الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 643الرجوع إلى "الثقافة"

حركة القواميس والمعاجم في مصر، في النصف الأول من القرن التاسع عشر

Share

كانت الصلات العلمية بين مصر والغرب - طول العهد الملوكي العثماني - مقطوعة مبتونة ، فلم يكن في مصر معهد واحد تدرس فيه آية لغة من اللغات الأوربية . ولم يكن في مصر من له معرفة بإحدي هذه اللغات . أو يتحدث بها غير أفراد الجاليات الأجنبية ، وقد كانوا يعيشون في عزلة وفي أحياء خاصة بهم حيث تقوم متاجرهم ومساكنهم .

وقد كانت الحكومة منذ عصر المماليك حتى مجئ الحملة الفرنسية تحتفظ دائما بوظيفة تقليدية هي وظيفة "الترجمان" وكانت " خدمته الوقوف في كل ديوان لأجل تعريف الكلام بكل لسان " وقد ظل هذا التقليد معمولا به حتى أوائل عصر محمد على ؟ فتولى هذا المنصب بوغوص بك ، ثم لقب فيها بعد بناظر الخارجية ، وتولى إدارة ديوان التجارة ، والأمور الخارجية ، أو بالمصطلح التركي للعصر : أموره افرنجية وتجاره مصرية ديواني " .

فلما وفدت الحملة الفرنسية على مصر عانت ما عانت من مشكلة الترجمة (١) واستعانت على حلها بطائفة من السوربين وببعض من حضروا معها من المستشرقين .

وقد كانت ترجمة هؤلاء اجتهادية غير دقيقة ؟ فقد كانت تنقصهم القواميس التي تجمع بين مفردات اللغتين الفرنسية والعربية . وقد ذكر الجبرتي أنه رأي في مكتبة المعهد العلمي عند زيارته لها كتبا " مفردة لأنواع اللغات وتصاريفها واشتقاقاتها ، بحيث يسهل عليهم نقل ما يريدون من أى لغه كانت إلي لغتهم في أقرب وقت " ولكن هذا النص عام لم يفصل أنواع اللغات التى كانت تتناولها هذه القواميس ، وهل كان من بينها ما يجمع بين اللغة العربية وأي لغة أوربية أخري ؟ .

كذلك ذكر الأب لويس شيخو خطأ أن مطبعة الحملة طبعت فيما طبعت في مصر معجما فرنسا عربيا .

وبدأت الحملة قبيل رحيلها تعد بعض الشبان الأقباط لتعلم اللغة الفرنسية ؛ فلما عادت الحملة إلى فرنسا خرج معها بعض هؤلاء الشبان ، وقد نبغ منهم بعد سنوات اليوس بفطر الذي وضع في فرنسا أول قاموس فرنسى عربي ، وأشرف على طبعه في باريس سنة ١٨٢٩ بعد وفاته المستشرق كوسان دى برسينيال .

وكانت حركة الاستعمار في أوربا في ذلك الوقت نشيطة ، والتنافس بين الدول الأوربية على أتمه ، وصحب هذا التنافس تنافس آخر لدراسة أحوال الشرق - مطمح الأنظار - ولغاته وتاريخه وجغرافيته وعاداته ، وأنشئت في دول أوربا المختلفة الجماعات والمجلات الأسوية ، ومدارس اللغات الشرقية ، وأنتجت هذه الحركة نتاجا وافرا من دراسات قيمة ، كان من بينها قواميس كثيرة تجمع بين اللغات الشرقية الثلاث - العربية والفارسية والتركية - وبين اللغات الأربية المختلفة .

فلما بدأت حركة الترجمة في عصر محمد على حوالى سنة ١٨٢٠ ، وكانت متجهة في أول الأمر إلى النقل عن اللغة الإيطالية ظهرت الحاجة إلى قاموس بجمع بين مفردات الللغتين العربية والإيطالية ، وكلف بوضعه الأب بروفاييل زاخور راهنبة ، فلما أنشئت المطبعة في أواخر سنة ١٨٢١ ، كان ثاني أو ثالث كتاب طبع بها هو " قاموس إيطالياني وعربي " و يتضمن بالاختصار كل الألفاظ الجاري بها العادة ، والألزم لتعليم الكلام ، ومفهومية (كذا) اللغتين على الصحيح ، وقد يقسم إلى قسمين : القسم الأول في القاموس المرتب على حسب المعتاد ، وبموجب ترتيب حروف الهجا ، والقسم الثاني ويتضمن مجموع مختصر من أسماء وأفعال من الأشد إلزام وأكثر فائدة لدرس اللغتين " .

