الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد الأولالرجوع إلى "الرسالة"

حلقات الادب، فى الفسطاط

Share

كانت مدينة الفسطاط منذ القرن الثاني للهجرة مركزا للتفكير  والآداب، يحج اليه كثير من أعلام المشرق. وكانت مصر قد  أخذت تتبوأ مكانتها الفكرية والأدبية بين الأمم الاسلامية، منذ  استقرت شئونها السياسية فى عهد الدولة العباسية. ولم تكن مصر منذ  افتتحها الاسلام أكثر من ولاية تابعة للخلافة. ولكنها كانت  بين ولايات الخلافة أشدها احتفاظا بشخصيتها وألوانها القومية؛  وكانت منذ البداية تأخذ نصيبها فى بناء صرح التفكير الاسلامى؛  ولكنها كانت تشق في هذا الميدان طريقها الخاص. وكانت منذ  الفتح مركزا هاما للسنة والرواية، يحتشد فيها جماعة كبيرة من  الصحابة الذين اشتركوا فى الفتح والتابعين الذين عاصروهم. وفى  القرن الأول أيضا وضعت بذور الحركة الأدبية فنمت وأزهرت  بسرعة، حتى أنه يمكن القول أن مصر كانت منذ القرن الثالث قد  كونت أدبها العربى الخاص. ولم يأت القرن الرابع حتى كان هذا  الأدب يتميز بخواصه المصرية القوية مما عداه من تراث التفكير  العربى فى المشرق والأندلس.

وكانت الفسطاط عاصمة الاسلام فى مصر منذ قيامها عقب  الفتح سنة ٢١هـ (٦٤١م) حتى منتصف القرن الرابع. وقد  قامت بجوارها مدينتا العسكر والقطائع دهرا. ولكن العسكر  كانت مركزا للامارة والادارة فقط، وكانت القطائع وهى مدينة  بنى طولون مدينة بلاط فقط، أما الفسطاط فكانت قلب الاسلام  النابض فى مصر، ومهد التفكير والآداب فى تلك العصور. وحتى  بعد أن قامت القاهرة المعزية سنة ٣٥٨هـ (٩٦٩م) لم تفقد  الفسطاط أهميتها الفكرية والأدبية، بل لبثت بعد ذلك عصورا  تشتهر بحلقاتها ولياليها الأدبية. وكانت هذه الحلقات والليالى الأدبية  من محاسن الفسطاط، يشيد بأهميتها وجمالها أدباء المشرق والمغرب  الوافدين على مصر. وكانت فى الواقع نوعا من الأبهاء الأدبية

salona يجتمع فيها الأدباء والشعراء، للقراءة والسمر والجدل  والمساجلة، وكانت مهاد اللقاء والتعارف بين الأدباء المحليين  والنزلاء الوافدين من عواصم الاسلام الأخرى. وقد بدأت هذه  الحلقات الأدبية فى الفسطاط منذ القرن الأول. ولكنها كانت فى  بدايتها فقهية دينية، وكانت لها أهميتها فى تمحيص السنة والرواية.  وكانت تجمع بين جماعة من أقطاب الفقهاء والحفاظ والمحدثين الذين  يعتبرون فى الطبقة الأولى بين فقهاء الاسلام ورواة السنة، مثل  يزيد بن حبيب، والليث بن سعد، وعبد الله بن وهب، ثم الشافعى  وأصحابه. ثم اتخذت هذه الحلقات طابعا أدبيا، فكان يمزج فيها  بين الكلام والأدب، وكان معظم فقهاء هذا العصر أدباء أيضا  يأخذون من الأدب بحظ وافر، ولبعضهم فى الشعر والنثر براعة  خاصة. ونستطيع أن نذكر من هؤلاء الامام محمد بن ادريس  الشافعى قطب الشريعة وحجة التشريع، فقد كان أيضا أديبا مبرزا  له فى الشعر والنثر محاسن وروائع وكذلك آل عبد الحكم الذين  نذكرهم بعد؛ وأبو بكر الحداد قاضى مصر؛ والحسن بن زولاق  المؤرخ فقد كان هؤلاء جميعا من كبار الفقهاء والأدباء وكان الفقه  والحديث والادب تمتزج معا فى مجالسهم وأسمارهم. . ولعل أبهى  حقبة فى هذه الحلقات الشهيرة فى تاريخ الفسطاط مستهل القرن  الثالث الهجرى ففى ذلك الحين كان الإمام الشافعى نزيل الفسطاط  وكان مدى الأعوام التى قضاها بمصر منذ قدومه إليها فى أواخر  سنة ١٩٨هـ (٨١٣م) حتى وفاته فى رجب سنة ٢٠٤هـ (٨١٩م)  قطب الحركة الفكرية فيها وكعبة الصفوة من فقهائها وأدبائها يجذبهم  اليه غزير علمه ورفيع أدبه، وبارع خلاله. وكانت حلقات الفسطاط  الأدبية شهيرة قبل مقدمه لكنه اسبغ عليها بهاء وسحرا وروعة وكان أبو تمام الطائى الشاعر الأكبر اذا صحت الرواية عن مقدمه  الى مصر صبيا واشتغاله بسقى الماء فى المسجد الجامع يغشى هذه  المجالس الأدبية فى حداثته وفيها تفتحت مواهبه الأدبية والشعرية  والظاهر أنه كان طبقا لهذه الرواية يقيم فى الفسطاط فى خاتمة  القرن الثانى أو فاتحة القرن الثالث أعنى فى نحو الوقت الذى كان  فيه الشافعى نزيلها. وكان أشهر هذه الحلقات أو الأبهاء حلقة  بنى عبد الحكم، وهم أسرة مصرية نابهة كثيرة المال والوجاهة؛

