الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 639الرجوع إلى "الثقافة"

حلم أفلاطون، أقصوصة لفولتير

Share

كان " أفلاطون ، كثير الأحلام ؛ ولكنه لم ينفرد وحده بتلك الميزة ، فسائر الناس يحلمون .

وقد رأي أفلاطون يوما أن الطبيعة الإنسانية في العصور كانت مزدوجة . فلما طغي الإنسان وأذنب ، نزل عليه عقاب الآلهة فجعل منه الذكر والأنثى .

وبرهن على أنه لا يوجد إلا خمسة كواكب وصل فيها الكمال إلى منتهاه ، لأنه - رياضيا - لا يوجد إلا خمسة أشكال كاملة .

وليست " جمهوريته " إلا حلما من احلامه الكبرى .

وقد رأي أيضا ان النوم ينشأ عن السهر ، وان السهر ينشأ عن النوم ، وأن الإنسان لابد فاقد بصره إذا تأمل الخسوف في غير حوض مملوء بالماء .

لقد كانت الاحلام يومئذ تضفي على صاحبها صيتا وشهرة . . وهاك أحد احلامه ، وليس بأقلها تشويقا وطرافة :

رأي فيما يري النائم ، أن الإله "ثمبورجس " العظيم ، المهندس الخالد ، خلق الكواكب وثبتها في القضاء اللانهائي ؛ ثم أراد أن يمتحن أتباعه من الجن الذين شاهدوا أعماله . فأعطى لكل منهم قطعة صغيرة من المادة وكلفه بتنسيقها وتنظيم أطرافها ، وكأنه " فيدياس " أو "زوكشيس " . النحاتان الشهيران ، إذ يكلفان تلاميذهما بصنع التماثيل واللوحات ؛ هذا إذا استطعنا أن نشبه جلائل الأمور بصغائرها .

وكانت قطرة الوحل التي تدعي بالأرض من نصيب الجني " د مجر جن " . فلما سواها على الوجه الذي تراه اليوم ادعي أنه صنع آية فنية لامثيل لها ، واعتقد أن أسلحة الغبرة لن تجد إليه من سبيل ، فانتظر الثناء والمديح حتى من زملائه صناع الكواكب الأخرى . فإذا هم يقابلونه بالنقد اللاذع والاستنهزاء ، وهو حائر لا يدري سر حملتهم عليه .

قال له أحدهم ، وكان ظريفا لاذع السخرية :

- حقا ، لقد قمت بعملك خير قيام : شطرت كوكبك شطرين ، وفصلت بينهما بمحيط واسع كي تتعذر بينهما سبل الاتصال . لذلك سوف يموت الناس بردا فوق القطبين ، ويهلكون من شدة الحر فوق خط الاستواء .

" ثم إنك كنت حذرا حكيما في تدبيرك ، فبسطت الصحاري الرملية الواسعة هنا وهناك فيها المارة جوعا وعطشا .

" إني لجد معجب بدواجنك وخرافك وأبقارك ؟ ولكني ، إن أردت الصراحة ، لا أستسيغ ثعابينك وحشراتك . ثم لا أنكر ما لبصلك وخضراواتك من فائدة ، ولكني لا أري في نثرك للنباتات السامة فوق سطح الأرض إلا أنك أردت موت سكانها . وانت من جانب آخر قد صنعت من أنواع القردة ثلاثين نوعا ، ومن أنواع الكلاب ما يفوق هذا العدد ؛ أما بنو الإنسان فلم تصنف منهم إلا أربعة أجناس أو خمسة . حقيقة أنك منحت ذلك الحيوان الأخير شيئا تسميه بالمنطق ، ولكنه في الواقع منطق جد مضحك ، بل هو منطقي يقترب كثيرا من الجنون . ويبدو لي أنك لا تعبر تلك الدابة الإنسانية شيئا من الأهمية ؛ إذ سلطت عليها عددا عديدا من الأعداء .

ولم تهبها من وسائل الدفاع إلا القليل ؛ ووقفت عليها الأمراض الكثيرة ، ولم تعطها من الدواء إلا التزر اليسير : وبثقت فيها كل تلك العواطف المتأججة . ولم تلهمها من الحكمة إلا الضئيل . وأنت ، فيما يبدو لي ، لا تبغي لها بقاء على ظهر البسيطة . فإننا إذا طرحنا جانبا ما نسجت حولها من مهالك وأخطار رأينا أنك أحكمت التدبير والتنسيق . فجعلت من الأرض مجالا للأوبئة الفتاكة التى تؤدي بحياة السكان كل سنة وتنغص العيش على تسعة الأعشار الباقية ، ولم تكتف بذلك ، بل زدت عليه أن جعلت نصف الناجين لا يشغلهم شاغل إلا المحاكم والقضايا ، بينما النصف الثاني في شقاق وقتال دائمين .

" لسوف يدينون لك حقا بالكثير ! ولقد صنعت ، ولا شك ، آية فنية لا تضارع ! . "

فأحمرت وجنتا دمجرجن ، وأحس أن في عمله نقصا ماديا ونقصا معنويا . ولكنه أصر على أن الخير في كوكبه يفوق الشر بمراحل . فقال :

- من السهل الميسور أن تنتقد كل عمل . ولكن هل تعتقدون حقا أنه من السهل الميسور كذلك أن نصنع حيوانا حكيما لا يخرج عن حدود الحكمة ، وحرا لا يبتذل حريته ؟ وهل تتخيلون أنه يمكننا ، وعلينا استفيات آلاف الأشجار ، أن تمنع نمو بعض الحشائش الطفيلية السامة ؛ ثم هل ترون أنه في استطاعتنا ، ولدينا كمية محدودة من الماء والرمل والطين والنار ، أن لا نمدد الصحاري أو نبسط البحار ؟ .

" لقد فرغت أنت ، سيدي الفيلسوف الساخر ، من تنسيق كوكب المريخ . فلنتظر كيف قمت بمهمتك ، وكيف سويت الشريطين الطويلين ، ثم كيف نظمت لباليك التي

يختفي فيها القمر ، ولننظر إذا لم يكن من بين من خلقت حمقى ومجانين ومرضي " .

وتأمل الجن أحوال كوكب المريخ فوقعوا على الساخر المتطرف باللوم والتفريغ . ولم ينج صاحب زحل الحكيم كذلك من مراجعتهم . أما إخوانه ، أرباب المشتري وعطارد والزهرة ، فقد عانوا نقدا مريرا .

وراح كل جني يؤلف الكتب الضخمة والرسائل في نقد تلك الكواكب ، وتفرق الجن شيعا يسخرون من بعضهم ، وينظمون قصائد الهجاء ، وينددون بعيوب منافسيهم .

واشتد النزاع ، وعلى مرجل الفتنة ؛ وأخيرا قام إليهم الإله دميورجس الخالد ، فأسكنهم جميعا ثم خطب فيهم قائلا

" لقد صنعتم ، فيما صنعتم ، خيرا وشرا ، لأنكم جميعا لم تبلغوا درجة الكمال برغم ذكائكم العظيم . ولسوف تدوم أعمالكم بضع مئات الآلاف من السنين فقط . وإذا ما انقضي أجلها ، فسوف تصنعون خيرا منها ، إذ تكونون على حظر أوفر من التجربة . ولكن ليس لغيري أن يصنع أشياء كاملة خالدة ، فتلك مقصورة على وحدي .

هذا هو ما كان يلقيه أفلاطون على أتباعه . فلما انتهى من حديثه قال له أحدهم : " ثم استيقظت من نومك . " .

تلخيص

اشترك في نشرتنا البريدية