-٢-
وكان لتلاميذ الألسن وخريجها جهود فى حركة وضع القواميس فصنف خليفة أفندى محمود فى سنة ١٢٦٤ قاموساً للغات الثلاث : العربية والتركية والفارسية ، ونشرت الوقائع المصرية فى العدد ١٢٢ ، بتاريخ ٩ شعبان سنة ١٢٦٤ " أن اليوزباشى خليفة افندي محمود المتخرج من مدرسة الألسن بالأزيكية قد ألف رسالة تشتمل على مفردات اللغات الثلاث العربية والتركية والفارسية ، فصدر الأمر بطبع ما يلزم منها على نفقة الميرى ، وإعطاء الأفندى الموصى إليه ربحها ليحصل بذلك على السرور ، وبنال الحظ الموفور "
وذكر صالح مجدى في ختام رسالته عن رفاعة " حلية الزمن " ثبتاً بأسماء تلاميذه ، وقال إن من بينهم " مصطفى بك السراج ، وقد شرع فى عمل قاموس فرنسى عربى لم يتمه " .
وقد امتد أثر رفاعة وتلاميذه فى هذا الميدان إلى المدارس الأخرى ، ففى مدرسة المهندسخانة اتبع بعض أساتذتها الطريقة السابقة ، فألحق أحمد افندى فايد مثلاً بكتابه " الأقوال المرضية فى علم بنية الكرة الأرضية " نبذة فى ٣٨ صفحة تشتمل على بيان ألفاظ هذا الفن الاصطلاحية " . ولما خرجت مدرسة الألسن دفعاتها الأولى عين منها اثنان ، هما أبو السعود وصالح مجدى فى مدرسة المهندسخانة . وعهد إليهما بتدريس اللغة الفرنسية وترجمة ما يلقى من دروس " ووضع قاموس ازمعت المدرسة وضعه فى العلوم الرياضية " .
أما مدارس الطب ، فقد قام بالترجمة فيها أول إنشائها طائفة السوربين ، وقد بذلوا فى عملهم جهداً اجتهادياً ، فلما عاد أعضاء البعثات من الأطباء المصريين ، وبدأوا يشاركون فى حركة الترجمة ، كانت مهمتهم أسهل من مهمة أسلافهم السوريين ، وذلك لأنهم كانوا - إلى اتقانهم
اللغتين العربية والفرنسية - على علم بالعلوم الطبية ومسطلحاتها .
ولكنهم مع هذا كانوا فى حاجة إلى قاموس طبى ، ولم يتبع طريقة رفاعة فى مدرسة الطب إلا الدكتور "برون" فى كتابه " الجواهر الصفية في الأعمال الكيماوية " فقد الحق به ذيلاً فى ١١٩ صفحة " لشرح الآلات الواردة فى الكتاب " ورتب هذا الذيل على حروف المعجم الشيخ التونسى مصحح الكتاب ، وقدم له بقوله : " وبعد ، فلما من الله سبحانه وتعالى بإتمام كتاب الكيميا الماهر فى جميع الفنون ، ناظر مدرسة الطب البشرى الشهير بيرون ، وكانت فيه أعمال جمة ، تحتاج إلى آلات معرفتها مهمة ، وكان لم يذكر فى الكتاب منها إلا القليل ، فقصد أن يجمع جميع الأشكال ويجعلها كالذيل ليكون بها الإتمام ، ولأجل أن تكون كلها مجموعة فى ورقات قليلة ، لتسهل مراجعتها فى المهمات الجليلة ، فجمعها فى هذه الورقات ، ووضحها أتم توضيح كما هو المقصود للمراجعات ، وأمرنى أن أرتبها على حروف المعجم لتكون فى المراجعة أسهل وأقوم ، فامتثلت أمره لما فيه من الفوائد . . " الخ . ومن الآلات التى شرحت فى هذا المعجم : الأنبوبة ، والأنبيق ، والبوتقة ، والجفنة ، وجهاز تعيين الوزن النوعي للهواء والغازات ، ودورق ولف "الممبار" ، والمرسخ . الخ ، وكلها ألفاظ واصطلاحات ، لهؤلاء الطلائع الفضل في كشفها أو صياغتها ، فإننا لا نزال نستعملها حتى الآن فى كتبنا الكيميائية والطبيعية .