أنجبت عدة من كبار الفقهاء منهم عميد الأسرة عبد الله بن عبد الحكم  المصرى، وهو من أقطاب الفقه المالكى وأولاده محمد وسعد ابنا  عبد الحكم وكلاهما فقيه ومحدث كبير وعبد الرحمن بن عبد الحكم  أقدم مؤرخ لمصر الاسلامية. وقد كان بنو عبد الحكم منذ  القرن الثانى أعلام الفقه والتفكير والأدب فى مدينة الفسطاط  وكانت دارهم كعبة العلماء والأدباء ومنتدى للدراسات والأسمار  الأدبية الرفيعة، وكانت حلقاتهم العلمية والأدبية تجذب أكابر العلماء  الوافدين على مصر من مختلف أنحاء العالم الاسلامى، فلما قدم الامام  الشافعى الى مصر كان بنو عبد الحكم أول من استقبله وأكرم  وفادته؛ وأمدته الأسرة النابهة بالمال ونظمت له سبل الاقامة  والدرس؛ وكانت أول من انتفع بعلمه وأدبه. وبث مقدم الشافعى  فى آداب الفسطاط روحا جديدة واشتهرت مجالسه وحلقاته الفقهية  والأدبية. وكانت حقبة علمية أدبية زاهرة (١٩٨ - ٢٠٤هـ)

وكانت حلقات المسجد الجامع ال جانب الحلقات الخاصة، أشهر المجتمعات العلمية والأدبية العامة وكان المسجد الجامع أو  جامع عمرو منذ إنشائه سنة 21هـ (641م) قلب الفسطاط  الفكرى وكانت تعقد فيه مجالس القضاء الأعلى كما كانت تعقد مجالس  الفقه والأدب الخاصة. وصحن المسجد الجامع شهير فى تاريخ  الفسطاط الأدبى وقد كان مدى قرون ندوة فكرية أدبية جامعة  وكانت بين جدرانه توجه حركة التفكير والآداب فى مصر  الاسلامية. ويبدو مما كتبه مؤرخو الفسطاط فى هذا العصر أن  هذه الحلقات دورية وكانت منظمة برغم صفتها الخاصة.  وأنها كانت تعقد كل يوم تقريبا فى المسجد الجامع. ولكن الظاهر  أن أهمها ما كان يعقد يوم الجمعة؛ وأن مجالس الجمعة كانت  تعتبر كموسم أسبوعى يغص المسجد فيه بجمهرة الفقهاء والأدباء  والقراء والنظارة. وفيها كانت البحوث الكلامية، والمناظرات  الأدبية، والمطارحات الشعرية والرواية التاريخية تنظم فى حلقات  فرعية أو متعاقبة2.

وكانت هذه الحلقات الأدبية الشهيرة تتأثر بتطور السياسة والأهواء السياسية والدينية ، اذ كانت موئل التفكير والدعوة الى

