الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد الثانيالرجوع إلى "الرسالة"

حلقات الأدب فى الفسطاط

Share

لبثت الفسطاط عاصمة الاسلام فى مصر منذ قيامها سنة 21 هـ  (641م) حتى سنة 358هـ (969م). وفى ذلك العام كان الفتح الفاطمى، وكان قيام القاهرة المعزية التي وضعت خططها الأول فى شعبان سنة 358، ونشأت القاهرة بادئ بدء مدينة ملكية فقط  لتكون قاعدة للدولة الجديدة ومنزلا للخلافة الفاطمية، ونشأ  جامعها الأزهر الذى أسس بعد قيامها بأشهر قلائل (جمادي الأولى  سنة 359هـ) مسجدا للإمامة الجديدة فقط. ومضى زهاء نصف قرن  قبل أن تبدو العاصمة الجديدة فى شيء مما تميزت به بعد ذلك بين  الأمصار الاسلامية من عظمة وروعة وبهاء، وقبل أن يبدأ الجامع  الأزهر تاريخه الأدبى الباهر. ولكن ظلت الفسطاط بعد ذلك عصورا   تحتفظ بمكانتها الأدبية، ولبثت حلقاتها ولياليها الأدبية شهيرة بين  أدباء المشرق والمغرب. وبدأ الجامع الأزهر ينافس المسجد الجامع فى  حلقاته ومجالسه الأدبية منذ عهد الخليفة العزيز بالله، اذ استأذن  وزيره الشهير يعقوب بن كلس سنة 378 هـ أن ينظم بالأزهر على  نفقته بعض مجالس القراءة والفقه. وفى خاتمة القرن الرابع، فى عهد  الحاكم بأمر الله، أنشئت دار الحكمة بالقاهرة ونظمت مجالسها،  فكانت مثوى للمجالس العلمية الكلامية والفلسفية.

ولسنا نتحدث عن القاهرة ومكانتها العلمية والأدبية بين  الأمصار الاسلامية فى العصور الوسطى، ولا عن أزهرها الذى غدا  فيما بعد أعظم جامعة اسلامية، كذلك لسنا نتحدث عن دار الحكمة  ومجالسها الشهيرة التى كانت تتخذها الخلافة الفاطمية أداة لتحقيق  دعوات دينية فلسفية غامضة، فذلك ليس موضوعنا. وانما  نتتبع تاريخ الفسطاط الأدبى، بعد قيام القاهرة، منافستها  العظيمة الفتية.

فقدت الفسطاط أهميتها السياسية والرسمية، ولكنها احتفظت  عصورا أخرى بأهميتها الاجتماعية والادبية وفى فترات كثيرة كانت

تتفوق على القاهرة بطابعها الأدبى. وهذا ما يشيد به بعض أدباء  المشرق والأندلس الوافدين على مصر فى عصور مختلفة. ومن هؤلاء  أمية بن عبد العزيز بن أبى الصلت الأندلسى الذى وفد على مصر فى  أوائل القرن السادس الهجرى (2) فى عهد الأفضل شاهنشاه. ودرس  الحركة الفكرية والأدبية فى مصر يومئذ كتب عنها رسالة لم يصلنا سوى  شذور قليلة منها. وفي هذه الشذور(3)  يتحدث أبن أبى الصلت عن بعض أدباء  مصر وعلمائها، ومجالسهم واجتماعاتهم بما يدل على أن الفسطاط كانت  ما تزال مركزا هاما للحركة العلمية والأدبية. ووفد ابن سعيد الأندلسى الى  مصر بعد ذلك بنحو قرن، نحو سنة 637هـ (1240م)، ولبث بها  أعواما طويلة يدرس شئونها وأحوالها، فاذا بالفسطاط ما تزال تحتفظ  بأهميتها الأدبية، واذا بها ما تزال مثوى للأدباء ومركزا لأبهاء الأدب،  واذا لياليها الأدبية ما تزال شهيرة. ويفرد أبن سعيد فى كتابه  "المغرب فى حلى المغرب" فصلا كبيرا للفسطاط عنوانه: "كتاب  الاغتباط في حلى الفسطاط" (4) يتحدث فيه عن المدينة، وزياراته لها  واجتماعاته بأدبائها، ولا سيما شاعرها الكبير جمال الدين أبى الحسن  الجزار، أشهر شعراء مصر فى هذا العصر، وما لقيه من كرم وفادته  وشهده من رائع أدبه، وقد كان الشاعر الكبير يومئذ، على ما يظهر  شابا فى عنفوان شاعريته لأنه توفى بعد ذلك بنحو أربعين سنة فى  (679ه 128) (5) وهو صاحب الأرجوزة التاريخية الشهيرة المسماة  "بالعقود الدرية فى الأمراء المصرية" وفيها يستعرض ذكر أمراء  مصر وملوكها منذ عمرو بن العاص إلى الملك الظاهر بيبرس (6)، وكانت