وقد وضح المؤلف الأغراض التي دفعته إلى وضع هذا القاموس في مقدمته ، فقال : " . . فقد اضطررت من قبل وظيفة التعليم ، وسهولة درك معنى الألفاظ بهذه اللغة ، والتفهم على التلامذة الدارسين . وعلى من بنتدب لترجمة الكتب من المتفقهين ، لأني (كذا) أؤلف قاموسا ترجمانا وجيزا ، مقتطفا عزيزا ، يشتمل على كل ما يحتاج الأمر إليه ، وما كان المعول عليه ، وذلك في اللغتين الإيطاليانية والعربية ، مما في الترجمة من الألفاظ الضرورية . . " وقد طبع هذا القاموس في بولاق سنة ١٢٣٨(١٨٢٢ ) .

وقد كانت الترجمة في عصر محمد على واسعة الآفاق ، فشملت النقل عن كل اللغات - شرقية وغربية - ، ولهذا لم تلبث مطبعة بولاق أن أخرجت بعد خمس سنوات ( ١٢٤٢-١٨٢٦ ) قاموسا فارسيا تركيا من وضع خيرت افندي سكرتير ديوان محمد على ( ديوان افنديسى ) ، ثم قامت المطبعة على إخراج عدد من القواميس التركية والفارسية والعربية ، وكلها فيما عدا " تحفه خيرت " مما سبق وضعها وطبعها في الآستانة .

ففي سنة ١٢٤٥(١٨٣٠ ) طبع في بولاق " تحفه وهبي " وهو قاموس فارسي تركي سبق ان طبع في الآستانة سنة  ١٢١٣(١٧٩٨) .

وبعد سنة واحدة ( ١٢٤٦-١٨٣١ ) طبع موجز عن القاموس السابق بعنوان " نخبه وهبي " وأضيفت إليه الألفاظ العربية فأصبح قاموسا فارسيا تركيا عربيا .

وفي سنة ١٢٤٩(١٨٣٤ ) طبع قاموس فارسي تركي صغير عنوانه " صيحه صبيان " وكان قد طبع في الآستانة سنة ١٢١٧(١٨٠٢ ) .

وفي سنة ١٢٥٠(١٨٣٥) طبعت الترجمة التركية مع المتن العربي لقاموس الفيروز ابادي تحت عنون " الآفيانوس البسيط في ترجمة القاموس المحيط ؛ وكان قد ترجم وطبع في الآستانة سنة ١٨١٤-١٨١٧ .

وفي سنة ١٢٥١(١٨٣٦ ) طبع " برهاني فاطعي " وهو قاموس فارسي تركي ، وضع المتن الفارسي ابن خلف ، وترجمه إلى التركية أحمد أمين افندي ، وكان قد طبع في الآستانة سنة ١٢١٤(١٧٩٩).

وفي سنة ١٢٥٣(١٨٣٨) طبع " الترجمان " وهو مجلد صغير به مفردات عربية وتركية .

وفي سنة ١٢٥٥ طبع " تحفه خيرت " وهو قاموس تركي عربي فارسي صغير تأليف خيرت افندي ، وضع لاستعمال تلاميذ المدارس .

هذه هي قواميس " اللغات الثلاث " كما كانت تسمى ، وقد ادت مهمتها ، فسهلت للقائمين بالترجمة عن احدي هذه اللغات إلي الأخرى عملهم .

وحوالي سنة ١٨٢٥ تحول محمد على بوجهه عن إيطاليا إلى فرنسا ، فاستدعي الفرنسيين إلى مصر ، وفي سنة ١٨٢٧ أنشئت مدرسة الطب المصرية ، وبدأت تتغلب على مشكلة اختلاف اللغات بالمترجمين ويترجمة الكتب الفرنسية إلى العربية ، وفي سنة ١٨٢٦ أرسلت أكبر بعثة إلى فرنسا ، وفي سنة ١٨٣٢ عاد معظم أعضاء هذه البعثة ، وبدأوا يشاركون في حركة الترجمة عن الفرنسية إلى العربية ، وهنا ظهرت الحاجة الماسة إلى قاموس بل قواميس علميه مختلفة للغتين .