مختلف المذاهب الفقهية والأدبية. ففى سنة ٢٢٦هـ مثلاً أمر محمد  أبن أبى الليث قاضى قضاة مصر تنفيذا لرغبة الخليفة الواثق بالله،  بالقبض على جميع الفقهاء والمحدثين والأدباء باسم الامتحان فى  مسألة خلق القرآن وهى المعروفة بالمحنة فملئت السجون بالمنكرين  لخلقه من العلماء والأدباء، وأغلق المسجد الجامع فى وجه المالكية  والشافعية، وفضت حلقاتهم العلمية والأدبية، ومنعوا من زيارة  المسجد، ومن بث آرائهم ونظرياتهم وأخذ بنو الحكم فوق  أخذهم بالمحنة بتهمة أخرى، هى تبديد أموال طائلة ائتمنوا عليها  من على بن عبد العزيز الجروى، وهو زعيم خارج تغلب حينا  على بعض نواحى مصر ثم أخمدت ثورته، واتهم بالخيانة، وقضى  بمصادرة أمواله، فاتهم باخفائها بنو عبد الحكم، وقبض عليهم  وعذبوا واستصفيت أموالهم أداء لما قضى به وتوفى بعضهم فى  السجن (سنة ٢٣٧هـ) ثم أفرج عنهم بعد ذلك، ولكن هذه  المحنة ذهبت بوجاهة الأسرة النابهة وجاهها وهيبتها فاضمحل  نفوذ هذه الفكرة وتضاءلت أهمية هذه الحلقات الأدبية الباهرة التى  اشتهرت بتنظيمها وعقدها زهاء نصف قرن. وفى نفس هذا العام  أمر الحارث بن مسكين قاضى القضاة بمطاردة الفقهاء الحنفية  والشافعية واخراجهم من المسجد الجامع وقطع أرزاقهم وحظر  اجتماعاتهم2

وهكذا شتت شمل المجتمع الفكرى فى الفسطاط حينا وانزوت  حلقاتها الأدبية الزاهرة حتى منتصف القرن الثالث ولكنها عادت  فانتظمت وازدهرت واستعاد المسجد هدوءه وسكينته وردت  حرية الاجتماع والدرس. وجاءت الدولة الطولونية (254- ٢٩٢هـ) (٨٦٨ - ٩٠٥م) فأزهرت فى ظلها الآداب والفنون  وكان أحمد بن طولون أميرا مستنيرا يحب العلوم والآداب ويرعاها  بتعضيده وحمايته، ويجل مجالس العلم وحلقات الأدب. وكانت  الفسطاط ومسجدها الجامع أيضا مثوى الحلقات والمجالس العلمية  والأدبية فى هذا العصر؛ لأن مدينة القطائع التى شيدها ابن طولون  لم تكن كما قدمنا سوى مدينة بلاط وبطانة. ونبغ فى هذه الحقبة  القصيرة عدد كبير من الأدباء والشعراء وبكت دولة الشعر دولة  بنى طولون عند ذهابها أيما بكاء فقال شاعرها سعيد القاص من  قصيدة طويلة رائعة: -

طوى زينة الدنيا ومصباح أهلها  بفقد بنى طولون والانجم الزهر وفقد بني طولون في كل موطن  أمر على الاسلام فقدا من القطر تذكرتهم لما مضوا فتتابعوا كما ارفض سلك من جمان ومن شذر فمن يبك شيئا ضاع من بعد أهله  لفقدهم فليبك حزنا على مصر لبيك بنى طولون إذ بان عصرهم  فبورك من دهر وبورك من عصر

وفى أوائل القرن الرابع كانت الفسطاط تضم جماعة كبيرة من أقطاب المفكرين والأدباء وكانت ابهاؤها ومجالسها الأدبية حافلة زاهرة. ففى تلك الفكرة اجتمع من زعماء التفكير والأدب أبو القاسم بن قديد زتلميذه أبو عمر الكندى مؤرخ الولاة والقضاة، وأبو جعفر النحاس المصرى الكاتب والشاعر، وأبو بكر الحداد قاضى مصر، وأبو القاسم بن طباطبا الحسينى الشاعر، وأبو بكر بن محمد بن مرسى الملقب بيسبويه المصرى، والحسن بن زولاق المؤرخ الأشهر وكثيرون غيرهم: فكان لاجتماع هذه الصفوة العلمية والأدبية البارزة فى هذه الفترة أثر كبير فى ازدهار الحركة الفكرية بمصر فى أوائل القرن الرابع. فكانت حلقات الادب فى أوج نشاطها وكان المسجد الجامع منذ جامعة حقة يموج بهذه الاجتماعات العلمية والأدبية الشهيرة. وكانت دولة التفكير والأدب فى بغداد قد أخذت فى الضعف والاضمحلال وأخذت مصر تتأهب للقيام بدورها فى رعاية التفكير الاسلامى فى المشرق وكان بنو الاخشيد، محمد بن طغج وولداه انوجورو على ثم وزيرهم الخصى النابه كافور , مدى دولتهم التى استمرت- زهاء ثلث قرن ( سنة ٣٥٨-٣٣٤ ه )(٩٦٩-٩٥ م ) حماة للعلوم والأدب. وقد انتهى الينا من آثار الحسن بن زولاق المؤرخ، اثر هام يلقى ضياء على تاريخ الحركة الأدبية المصرية فى هذا العصر وهو كتاب "أخبار سيبويه المصرى" وهو أبو بكر بن موسى الذى سبقت الاشارة اليه وقد كان صديقا لابن زولاق وزميلا له فى الفرس على ابن الحداد وكانت له أخبار وملح ونوادر أدبية