الفسطاط قد عادت يومئذ فاستردت كثيرا من بهائها السالف،  وأهميتها الاجتماعية القديمة بسبب قيام المدينة الملكية الجديدة التى  أنشأها الملك الصالح فى جزيرة الروضة المقابلة للفسطاط (638هـ)  واتخاذها قاعدة للسلطة، وانتقال البلاط والحاشية اليها، وسكن كثير  من الأمراء والكبراء بالفسطاط فى الضفة المقابلة لنهر النيل، وهو ما يشير اليه  ابن سعيد فى قوله، (وقد نفخ روح الاعتناء والنمو فى مدينة  الفسطاط الآن لمجاورتها للجزيرة الصالحية (جزيرة الروضة)، وكثير  من الجند قد أنتقل إليها للقرب من الخدمة، وبنى على سورها جماعة  منهم مناظر تبهج الناظر"

ويشير ابن سعيد فى كتابه السالف الذكر الى ليالي الفسطاط -  واجتماعاتها الشائعة فى الليالي القمرية وأشهرها ما كان يعقد فى القرافة  مما يلى المقطم فى قبة الإمام الشافعي التى كانت قد أنشئت على قبره. وكان  المسجد الجامع قد عفت أهميته شيئا فشيئا مذ قام منافسه القوي،  الجامع الأزهر وغيره من المساجد والمدارس الجامعة بمدينة القاهرة،  ولكننا نراه ما يزال حتى القرن السابع مثوى للأدب واجتماعاته،  وبرغم عفائه وقدمه ونسيان أمره، كانت تعقد فى عرصاته حلقات  للقراءة والدرس، وهو ما يشير اليه ابن سعيد أيضا خلال وصفه  للمسجد الجامع فى منتصف القرن السابع، بيد أن هذه الحلقات لم تكن من  الأهمية والرونق والانتظام مثلما كانت عليه فى القرون الأولى يوم كان  المسجد الجامع مجتمع الأمراء وأقطاب التفكير والأدب. وكانت  يومئذ أقرب الى الصبغة المدرسية. ومع ذلك فقد بقي للمسجد الجامع  حتى ذلك العصر  - كثير من ذكرياته الأدبية المجيدة - وهى كعبة  الأدباء والشعراء. يجتمعون فيه كلما سنحت فرص الاجتماع لعقد  الأسمار والمطارحات الأدبية. واليك نموذجا لهذه الاجتماعات الشهيرة  أورده ابن فضل العمرى فى موسوعته الكبيرة "مسالك الأبصار  فى ممالك الأمصار" فى حديثه عن المسجد الجامع.