أحس هذه الحاجة قبل غيره كبير مترجمي العصر رفاعة رافع الطهطاوي ، وأحسها وهو في فرنسا يتخصص في الترجمة ، ويترجم في مختلف الفنون والعلوم ، وأغلب ظني أنه لم يوفق هناك إلا إلى قاموس بقطر ، فقد ظهرت طبعته الأولى في باريس بعد وصوله بثلاث سنوات ، وقبل عودته إلى مصر بسنتين ؛ فلما عاد إلى وطنه ، وبدا يراجع بعض الكتب التي ترجمها في باريس ويعدها للطبع أحس هذا النقص مرة ثانية ، وأحس به إحساسا قويا ، وعبر عن شعور هذا في أول كتاب طبع له ، وهو كتاب " المعادن النافعة ، الذي طبع في بولاق بعد عودته ، في سنة ١٢٤٨ ، فقد قال في مقدمته ؛ " وقد فسرت مفرداته على حسب ما ظهر لي بالفحص التام ، وما تعاصي منها حفظت لفظه ، ورسمته كما يمكن كتابته به ، وربما ادخلت بعض تفسيرات لطيفة ، والعذر لي إذا زل قدم ترجمتي في بعض التفاسير، لأن اللغة الفرنساوية لم يفض ختامها إلى الآن بقاموس شاف مترجم ".

ويبدو أن رفاعة كان قد عبر عن شعوره هذا لإبرهيم باشا عند مقابلته له أول وصولة إلى الإسكندرية عائدا من باريس ، فبادر إبراهيم باشا وكلفه بوضع هذا القاموس ، فقد أشار رفاعة في هامش الكتاب السالف أمام الجملة السابقة

إلى هذا الأمر ، فقال : " وقد أمرني سعادة ولي النعم أفندينا إبراهيم باشا بترجمة قاموس ، وعين لي حضرة عثمان بك ( يقصد عثمان باشا نور الدين ) قاموس أكاديمية ، ولكن عاقني عنه عوايق . . منها أشغال أبي زعبل ، ومنها أنه يحتاج إلى وضع المترجم في كتب خانة ، ويحتاج أيضا إلى أن يكون معى مساعد فرنساوى ، بل هذا الشغل هو شغل نحو عشرة أنفار ، حتى يكون مستوفيا ومستوعبا للألفاظ الاصطلاحية " .

أمام هذه العقبات لم تنفذ الفكرة ، ولكنها ظلت تشغل تفكير رفاعة ؛ فلما قدم كتابه الثاني " قلائد المفاخر في غريب عوائد الأوائل والأواخر " إلى المطبعة في السنة التالية ( ١٢٤٩ ) بدأ يحتال على تنفيذ الفكرة ، ورأي أن يضع للكتاب في أوله قاموسا صغيرا لشرح ما ورد به من ألفاظ غريبة ، ودعا غيره من المترجمين أن ينهجوا نهجه ؛ فيلحق كل منهم بكل كتاب يترجمه قاموسا شبيها بقاموسه ، حتى إذا مضي بعض الوقت كان لمصر من جهودهم قاموس علمي كبير " مشتمل على سائر غريب الألفاظ المستحدثة التى ليس لها مرادف أو مقابل في لغة العرب أو الترك " وهذا نص تقدمته للقاموس وشرحه للفكرة ، قال : " شرح الكلمات الغريبة التي توجد في كتاب قلائد المفاخر . . مرتبة على حروف المعجم ، مضبوطة على حسب الإمكان ، ومفسرة على الوجه الأنم ، سواء كانت أسماء بلدان أو أشخاص أو أشياء ؛ ولما كانت هذه الألفاظ في الأغلب أعجمية ، فلم ترتب إلي الآن في كتب اللغة العربية ، وكان يتوقف فهم هذا الكتاب عربناها بأسهل ما يمكن التلفظ به فيها على وجه التقريب ، حتى إنه يمكن أن تصير على مر الأيام دخيلة في لغتنا ، كغيرها من الألفاظ المعربة عن الفارسية واليونانية ؟ ولو صنع المترجمون نظير ذلك في كل كتاب ترجم في دولة أفندينا ولي النعم الأكرم ، لانتهي الأمر بالتقاط سائر الألفاظ المرتبة على حروف الهجاء ، ونظمها في قاموس مشتمل على سائر الألفاظ المستحدثة التى ليس لها مرادف أو مقابل في لغة العرب أو الترك ؛ فإن هذا مما يفيد التسهيل على الطلاب ، وبه تحصل الإعانة على فهم كل علم أو كتاب " .

وقد كانت طريقة رفاعة في هذا القاموس أن يكتب اللفظ بحروف عربية مراعيا طريقة نطقه باللغة الفرنسية ،

ثم ينص على كيفية نطق هذا اللفظ بالطريقة العربية القديمة ، ثم يشرح معني اللفظ بجملة أو بجمل تكثر أو تقل حسب الظروف ، وفيها يلى أمثلة من هذا القاموس :

١ - أبريزيلة = بسكون الموحدة وكسر الراء بعدها مثناة تحتية ، فزاي مكسورة ، فلام ، فتاء تأنيث ، ويقال ايضا " ابرزيلة " و " ابرزيل " بفتح الراء = اسم لسلطنة كبيرة في القطر الشرقي من أمريكة الجنوبية ، محكومة بعيلة من بلاد " البرتوغال " وحاكمها يلقب " امبراطور " يعني سلطانا أو قيصرا ، وأهلها المتأصلون بها غير الإفرنج أكثرهم قبائل أرباب شرور وجير وتوحش عظيم ، حتى إن منهم من يأكل لحم الآدميين ، خصوصا لحم العدو الذي يقبضون عليه في الحرب .