طريفة عنى ابن زولاق يجمعِها في هذا الكتاب. وفى دار الكتب  نسخة خطية وحيدة من هذا الأثر لا ريب أنها من أقدم المخطوطات  العربية التى وصلت الينا بل لقد انتهينا فى تحقيق شأنها الى انها أقدم  مخطوط أدبى مصرى وصل إلينا وأنها من آثار عصر الفسطاط  ذاته وبخط ابن زولاق نفسه1.

وفى اثر ابن زولاق هذا اشارات كثيرة الى حلقات الفسطاط  الأدبية فى عصره فى النصف الأول من القرن الرابع الهجرى. ويبدو من سياق كلامه ان المسجد كان مثوى لأهم هذه  الحلقات وأشهرها وأنها كانت كما قدمنا دورية منتظمة تعقد على  الأغلب فى عصر يوم الجمعة وتجتمع بين الفقهاء والأدباء وينعقد  فيها الجدل الكلامى والحوار الأدبى والشهرى. والظاهر أيضا أن  هذا الجدل أو الحوار كان ينتهى أحيانا إلى بعض ما ينتهى اليه  فى عصرنا من مرارة واتهام وتراشق وأن بعض المفكرين الأحرار  كانوا ينقمون من عصرهم ما ننقم من عصرنا أحيانا من اعتداء على  حرية الرأى والبحث وأن بعضهم كان يرمى بتهم المروق والالحاد  اذا أطلق لنفسه حرية البحث والرأى على نحو ما يشير اليه سيبويه  المصرى فى قوله من قصيدة أوردها ابن زولاق

أما سبيل اطراح العلم فهو على  ذى اللب أعظم من ضرب على الرأس فان سلكت سبيل العلم تطلبه  بالبحث أبت بتفكير من الناس  وان طلبت بلا بحث ولا نظر  لم تضح منه على ايقان ايناس وأنبذ مقالة من ينهاك عن نظر  نبذ الطبيب بذل القرحة الآسى2

وهذه ظاهرة فكرية خطيرة يسجلها الشاعر المصرى على عصره  أعنى أوائل القرن الرابع (حول سنة ٣٢٠ - ٣٤٠هـ) وهى تدل على أن الجدل العلمى والأدبى كان يرتفع يومئذ الى مرتبة  الايمان والعقيدة وينحدر أحيانا أخرى الى درك التراشق  والمهاترة. كذلك هنالك في قول الشاعر ما يدل على أن بعض

المفكرين والأدباء كانوا يؤثرون الصمت على الجهر بآرائهم خيفة الاتهام والوقيعة.

وقد كانت حلقات المسجد الجامع بلا ريب أهم الحلقات  الأدبية العامة ولكن هناك فى أقوال ابن زولاق ما يدل على أنها  كانت تعقد أيضا فى المساجد الأخرى. فمثلا كان الشاعر  الأكبر أبو الطيب المتنبى الذى وفد على مصر سنة ٣٤٦هـ (٩٥٧م)  ليستظل بحماية الأخشيد يجلس فى مجلس يعرف بمسجد ابن  عمروس وهناك يجتمع اليه الأدباء والشعراء؛ وكانت حلقة المتنبى  بلا ريب من أهم مجالس الشعر والأدب والفلسفة فى هذا العصر1  هذا وأما عن الحلقات والابهاء الخاصة فيشير ابن زولاق الى  المجالس العلمية والأدبية التى كان يعقدها محمد بن طغج (الاخشيد)  وولده أنوجور ثم مجالس الوزيرين ابن الفضل جعفر بن الفرات  والحسين بن محمد الماردانى. والظاهر أن هذه المجالس والحلقات  الأدبية كانت يومئذ من تقاليد الحياة الرفيعة وكانت نوعا من  الترف الذى يأخذ به الأمراء والعظماء والأسر الكبيرة فان لهم  جميعا على نحو ما بينا فى سير الأبهاء الأدبية فى تلك العصور أكبر  نصيب وذكر، ويرجع اليهم فى أقامتها ورعايتها أكبر الفضل. للبحث بقية

الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد الأولالرجوع إلى "الرسالة"

حلقات الادب، فى الفسطاط

Share

كانت مدينة الفسطاط منذ القرن الثاني للهجرة مركزا للتفكير  والآداب، يحج اليه كثير من أعلام المشرق. وكانت مصر قد  أخذت تتبوأ مكانتها الفكرية والأدبية بين الأمم الاسلامية، منذ  استقرت شئونها السياسية فى عهد الدولة العباسية. ولم تكن مصر منذ  افتتحها الاسلام أكثر من ولاية تابعة للخلافة. ولكنها كانت  بين ولايات الخلافة أشدها احتفاظا بشخصيتها وألوانها القومية؛  وكانت منذ البداية تأخذ نصيبها فى بناء صرح التفكير الاسلامى؛  ولكنها كانت تشق في هذا الميدان طريقها الخاص. وكانت منذ  الفتح مركزا هاما للسنة والرواية، يحتشد فيها جماعة كبيرة من  الصحابة الذين اشتركوا فى الفتح والتابعين الذين عاصروهم. وفى  القرن الأول أيضا وضعت بذور الحركة الأدبية فنمت وأزهرت  بسرعة، حتى أنه يمكن القول أن مصر كانت منذ القرن الثالث قد  كونت أدبها العربى الخاص. ولم يأت القرن الرابع حتى كان هذا  الأدب يتميز بخواصه المصرية القوية مما عداه من تراث التفكير  العربى فى المشرق والأندلس.

وكانت الفسطاط عاصمة الاسلام فى مصر منذ قيامها عقب  الفتح سنة ٢١هـ (٦٤١م) حتى منتصف القرن الرابع. وقد  قامت بجوارها مدينتا العسكر والقطائع دهرا. ولكن العسكر  كانت مركزا للامارة والادارة فقط، وكانت القطائع وهى مدينة  بنى طولون مدينة بلاط فقط، أما الفسطاط فكانت قلب الاسلام  النابض فى مصر، ومهد التفكير والآداب فى تلك العصور. وحتى  بعد أن قامت القاهرة المعزية سنة ٣٥٨هـ (٩٦٩م) لم تفقد  الفسطاط أهميتها الفكرية والأدبية، بل لبثت بعد ذلك عصورا  تشتهر بحلقاتها ولياليها الأدبية. وكانت هذه الحلقات والليالى الأدبية  من محاسن الفسطاط، يشيد بأهميتها وجمالها أدباء المشرق والمغرب  الوافدين على مصر. وكانت فى الواقع نوعا من الأبهاء الأدبية

salona يجتمع فيها الأدباء والشعراء، للقراءة والسمر والجدل  والمساجلة، وكانت مهاد اللقاء والتعارف بين الأدباء المحليين  والنزلاء الوافدين من عواصم الاسلام الأخرى. وقد بدأت هذه  الحلقات الأدبية فى الفسطاط منذ القرن الأول. ولكنها كانت فى  بدايتها فقهية دينية، وكانت لها أهميتها فى تمحيص السنة والرواية.  وكانت تجمع بين جماعة من أقطاب الفقهاء والحفاظ والمحدثين الذين  يعتبرون فى الطبقة الأولى بين فقهاء الاسلام ورواة السنة، مثل  يزيد بن حبيب، والليث بن سعد، وعبد الله بن وهب، ثم الشافعى  وأصحابه. ثم اتخذت هذه الحلقات طابعا أدبيا، فكان يمزج فيها  بين الكلام والأدب، وكان معظم فقهاء هذا العصر أدباء أيضا  يأخذون من الأدب بحظ وافر، ولبعضهم فى الشعر والنثر براعة  خاصة. ونستطيع أن نذكر من هؤلاء الامام محمد بن ادريس  الشافعى قطب الشريعة وحجة التشريع، فقد كان أيضا أديبا مبرزا  له فى الشعر والنثر محاسن وروائع وكذلك آل عبد الحكم الذين  نذكرهم بعد؛ وأبو بكر الحداد قاضى مصر؛ والحسن بن زولاق  المؤرخ فقد كان هؤلاء جميعا من كبار الفقهاء والأدباء وكان الفقه  والحديث والادب تمتزج معا فى مجالسهم وأسمارهم. . ولعل أبهى  حقبة فى هذه الحلقات الشهيرة فى تاريخ الفسطاط مستهل القرن  الثالث الهجرى ففى ذلك الحين كان الإمام الشافعى نزيل الفسطاط  وكان مدى الأعوام التى قضاها بمصر منذ قدومه إليها فى أواخر  سنة ١٩٨هـ (٨١٣م) حتى وفاته فى رجب سنة ٢٠٤هـ (٨١٩م)  قطب الحركة الفكرية فيها وكعبة الصفوة من فقهائها وأدبائها يجذبهم  اليه غزير علمه ورفيع أدبه، وبارع خلاله. وكانت حلقات الفسطاط  الأدبية شهيرة قبل مقدمه لكنه اسبغ عليها بهاء وسحرا وروعة وكان أبو تمام الطائى الشاعر الأكبر اذا صحت الرواية عن مقدمه  الى مصر صبيا واشتغاله بسقى الماء فى المسجد الجامع يغشى هذه  المجالس الأدبية فى حداثته وفيها تفتحت مواهبه الأدبية والشعرية  والظاهر أنه كان طبقا لهذه الرواية يقيم فى الفسطاط فى خاتمة  القرن الثانى أو فاتحة القرن الثالث أعنى فى نحو الوقت الذى كان  فيه الشافعى نزيلها. وكان أشهر هذه الحلقات أو الأبهاء حلقة  بنى عبد الحكم، وهم أسرة مصرية نابهة كثيرة المال والوجاهة؛