غير أن كثرة الكتب الطبية التى ترجمت كانت تتطلب إيجاد أو ترجمة قاموس طبى ، وقد بدأت المدرسة بترجمة قاموس صغير فى هذا الموضوع من تأليف " نايستن Nysten " ولكنه لم يف بالغرض ، فأحضر كلوت بك من فرنسا " قاموس القواميس الطبية Dictionaire Des
Dictionnaires de Medecine " تأليف " فابر fabre" وهو فى ٨ مجلدات ، ويشتمل على جميع المصطحات العلمية والفنية فى الطب والنبات والحيوان والعلوم الأخرى المختلفة المتصلة بالعلوم الطبية .
وتعاونت مدرسة الطب بكل هيئاتها على ترجمة هذا القاموس إلى اللغة العربية ، " ففرقه ناظر المدرسة إذ ذاك - وهو الدكتور برون - على مهرة معطفها ، وهم : حضرة إبراهيم أفندى النبراوى معلم الجراحة الكبرى ، وحضرة محمد افندى الشباسى معلم التشريح الخاص ، وحضرة عيسوى أفندى الغمراوى معلم التشريح العام ، وحضرة العلامة السيد أحمد أفندى الرشيدى معلم الطبيعة ، وسعادة حسين أفندى غانم الرشيدى معلم الإفرابازين والمادة الطبية ، وحضرة مصطفى افندى السبكى معلم أمراض العين ، وحضرة حسنين على أفندى معلم النباتات فى ذلك الحين . فترجم كل منهم الجزء الذى أعطيه ، واجتهد فى توقيع لفظه على المعنى حتى شكرت مساعيه ".
ولم يكتف الدكتور برون بهذا . بل أراد أن يكون القاموس الجديد جامعاً أيضاً للألفاظ والمصطلحات الطبية العربية القديمة ، فأتى بالقاموس المحيط ، ووزعه على أفراد هذه الهيئة ، وأشرك معهم مصححى المدرسة الشيخ محمد عمر التونسى ، والشيخ سالم عوض القبانى ، والشيخ على العدوى ، وأمر كلا منهم أن يراجع الجزء الذي بيده ، وينتقى منه " كل لفظ دل على مرض أو عرض ، وكل اسم نبات أو معدن أو حيوان " . ولم يقنع برون بهذا أيضا ، يقول الشيخ التونسى : " ثم خصنى الناظر المذكور باستخراج ما فى القانون من التعاريف ، وما فى تذكرة داود من كل معنى لطيف ، وزدت على ذلك ما فى فقه اللغة ومختصر الصحاح ، وما فى الهروى من التعاريف الصحاح ، وضممت للملك أسماء الأطباء المشهورين ، وأسماء عقاقير كنت رأيتها فى بلاد السوادين " .
فلما تمت هذه الجهود جميعاً ، عهد برون بهذا القاموس الجديد إلي الشيخ التونسى ، فرتب الألفاظ والمصطلحات على حروف المعجم ، وراجعه مراجعة دقيقة ، ولم يأل جهداً - كما قال - " فى تصحيح كلماته . وتهذيب عباراته " ، فلما انتهى من هذا كله قابلة معه وكيل مدرسة
الطب الدكتور محمد شافعى أفندى ، وسماه التونسى فى النهاية : " الشذور الذهبية فى المصطلحات الطبية ". ولم يقصره على الألفاط العربية ، بل ضمنه " أسماء لاطينية ، وأخرى فرنساوية ، وأخرى فارسية ، سواء استعملتها العرب ، أو كانت محدثة ودخلت فى الألفاظ الطبية لأدنى سبب " .
ولم يكد التونسى ينتهى من إعداد قاموسه حتى كان محمد على باشا قد لبى نداء ربه " وأخذت الحياة العلمية فى عهد عباس الأول تركد وتجمد نشاطها ، وخشى كلوت بك أن يضيع القاموس ، فاصطحبه معه إلى باريس ، وفي التاسع من سبتمبر سنة ١٨٥١ قدمه هدية " للمكتبة الأهلية " هناك .