٢ - أوبرا ، أوبرة - بضم الهزة ، وكسر الباء الفارسية التى تقرأ بين الفاء والباء ، فراء مفتوحة = هي أعلى " سبكتا كلات " فرنسا ( راجع سبكتاكل ) ، وتطلق على نوع مخصوص من الأشعار . . الخ .

وفي نفس الوقت الذي كان يفكر فيه رفاعة في وضع قاموس ، ثم يحتال على وضعه هذا الاحتيال ، كان موظف آخر اسمه " سريوس افندي " قد تقدم إلى محمد على بقاموس شامل للغات الخمس ( ولعله يقصد اللغات الثلاث الشرقية واللغتين الأوربيتين الشائعتى الاستعمال وهما الفرنسية والإيطالية ) ، ووافق محمد على طبعه ؛ فقد قرر مجلس الجهادية في ٢٥ رجب سنة ١٢٤٧(١٨٣٢) " بناء على التماس سريوس افندي المترجم طبع الكتاب المشتمل على اصطلاحات اللغات الخمس السابق صدور أمر سعادة افندينا ولي النعم بطبعه بعد ترجمته وإصلاحه ، بشرط أن يقوم المترجم بمباشرة طبعه ، وأن يذهب بذاته لمراجعة تصحيحه بالمطبعة ، ويكون بمعيته رجل خبير باللغات الثلاث " .

وقد رجعت إلى جميع القوائم التي أحصت الكتب المطبوعة في بولاق في عصر محمد على فلم أجد بها اشارة إلى هذا القاموس ، كذلك راجعت فهارس دور الكتب المختلفة فلم أجد له فيها ذكرا ، فلعله لم يطبع .

أما رفاعة فلم ينس مشروعه ، بل حافظ على تنفيذه في معظم الكتب التي ترجمها وطبعت بعد ذلك ، ففي سنة ١٢٤٩ طبع كتاب " مبادئ الهندسة " وفي أوله " معجم يتضمن

بيان بعض كلمات هندسية ، وتفسير ألفاظ اصطلاحية ينتفع به الطلاب ، وتكمل به فائدة الكتاب " .

وفي سنة ١٢٥٠ طبع كتاب " التعريبات الشافية لمريد الجغرافيا ، وفي نهايتة " جدول الألفاظ الاصطلاحية المستعملة في الجغرافيا بانواعها ، مرتبا علي حروف المعجم لتسهيل هذا الفن على الطالب ؟ .

فلما أنشئت مدرسة الألسن ، وبدأ تلاميذها وخريجوها يترجمون أخذهم أستاذهم رفاعة بطريقته ؛ فظهرت معظم كتبهم وفي آخرها ملاحق مرتبة ترتيبا أبجديا لشرح الأعلام والأنهاظ الاصطلاحية الواردة في تلك الكتب ، فهذا خليفة افندي محمود قد ألحق بكتابه (إنحاف الملوك الأليا بتقدم الجمعيات في بلاد أوربا " جدولا " لشرح الكلمات الغريبة " في ٤٧ صفحة .

وهذا حسن افندي قاسم قد خصص ٢١ صفحة من كتابه " تاريخ ملوك فرنسا " للذكر " معجم البلدان والأماكن الخفية في هذا الكتاب التي تحتاج للذكر ، وأما الآماكن الشهيرة فتطلب من كتب الجغرافيا ، وقد قلد فيه أستاذه رفاعة تقليدا صادقا ، غير أن قاسم بدأ يجدد في الطريقة ، فقصر المعجم السابق ذكره علي أسماء البلدان . ثم الحقه بمعجم آخر لأسماء الأعلام ، أو " معجم الرجال الموجودين في هذا الكتاب " على حد تعبيره .

غير أننا نأخذ على هذه المعاجم أو القواميس الصغيرة كلها أنها اهملت ذكر الأنفاظ والمصطلحات بالحروف اللاتينية إلى جانب الحروف العربية ، ولو أن المترجمين فعلوا هذا لأعفوا أنفسهم من الإطالة في ذكر طريقة النطق بالأسلوب القديم .

( للبحث بقية )

اشترك في نشرتنا البريدية