كانت السياحة إلى ما قبل جيل فقط نوعاً من الترف لا يتمتع به سوى الأغنياء؛ وكانت الرحلة إلى الشام أو إلى استانبول مثلاً بالنسبة لآبائنا وأجدادنا حادثاً عظيماً يتحدث به؛ وكان السفر إلى باريس أو الريفيرا متعة الأمراء والخاصة. أما اليوم فان السياحة تغدو حركة ثقافية ورياضية عالمية، يستطيع أن يتمتع بنعمها جميع الطبقات المتوسطة، وغدت المواصلات البحرية والبرية والجوية ميسورة يطيقها ويستعملها جميع الناس؛ وفي عصر السرعة الذي تهب ريحه اليوم على جميع الأمم والمجتمعات يستطيع السائح أن يطوف قارة بأسرها في أيام معدودات، ويستطيع أن يقطع البحر إلى إيطاليا في سبعين ساعة فقط، وإلى فرنسا في أربعة أيام، ويستطيع أن يقطع ما بين الإسكندرية ولندن بالطيارة في عشرين ساعة. وقد نظمت جميع الأمم السياحية عواصمها وربوعها ومنتزهاتها بصور وأساليب جذابة سواء في برامج الزيارة أو في تخفيض النفقات، وتسابقت معظم الأمم في تقرير الامتيازات للسائحين بتسهيل المواصلات ومسائل النقد وغيرها مما يغري السائح بتفضيلها، وتعنى الهيئات الثقافية والرياضية بتنظيم الرحلات الرخيصة للطلبة وأصحاب المهن وجماعات المثقفين وتعنى مكاتب السياحة نفسها بتنظيم الرحلات الرخيصة للطبقات المتوسطة بأجور مدهشة.
فالسياحة لم تبق اليوم أمنية المترفين ولا حكر الأغنياء، ولكنها تغدو في متناول معظم الطبقات؛ ويرجع الفضل في ذلك إلى تحسن المواصلات العالمية ورقيها السريع المدهش، وإلى تنافس الأمم السياحية في استثمار موارد السياحة إلى أقصى الحدود، ويرجع أيضاً إلى تقدم الصلات الدولية بين الشعوب المختلفة وإلى الرغبة في تبادل الاطلاع والمعرفة والتثقيف، وتبادل المزايا التجارية والاقتصادية، وقد هبت
هذه الريح السياحية على مصر في الأعوام الأخيرة، وأتيحت الفرصة لطبقات جديدة من المتوسطين أن يقوموا برحلات بديعة بأجور زهيدة، وسرت الرغبة في جميع طبقات المثقفين ولا سيما الشباب أن يسافروا وأن يسوحوا وأن يتعرفوا أحوال الأمم الأخرى، وقد وصلت هذه الحمى السياحية إلى أقصاها في هذا الفصل حيث تعتزم ألوف عديدة من المصريين السفر إلى زيارة معرض باريس الدولي لا فرق في ذلك بين المترفين وصغار الموظفين والطلبة والمتوسطين؛ وهذه رغبة مشروعة لا اعتراض عليها، بيد أنه يخشى أن تؤدي المبالغة في تحقيقها إلى إسراف لا تحمد عواقبه، إذ تتسرب أموال المصريين إلى الخارج بكثرة، وتضطرب مالية كثير من المتوسطين وصغار الموظفين خصوصاً وأنه لا توجد بمصر قوانين لتقييد العملة أو تحديدها كما هو الشأن في معظم البلدان، ولهذا يحسن بولاة الأمور أن يبحثوا هذه المسألة وأن يضعوا لها بعض الحدود والقيود المعقولة