وفى مفتتح القرن العشرين فكرت مصر ثانية فى هذا القاموس ، وأحضرت له نسختان شمسيتان أودعتا فى دار الكتب الملكية فى القاهرة ، وفى حدود سنة ١٩١٠ بدأت نظارة المعارف تفكر فى طبعه ، وعهدت بالأمر إلى الدكتور أحمد عيسى بك ، فنشر منه مائة صفحة فقط ، انتهى فيها إلى لفظ " أزدران " أى انه لم يستوف حرف الألف . ولم يقف جهد الدكتور عيسى بك عند نشر النص العربى كما تركه التونسى ، بل أعاد ترجمة كل لفظ من ألفاظ القاموس إلى اللغتين الإنجليرية والفرنسية ، ونشره جامعاً لهذه اللغات الثلاث ، وطبع هذا الجزء الصغير على نفقة دار الكتب الخديوية فى مطبعة المقتطف بالقاهرة ، سنة ١٣٢٢ ( ١٩١٤ ) ، غير أنه وقف عند هذا الحد ، ولم يتم طبع بقية القاموس ، فظل حتى الآن منسياً فى دار الكتب ينتظر من يعنى بنشره وإحيائه .
وفى نفس الوقت الذى كان التونسى يعد فيه قاموس " الشذور الذهبية " فكر الدكتور برون فى طبع القاموس المحيط للفيروزابادى فى مصر ، وقد أشار إلى مشروعه هذا فى كثير من رسائله إلى صديقه " جول مول " ؛ ففى خطابه إليه المؤرخ ١٤ يناير سنة ١٨٤٥ قال : " وتكون مخطئاً إذا حسبت أن القاموس يوجد عند العلماء ، فليس هناك فى القاهرة ولا فى مصر كلها عشرة علماء يملكون هذا القاموس ، بل ليس هناك عشرة علماء يعرفون كيف يستعمل القاموس " وختم خطابه بجملة فيها تهكم مرير ، قال : " فلنعط إذاً قاموساً للعلماء "
Donnons donc un dictionmaire aux Ulema
( البقية على الصفحة التالية )
وقد ذكر لصديقه فى خطابات اخرى أنه أعد للأمر عدته . فأحضر نسخاً كثيرة مخطوطة كما احضر نسخة القاموس الطبعة فى كلكنا سنة ١٢٣٠-١٢٣٢ ، وأنه اتفق مع الشيخ التونسى على مراجعة النسخ ومقابلتها أثناء الطبع ، وانه طلب من الباشا أن يأذن له بطبعه فى مطبعة بولاق .
غير أننى رجعت لأقدم نسخة من القاموس طبعت فى بولاق ، فوجدت أنها نشرت فى جزأين بإشراف وتصحيح الشيخين : محمد قطة العدوى ونصر الهورينى ، وذلك فى سنة ١٢٧٢(١٨٥٦) يأمر محمد سيد باشا ، ولم أجد فى المراجع التى أفدت منها ما يبين الأسباب التى عاقت برون والنونسى عن تنفيذ مشروعهما ، وجعلت تنفيذه على يد الشيخ نصر الهورينى .
وأخيرا لا ننسى أن تذكر أنه بينما كانت هذه المحاولات تتخذ طريقها لوضع أو لترجمة أو لنشر القواميس ، كان هناك شيخان جليلان - احدهما انجليزى والثانى مصرى أزهرى - يجتمعان كل ليلة - لمدة سبع سنوات - فى منزل متواضع بحارة الروم بالفاهرة ، وبين أيديهما نسختان
من القاموس المحيط ، ونسخ كثيرة من قواميس اللغة العربية المختلفة ، فيقرآن ويراجعان ، ويتفهمان ويصححان . فإذا مضى الهزيع الأول من الليل عاد الشيخ الأزهرى إلى داره ، وعكف الشيخ الإنجليزى على ترجمة ما قرأ فى ليلته إلى اللغة الإنجليزية ، فلما أتم تسعة أعشار القاموس عاد إلى وطنه . وظل صديقه الأزهرى يوافيه بالعشر الباقى بعد مراجعته ، وهناك فى لندن أتم ترجمة القاموس ، وطبع بنصيه العربى والإنجليزى الطبعة الأولى فى لندن سنة ١٨٦٣ تحت عنوان : " مد القاموس عربى انخليزى Arabic " English Lexicon
أما الشيخ الإنجليزى فهو المستشرق المعروف " مستر لين Mr. Lane" ، وأما الشيخ الأزهرى فهو الشيخ إبراهيم عبد الغفار الدسوقى ، الذى يقول بعد أن قص قصة علاقته بصديقه : " وقد وردت أجزاء من الكتاب المترجم إلى بعض الندوات بمصر ، مطبوعة باللغة العربية والإنكليزية باسم هذا الرجل ، مرسوماً فيها صورتى ، والثناء على ما كان من مروءتى "