"حكي على بن ظافر الأزدى. قال: روى لي أن الأعز أبا الفتوح  ابن قلاقس وابن المنجم اجتمعا فى منار الجامع فى ليلة فطر ظهر بها  الهلال للعيون. وبرز فى صفحة بحر النيل كالنون. ومعهما جماعة من  غواة الأدب الذين ينسلون اليه من كل حدب. فحين رأوا الشمس  فوق الليل غاربة. والي مستقرها جارية ذاهبة. وقد شمرت للمغرب  الذيل. واصفرت خوفا من هجمة الليل. والهلال فى حمرة الشفق.  كحاجب الشائب أو زورق الورق. فاقترحوا عليهما أن يصنعا فى ذلك  الوقت الزيه. على البديه. فصنع ابن قلاقس:

انظر الى الشمس فوق النيل غاربة  وانظر لما بعدها من حمرة الشفق غابت وأبقت شعاعا منه يخلفها  كأنما احترقت بالماء فى الغرق وللهلال، فهل وافى لينقذها  فى إثرها زورق قد صيغ من ورق؟

وصنع ابن المنجم: يا رب سامية فى الجو فمت بها  أمد طرفى فى أرض من الأفق حيث العشية فى التمثيل معركة  اذا رآها جبان مات للفرق شمس نهارية للغرب زاهية  بالنيل مصفرة من هجمة الغسق وللهلال انعطاف كالسنان بدا  من سورة الطعن ملقى فى دم الشفق

"وحكي على بن ظافر أيضا، قال: أخبرنى ابن المنجم الصواف  بما معناه: قال، صعدت الى سطح الجامع بمصر فى آخر رمضان مع  جماعة فصادفت به الأديب الأعز أبا الفتوح بن قلاقس ونشو الملك  علي بن مفرج بن المنجم وشجاعا المغربي فى جماعة من الأدباء. فانضمت  إليهم. فلما غابت الشمس وفاتت، اقترح الجماعة على ابن قلاقس  وابن المنجم أن يعملا فى صفة الحال. فكان ما صنعه نشو الملك:

وعشى كأنما الأفق فيه  لازورد مرصع بنضار قلت لما دنت لمغربها الشم  س ولاح الهلال للنظار أقرض الشرق صنوه الغرب دين  ارا فأعطى الرهين نصف سوار وكان الذى صنعه ابن قلاقس:

لا تظن الظلام قد أخذ الشم  س وأعطى النهار هذا الهلالا إنما الشرق اقرض الغرب دي  نارا فأعطاه رهنه خلخالا(1)

ونحن نعرف أن الشاعر المصرى الاسكندرى الأشهر ابن قلاقس  كان من شعراء النصف الأخير من القرن السادس الهجرى (532  - 607 هـ) وكذلك ابن المنجم من شعراء هذا العصر. واذن فقد  كان المسجد الجامع، حتى أوائل القرن السابع منتدى لأكابر الأدباء  والشعراء، وكانت الفسطاط لا تزال شهيرة بلياليها وحلقاتها الأدبية،  حتى بعد ذلك بنحو نصف قرن على نحو ما يشير اليه ابن سعيد الأندلسى.

ومنذ أواخر القرن السابع الهجرى نرى الفسطاط تفقد أهميتها  الاجتماعية والأدبية شيئا فشيئا ونرى المسجد الجامع وقد غمره  النسيان والعفاء. وقلما نظفر فى سير القرن الثامن بما ينبئ عن مكانة  الفسطاط أو أهميتها الاجتماعية أو الأدبية. بل نرى الفسطاط فى هذا  العصر تنتهى الى ضاحية متواضعة لمدينة القاهرة. ونرى القاهرة تغمر  بعظمتها وبهائها وأهميتها العلمية والأدبية عاصمة الإسلام الأولى فى مصر.  ونراها مثوى كل حركة فكرية أو أدبية. ونرى الجامع الأزهر كعبة  العلماء والأدباء لا فى مصر وحدها بل فى العالم الإسلامي كله، على أن  مؤرخ الآداب فى مصر الاسلامية لا يسعه - حين يعالج تاريخ الآداب  فى عصور الاسلام الأولى - إلا أن يلاحظ أهمية الدور الكبير الذى  أدته الفسطاط وحلقاتها ولياليها الأدبية، وأداه مسجدها الجامع فى  تطور الحركة الفكرية والأدبية فى مصر.

اشترك في نشرتنا البريدية