أنجبت عدة من كبار الفقهاء منهم عميد الأسرة عبد الله بن عبد الحكم  المصرى، وهو من أقطاب الفقه المالكى وأولاده محمد وسعد ابنا  عبد الحكم وكلاهما فقيه ومحدث كبير وعبد الرحمن بن عبد الحكم  أقدم مؤرخ لمصر الاسلامية. وقد كان بنو عبد الحكم منذ  القرن الثانى أعلام الفقه والتفكير والأدب فى مدينة الفسطاط  وكانت دارهم كعبة العلماء والأدباء ومنتدى للدراسات والأسمار  الأدبية الرفيعة، وكانت حلقاتهم العلمية والأدبية تجذب أكابر العلماء  الوافدين على مصر من مختلف أنحاء العالم الاسلامى، فلما قدم الامام  الشافعى الى مصر كان بنو عبد الحكم أول من استقبله وأكرم  وفادته؛ وأمدته الأسرة النابهة بالمال ونظمت له سبل الاقامة  والدرس؛ وكانت أول من انتفع بعلمه وأدبه. وبث مقدم الشافعى  فى آداب الفسطاط روحا جديدة واشتهرت مجالسه وحلقاته الفقهية  والأدبية. وكانت حقبة علمية أدبية زاهرة (١٩٨ - ٢٠٤هـ)

وكانت حلقات المسجد الجامع ال جانب الحلقات الخاصة، أشهر المجتمعات العلمية والأدبية العامة وكان المسجد الجامع أو  جامع عمرو منذ إنشائه سنة 21هـ (641م) قلب الفسطاط  الفكرى وكانت تعقد فيه مجالس القضاء الأعلى كما كانت تعقد مجالس  الفقه والأدب الخاصة. وصحن المسجد الجامع شهير فى تاريخ  الفسطاط الأدبى وقد كان مدى قرون ندوة فكرية أدبية جامعة  وكانت بين جدرانه توجه حركة التفكير والآداب فى مصر  الاسلامية. ويبدو مما كتبه مؤرخو الفسطاط فى هذا العصر أن  هذه الحلقات دورية وكانت منظمة برغم صفتها الخاصة.  وأنها كانت تعقد كل يوم تقريبا فى المسجد الجامع. ولكن الظاهر  أن أهمها ما كان يعقد يوم الجمعة؛ وأن مجالس الجمعة كانت  تعتبر كموسم أسبوعى يغص المسجد فيه بجمهرة الفقهاء والأدباء  والقراء والنظارة. وفيها كانت البحوث الكلامية، والمناظرات  الأدبية، والمطارحات الشعرية والرواية التاريخية تنظم فى حلقات  فرعية أو متعاقبة2.

وكانت هذه الحلقات الأدبية الشهيرة تتأثر بتطور السياسة والأهواء السياسية والدينية ، اذ كانت موئل التفكير والدعوة الى

