يرى علماء التطور ان الأصناف المختلفة للنباتات والحيوانات الوحشية انحدرت فى أسلاف أبسط تركيبا وأعم صفات، وقد جرت عملية التطور هذه فى وقت طويل جدا وبتأثير عوامل مشابهة للعوامل المؤثرة فى الوقت الحاضر، ونشأت خلال تلك العملية تنوعات Varieties جديدة تدرجت فى سلم الارتقاء، فعاش منها من استطاع ان يكيف نفسه للمحيط، وانقرض الأخر الذى لم يستطع ذلك.
نظرية التطور فى الوجهة المنطقية
وهنا ينشأ هذا السؤال: ما هو نصيب نظرية التطور العامة من الإثبات المنطقي إذا لم نبحث الآن فى العوامل التى لعبت دورا مهما فى هذه العملية؟ وقبل الإجابة على هذا السؤال يجب ان نعترف أن هذه النظرية لا يمكن إثباتها تجريبيا كنظرية الجذب، ولا نستطيع البرهنة عليها كي نبرهن على صحة نظرية حفظ الطاقة Conservation of Energy فهي تتناول الماضي السحيق، ويمكن وضعها من الوجهة المنطقية فى صعيد واحد مع الفرضية السديمية
(Nebular Hypothesis) التى تخبرنا عن تكوين الشمس وسياراتها. لا يستطيع أحد أن يعكس الشريط الكوني ليرينا عن كثب الحوادث التى جرت فى سالف العصور، ومع ذلك يجب ان نتذكر ان فى السماء سدماً تسلك نفس السبيل الذى يظن الفلكيون أن السديم العظيم سلكه فى العصور القديمة فولد نظامنا الشمسي الحاضر. وهكذا نعثر فى التطور العضوي على عمليات جارية تمثل ما حدث فى القديم كنشوء الطيور فى أرومة الزحافات، أو نشوء البرمائيات فى الأسماك
كيف نشأ عالم الحياة
أن الجواب العلمي الوحيد لهذا السؤال يستمد عناصره من التطور الذى يقرر اساليب التغيير والتطوير. نشأت جميع افراد المملكة الحيوانية بطريقة مماثلة لنشوء أنسال الحمام الداجن المعروفة من حمام الصخور (Rock - dove) الذى لا يزال يعشش على الجروف حول بريطاني العظمى، وكذلك نشأت افراد المملكة النباتية بطريقة مشابهة لنشوء كرنب الحدائق والقرنبيط والخضراوات من الكرنب الوحشي النابت فى السواحل البحرية. وهكذا تتضمن فكرة التطور العضوي العامة نوعا من البرهان يستند على المقابلة والمشابهة. إذن فتلك الحالات القليلة التى يعلمها الإنسان عن نشوء حيواناته ونباتاته الداجنة تنير له طرائق العلم بحدوث النشوءات العظيمة خلال العصور السحيقة فى القدم .
لذلك لا نرى مسوغا لما يطلب من الأدلة على التطور ما دام يمكن اتخاذ كل حقيقة من حقائق علوم التشريح والفسلجة والمتحجرات والأجنة دليلاً قويا على التطور إذا ألممنا بشيء كاف منها. وكل ما فى الأمر أنه يجب أن نفتش عن حجة تمهد لنا سبيل الاهتداء إلى كيفية استعمال حقيقة التطور لفهم جميع المغلقات والألغاز التى نجابهها فى درس البيولوجيا.
أثر الإنسان فى التطور
كان لدارون ولع شديد بدرس مساعي الإنسان لتدجين الحيوانات والنباتات وتربيتها على السواء، وغير خاف علينا ما وصلت اليه
جهود الإنسان فى الحصول على ضروب متعددة من الحمام الداجن وذلك مهد لدارون أن يضع فكرته على النمط الأتي: لما كان فى وسع الإنسان أن ينشئ فى زمن قصير أنسالاً عديدة قويمة التهذيب فلماذا لا يعقل أن الطبيعة قامت بذلك العمل نفسه فى زمن طويل جداً؟ وكيف يقوم الإنسان بتلك العملية؟ لاشك أنه ينتقي الأنواع التى تروقه أو تلائم حاجاته ويدعها تتزاوج مع بعضها على قدر الإمكان ويستأصل من النسل الجديد الأفراد التى لا يرغب فيها ومن ثم يقوم بتهذيب وتربية الأفراد التى يريد الاحتفاظ بها، فعمليته تقوم على أمرين مهمين: الاستئصال والتوليد. فيستأصل الرديء ويولد الجيد. وبسعيه المتواصل فى (عملية الانتخاب الصناعي) هذه وصل الإنسان إلى نتائج مدهشة، فكان له ضروب عديدة من الخيول والمواشي والكلاب والحمام والدجاج الخ، وضروب كثيرة من النباتات كالحنطة واللفت والبطاطا والورد والبانسيه الخ... ومن السهل أن تذهب إلى المعارض الزراعية لتحصل على أمثلة واضحة من التطور لا تزال تعمل بقوة
لاشك أن هناك أمثلة عديدة أكثر تعقيداً من نشوء الحمام لأنه يصعب علينا عندئذ تحديد الأسلاف الوحشية كمعرفة أصل الكلاب مثلا. ولكن ذلك لا يقلل شيئا من قوة الحجة القائلة إذا تمكن الإنسان من إيجاد ضروب عديدة من الحيوان والنبات فى وقت قصير فكيف لا تستطيع الطبيعة ذلك فى وقت طويل جدا ً؟... والآن يجب إلا نغفل عن أمرين مهمين: أولهما أن الإنسان لا يبتدع الضروب الجديدة بل ينتظر ظهورها، وثانيهما أن القوى المؤثرة فى الطبيعة التى تماثل عمل الإنسان فى الاستئصال والتهذيب هى التناحر على البقاء ونزوع المخلوق إلى الحياة.
