ترديد الصياح القديم.
أضف إلى هذا أموراً أخرى تختلف فيها البواطن والظواهر ويؤجر عليها القادحون فى مشاهير الكتاب لغرض ليس بالصريح ولا بالشريف.
فهم تارة مأجورون لأصحاب المطامع السياسية الذين يريدون القبض على أعنة الدعوة فى بلاد المشرق، فلا يملكون هذه الأعنة والمشاهير من الكتاب قائمون مسموعون، فيبذلون ما فى وسعهم للغض من أولئك الكتاب والتطاول عليهم بالصياح والضجيج الذى قد يروج بين الأوشاب والأغمار، لأن الأوشاب والأغمار لن يطلبوا دليلاً ولن يميزوا ما يسمعون.
وهم تارة مأجورون للشيوعيين الذين ينادون بالأدب الدارج أو أدب اللغة العامية لأنه أدب (الصعاليك) وهم يبشرون بدولة الصعاليك ولا يسرهم أن ترسخ فى المشرق العربى آداب اللغة الفصحى ولا الآراء التى تناقض ما يدعون إليه من فوضى وابتذال، بل لا يسرهم أن تستقر فى الأقطار العربية مكانه مصر خاصة لأن مصر خاصة قبلة المأثورات الموقرة من التاريخ القديم، فإذا هدموا مكانتها فقد زال من طريقهم هذا المعقل الحصين وتمهدت الأرجاء بطاحا ذلولا ليس فيها ما يعوق نعيب ماركس وخليفته لنين، وصاحبيه تروتسكى وستالين.
فإذا لم يكونوا مأجورين لأصحاب المطامع أو للشيوعيين فهم مغرورون يتهافتون على الشهرة ولا يتذرعون لها بأسبابها ولا يرجعون إلى ما فيهم من نقص وكسل وعجز عن الكفاح، بل يفضلون التعلل بالأسباب الواهنة والدعاوى الكاذبة والحجج
المسلية التى تشبه الأفيون فى التخدير والإرضاء وتشبهه فى هدم القوى وتخريب الأذهان
وكثيراً ما تسمعهم يقولون: كيف تأتينا الشهرة وهؤلاء الكهول أو الشيوخ يحتكرون ثناء الصحف السيارة ويستأثرون بميدان الدعوة والتأليف؟
وهذا بعينه هو الأفيون إن لم نقل هو أخبث من الأفيون فى الكذب والتحطيم
فقد صدر فى مطلع هذا العام كتب ثلاثة لمن يسمونهم بالكهول والشيوخ وهم طه حسين واحمد أمين وكاتب هذه السطور. فكم نهراً من أنهر الصحف اليومية قرءوه فى تقريظ هذه الكتب أو فى الإشارة إلى صدورها؟
لا أذكر أننى قرأت شيئاً ذا بال فى الصحف اليومية عن كتاب طه حسين (مستقبل مصر الثقافى) أو كتاب أحمد أمين (فيض الخاطر).
أما كتابى رجعة أبى العلاء فقد ظهر وأوشك أن يباع نصفه ولما تذكر صحيفة يومية واحدة أنه صدر من المطبعة مجرد صدور... والكتب مع هذا تسير فى طريقها وتلقى حظها من الذيوع
فالواقع أن جيل الأدباء الكهول فى مصر جيل لا يدين لأحد بما أصاب من شهرة ومكانة، وهو فى هذه الخصلة جيل فريد بين أدباء العالم من أقدمين ومحدثين
فالأدباء الأقدمون كانوا يعولون على النصراء والمشجعين ويعتمدون على الخلع والهبات
والأدباء العصريون فى أوربا يعولون على دعوة الناشرين وإقبال الملايين من القراء فى لغاتهم وفى اللغات الأخرى التى يترجمون إليها
أما أدباء الكهول والشيوخ المصريون فلا نصراء ولا هبات ولا دعوة ناشرين ولا ملايين قراء، وكل ما هنالك حسد واضطغان واستهداف للبذاء من مأجوري الشيوعيين ومأجورى أصحاب المطامع ومن تقعد بهم الرخاوة عن الجد والكفاح
فماذا كانوا لاقين يا ترى لو أصابوا من الكسب والشهرة ما يصيبه برناردشو أو ولز أو موجهام أو لدفيج من طبعة واحدة لكتاب واحد يباع للقراءة ويباع للتمثيل ويباع للصور المتحركة ويباع للترجمة فى بضع لغات!
وما أحسب إلا أننا كنا نمشى يومئذ فى الطريق فيخرج علينا الكامنون من (نابغى الجيل الجديد) بالمسدسات والسكاكين!!
هذه هى حرب الأجيال عندنا لا يقال فى وصفها أصدق من أنها لعب أطفال، أو مكيدة أنذال، أو سفاهة جهال؛ وليس من ورائها نفع للأدب العربى ولا لمن يحاربون فى ميدانها بذلك السلاح المفلول؛ ولن ينهزم فيها أناس انتصروا على الزمن وعلى الجهل وحدهم بغير معونة من حكومة ولا دعاة، ولا محاباة من الجماعات أو الأفراد الأقوياء، بل على الرغم فى معظم الأحايين من الإجحاف والعداء يلقاهم بهما جميع هؤلاء. فأحرى بهم ألا ينهزموا اليوم فى ميدان مأمون لا يقابلهم فيه جيش ولا جنود، ولا سلاح ولا بنود، إلا اللجاح والهراء ودسائس الجبناء فى الجهر والخفاء.