مختلف المذاهب الفقهية والأدبية. ففى سنة ٢٢٦هـ مثلاً أمر محمد  أبن أبى الليث قاضى قضاة مصر تنفيذا لرغبة الخليفة الواثق بالله،  بالقبض على جميع الفقهاء والمحدثين والأدباء باسم الامتحان فى  مسألة خلق القرآن وهى المعروفة بالمحنة فملئت السجون بالمنكرين  لخلقه من العلماء والأدباء، وأغلق المسجد الجامع فى وجه المالكية  والشافعية، وفضت حلقاتهم العلمية والأدبية، ومنعوا من زيارة  المسجد، ومن بث آرائهم ونظرياتهم وأخذ بنو الحكم فوق  أخذهم بالمحنة بتهمة أخرى، هى تبديد أموال طائلة ائتمنوا عليها  من على بن عبد العزيز الجروى، وهو زعيم خارج تغلب حينا  على بعض نواحى مصر ثم أخمدت ثورته، واتهم بالخيانة، وقضى  بمصادرة أمواله، فاتهم باخفائها بنو عبد الحكم، وقبض عليهم  وعذبوا واستصفيت أموالهم أداء لما قضى به وتوفى بعضهم فى  السجن (سنة ٢٣٧هـ) ثم أفرج عنهم بعد ذلك، ولكن هذه  المحنة ذهبت بوجاهة الأسرة النابهة وجاهها وهيبتها فاضمحل  نفوذ هذه الفكرة وتضاءلت أهمية هذه الحلقات الأدبية الباهرة التى  اشتهرت بتنظيمها وعقدها زهاء نصف قرن. وفى نفس هذا العام  أمر الحارث بن مسكين قاضى القضاة بمطاردة الفقهاء الحنفية  والشافعية واخراجهم من المسجد الجامع وقطع أرزاقهم وحظر  اجتماعاتهم2

وهكذا شتت شمل المجتمع الفكرى فى الفسطاط حينا وانزوت  حلقاتها الأدبية الزاهرة حتى منتصف القرن الثالث ولكنها عادت  فانتظمت وازدهرت واستعاد المسجد هدوءه وسكينته وردت  حرية الاجتماع والدرس. وجاءت الدولة الطولونية (254- ٢٩٢هـ) (٨٦٨ - ٩٠٥م) فأزهرت فى ظلها الآداب والفنون  وكان أحمد بن طولون أميرا مستنيرا يحب العلوم والآداب ويرعاها  بتعضيده وحمايته، ويجل مجالس العلم وحلقات الأدب. وكانت  الفسطاط ومسجدها الجامع أيضا مثوى الحلقات والمجالس العلمية  والأدبية فى هذا العصر؛ لأن مدينة القطائع التى شيدها ابن طولون  لم تكن كما قدمنا سوى مدينة بلاط وبطانة. ونبغ فى هذه الحقبة  القصيرة عدد كبير من الأدباء والشعراء وبكت دولة الشعر دولة  بنى طولون عند ذهابها أيما بكاء فقال شاعرها سعيد القاص من  قصيدة طويلة رائعة: -

طوى زينة الدنيا ومصباح أهلها  بفقد بنى طولون والانجم الزهر وفقد بني طولون في كل موطن  أمر على الاسلام فقدا من القطر تذكرتهم لما مضوا فتتابعوا كما ارفض سلك من جمان ومن شذر فمن يبك شيئا ضاع من بعد أهله  لفقدهم فليبك حزنا على مصر لبيك بنى طولون إذ بان عصرهم  فبورك من دهر وبورك من عصر

وفى أوائل القرن الرابع كانت الفسطاط تضم جماعة كبيرة من أقطاب المفكرين والأدباء وكانت ابهاؤها ومجالسها الأدبية حافلة زاهرة. ففى تلك الفكرة اجتمع من زعماء التفكير والأدب أبو القاسم بن قديد زتلميذه أبو عمر الكندى مؤرخ الولاة والقضاة، وأبو جعفر النحاس المصرى الكاتب والشاعر، وأبو بكر الحداد قاضى مصر، وأبو القاسم بن طباطبا الحسينى الشاعر، وأبو بكر بن محمد بن مرسى الملقب بيسبويه المصرى، والحسن بن زولاق المؤرخ الأشهر وكثيرون غيرهم: فكان لاجتماع هذه الصفوة العلمية والأدبية البارزة فى هذه الفترة أثر كبير فى ازدهار الحركة الفكرية بمصر فى أوائل القرن الرابع. فكانت حلقات الادب فى أوج نشاطها وكان المسجد الجامع منذ جامعة حقة يموج بهذه الاجتماعات العلمية والأدبية الشهيرة. وكانت دولة التفكير والأدب فى بغداد قد أخذت فى الضعف والاضمحلال وأخذت مصر تتأهب للقيام بدورها فى رعاية التفكير الاسلامى فى المشرق وكان بنو الاخشيد، محمد بن طغج وولداه انوجورو على ثم وزيرهم الخصى النابه كافور , مدى دولتهم التى استمرت- زهاء ثلث قرن ( سنة ٣٥٨-٣٣٤ ه )(٩٦٩-٩٥ م ) حماة للعلوم والأدب. وقد انتهى الينا من آثار الحسن بن زولاق المؤرخ، اثر هام يلقى ضياء على تاريخ الحركة الأدبية المصرية فى هذا العصر وهو كتاب "أخبار سيبويه المصرى" وهو أبو بكر بن موسى الذى سبقت الاشارة اليه وقد كان صديقا لابن زولاق وزميلا له فى الفرس على ابن الحداد وكانت له أخبار وملح ونوادر أدبية