مصدر القوة
عندما يمضي العالم الطبيعي فى تمحيص انواع مختلفة من الحيوانات القريبة من بعضها حسب الظاهر يجد تغايرات مدهشة جداً، وسرعان ما يلاحظ أن بعض العضويات وحتى بعض الأعضاء هى أكثر عرضة للتغاير من البعض الأخر. وتدلنا جميع الحقائق المستقرأة بالمشاهدة على أن قابلية التغيير هى من أميز صفات الكائنات الحية. والواقع إننا لا نستطيع ان نجد طائرين يتشابهان تشابها تاما بحيث يعسر علينا تفريق أحدهما عن الأخر. فالأخوان يختلفان عن بعضهما بالرغم من تولدهما من أرومة واحدة. ويذكر لنا البروفسور لوتسي (Prof. Lotsy) انه رأى فى متحف (ليدن) (Leiden) نحوا من
٢٠٠ ضرب من طيور الباز لا يوجد بين اثنين منها تشابه تام وكذلك نعرف عن بعض المرجان المركب أن بنية الأفراد فيها تختلف باختلاف الأغصان فى المستعمرة الواحدة. على أن مصدر التغيير كائن فى الماكينة العضوية دفين بين تضاعيفها. ويجب على الباحث ان يميز الفروق الخارجية التى يمكن إرجاعها إلى خصائص المحيط أو الغذاء عن الفروق الداخلية أو الموروثة التى يظهر انها تتقدم من الباطن، ويطلق على الأخيرة فقط تعبير (التغايرات) (Variations) أو (التغيرات الفجائية) (Mutations) إذا نشأت بصورة فجائية.
ارتقاء الحياة
من المحتمل أن كائنات حية كانت تعيش على اليابسة وفى المياه إلى مدة تزيد على المائة مليون سنة، ولكنها لم ترتق فى ذلك الوقت كثيرا لأسباب ترجع أولاً إلى المحيط. إن تقدم الحياة مشهد بليغ وصفه الفيلسوف لوتز (Lotze) - وهو احد علماء الحياة ايضا - بقوله (انه كالنغمة المطربة التى يعلو صوتها كلما تقدمت واقتربت من السامع).
لم توجد خلال عصور عديدة حيوانات عظمية أو فقرية بل أن جميع الحيوانات التى كانت عائشة آنئذ كانت رخوة لا عظمية أو لا فقرية. ولكن الأسماك كانت موجودة فى البحار السيليورية (Silurian) ومرت عصور عديدة ظهرت خلال أحدهما وهو العصر الرملي الأحمر القديم (Sandstone Period Old Red) البرمائيات بعد أن اجتازت خطوات من التطور عظيمة كاكتساب الأصابع والرئتين الحقيقيتين والأوتار الصوتية واللسان المتحرك والقلب الثلاثي المخادع الخ. . كان هذا التقدم واضحا ولو ان هذه الحيوانات ظلت ضفدعية الخواص حتى عندما وصلت عصرها الذهبي فى العصر الفحمي Carboniferous Period.
وبعد مضي عصور أخذت الزواحف الملونة تظهر فى العصر البرمي (Permian Period) والتي نرى فيها التغاير والتنوع والتقدم بمقاييس كبيرة. فبعضها كانت بحرية وبعضها برية وبعضها هوائية والبعض الأخر يعيش بين الأشجار. وكان بعضها عظميا هائلا والبعض الأخر صغيرا دقيقاً. وهكذا حصلت تنوعات كثيرة بين الزحافات القديمة. على انها جميعا لم تكن قد وصلت إلى درجة تامة فى النمو العقلي بل كان فيها استعداد عظيم لذلك. ويظهر ان كثيرا منها
(البقية على صفحة ٣٩)
( بقية المنشور على صفحة ٢٨)
اصبح فى منتهى الاختصاص (over - specialised) كالتنين الطائر أو البتيرودكتل (Flying dragon on Pterodactyl) لأنها انقرضت بدون أن ترقى أكثر من ذلك. ان بعض الزحافات القديمة لا تزال متمثلة بالتماسيح والضبياب وفصائل اخرى موجودة فى الوقت الحاضر، ولكن البعض الآخر أصبحت أنسالاً منقرضة وأفضت غيرها إلى نشوء الطيور واللبائن وهما الصنفان اللذان نستطيع إرجاعهما إلى الأجداد الداينوسورية (Dinosaurian) ولكن الحقيقة التى نعتقدها هى أنه فى خلال العصور ظهرت صنوف تدرجت فى سلم الارتقاء حتى وصلت إلى الإنسان وهو أرقى الحيوانات فى الوقت الحاضر. يضاف إلى هذه الحقيقة العظيمة جميع السلالات النسبية (Pedigrus) المحفوظة بين الصخور - كسلالات الخيول والفيلة والجمال والتماسيح. ومن ينقب يقرأ سجلات التطور بين ثنايا الصخور.