طريفة عنى ابن زولاق يجمعِها في هذا الكتاب. وفى دار الكتب  نسخة خطية وحيدة من هذا الأثر لا ريب أنها من أقدم المخطوطات  العربية التى وصلت الينا بل لقد انتهينا فى تحقيق شأنها الى انها أقدم  مخطوط أدبى مصرى وصل إلينا وأنها من آثار عصر الفسطاط  ذاته وبخط ابن زولاق نفسه1.

وفى اثر ابن زولاق هذا اشارات كثيرة الى حلقات الفسطاط  الأدبية فى عصره فى النصف الأول من القرن الرابع الهجرى. ويبدو من سياق كلامه ان المسجد كان مثوى لأهم هذه  الحلقات وأشهرها وأنها كانت كما قدمنا دورية منتظمة تعقد على  الأغلب فى عصر يوم الجمعة وتجتمع بين الفقهاء والأدباء وينعقد  فيها الجدل الكلامى والحوار الأدبى والشهرى. والظاهر أيضا أن  هذا الجدل أو الحوار كان ينتهى أحيانا إلى بعض ما ينتهى اليه  فى عصرنا من مرارة واتهام وتراشق وأن بعض المفكرين الأحرار  كانوا ينقمون من عصرهم ما ننقم من عصرنا أحيانا من اعتداء على  حرية الرأى والبحث وأن بعضهم كان يرمى بتهم المروق والالحاد  اذا أطلق لنفسه حرية البحث والرأى على نحو ما يشير اليه سيبويه  المصرى فى قوله من قصيدة أوردها ابن زولاق

أما سبيل اطراح العلم فهو على  ذى اللب أعظم من ضرب على الرأس فان سلكت سبيل العلم تطلبه  بالبحث أبت بتفكير من الناس  وان طلبت بلا بحث ولا نظر  لم تضح منه على ايقان ايناس وأنبذ مقالة من ينهاك عن نظر  نبذ الطبيب بذل القرحة الآسى2

وهذه ظاهرة فكرية خطيرة يسجلها الشاعر المصرى على عصره  أعنى أوائل القرن الرابع (حول سنة ٣٢٠ - ٣٤٠هـ) وهى تدل على أن الجدل العلمى والأدبى كان يرتفع يومئذ الى مرتبة  الايمان والعقيدة وينحدر أحيانا أخرى الى درك التراشق  والمهاترة. كذلك هنالك في قول الشاعر ما يدل على أن بعض

المفكرين والأدباء كانوا يؤثرون الصمت على الجهر بآرائهم خيفة الاتهام والوقيعة.

وقد كانت حلقات المسجد الجامع بلا ريب أهم الحلقات  الأدبية العامة ولكن هناك فى أقوال ابن زولاق ما يدل على أنها  كانت تعقد أيضا فى المساجد الأخرى. فمثلا كان الشاعر  الأكبر أبو الطيب المتنبى الذى وفد على مصر سنة ٣٤٦هـ (٩٥٧م)  ليستظل بحماية الأخشيد يجلس فى مجلس يعرف بمسجد ابن  عمروس وهناك يجتمع اليه الأدباء والشعراء؛ وكانت حلقة المتنبى  بلا ريب من أهم مجالس الشعر والأدب والفلسفة فى هذا العصر1  هذا وأما عن الحلقات والابهاء الخاصة فيشير ابن زولاق الى  المجالس العلمية والأدبية التى كان يعقدها محمد بن طغج (الاخشيد)  وولده أنوجور ثم مجالس الوزيرين ابن الفضل جعفر بن الفرات  والحسين بن محمد الماردانى. والظاهر أن هذه المجالس والحلقات  الأدبية كانت يومئذ من تقاليد الحياة الرفيعة وكانت نوعا من  الترف الذى يأخذ به الأمراء والعظماء والأسر الكبيرة فان لهم  جميعا على نحو ما بينا فى سير الأبهاء الأدبية فى تلك العصور أكبر  نصيب وذكر، ويرجع اليهم فى أقامتها ورعايتها أكبر الفضل. للبحث بقية

اشترك في نشرتنا البريدية