الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 278الرجوع إلى "الثقافة"

حول التثقيف الشعبي والعدالة الاجتماعية :، ملاحظات

Share

تجددت في الأسابيع الأخيرة المناقشات حول التعليم ، فقد أبدي الأستاذ فريد أبو حديد رأيه في مستقبل الثقافة الشعبية ؛ وتحدث الدكتور طه حسين بك عن العدالة الاجتماعية ، وكيف يجب تحقيقها بوجه عام فيما يتصل بالضرائب ، وعرج علي صلتها بالتعليم . وأدلي غيرهما من أفاضل العلماء وكبار الكتاب بآرائهم في هذا الموضوع الجليل علي صفحات الأهرام " الغراء ، وعقب بعضهم على ناحية التعليم بوجه خاص .

وقد كان من أهم ما ورد في حديث الأستاذ محمد فريد أبوحديد دفاع قوي حار عن توحيد المدرستين الأولية والابتدائية ، ذلك التوحيد الذي صدفت عنه وزارة المعارف مؤثرة إبقاء الحال على ما هو عليه الآن ، والاحتفاظ بالمدرستين الابتدائية والأولية ( أو الإلزامية ) قائمتين جنبا إلي جنب . وهذه المسألة على جانب عظيم من الأهمية ، ولذا تستحق أكبر عناية من الكتاب والمفكرين وقادة الرأي .

ومن المصلحة القومية أن تناقش آراء الطرفين بشأنها ، لتتضح للأمة ميزات الخطتين وعيوبهما في الوقت الحاضر ونحن في مفترق الطرق ، حتى لا نسير في طريق ونتبين بعد زمن قليل أن الطريق الآخر كان خيرا منه ، فنتورط في الأول أو نغير نظمنا بشيء من الاضطراب لنتجه في الطريق الآخر المفضل

فأما أنصار إبقاء الحال على ما هو عليه والاحتفاظ بالمدرستين ، فيرون أن بالبلد نوعين من التعليم في المرحلة الأولى قائمين ومستقرين : الأول هو الابتداني المؤدي إلي

ا بقية درجات السلم التعليمي الموصل إلي أقصي الذروة ، والذي كان فيما مضي مقصورا علي الطبقتين الوسطى والعليا ، مع بعض شواذ قليل عددهم من رقيقي الحال الذين كانوا يفوزون بالمجانية لتفوقهم ؛ والثاني هو الأولى الذي أعد للطبقة الدنيا من الشعب وأولهما هو الذي يسير في طريق الرقي

ويعتقد الكثير بنجاحه إلي حدما ، فمن سوء التصرف أن نلغيه ونقضي عليه ، ونقيم على أطلاله مدارس لا نثق بأنه سيتوافر لها من النجاح ما توافر للمدارس المراد إلغاؤها .

ويقول هؤلاء الأنصار إن واجب الدولة بعد الاحتفاظ بالمدرستين جنبا إلي جنب أن تسعى للنهوض بهما معا ، وتلافي عيوب كل منهما وتحسينهما حتى تكونا صالحتين للغرض الذي قصد منهما وإن على الدولة أن تيسر التعليم في المدرسة الابتدائية وتجعله مجانا للجميع ، لافرق في ذلك بين الغني والفقير ، وبين الريفي والحضري وإن على الدولة أيضا أن توجد المنافذ والممرات والدهاليز التي يستطيع الفرد الموهوب الذي التحق بالمدرسة الأولية ، وظهر نبوغه واستعداده لمواصلة الدراسة النظرية إلي أقصى حد ، أن ينفذ منها إلي المدرسة الابتدائية ويشق طريقه منها في السلم التعليمي مجانا إلي الدراسة الثانوية فالعالية . فإذا قيل لهم إن تعليم اللغة الأجنبية في المدرسة الابتدائية وحدها كثيرا ما يقف حائلا دون انتقال الصبي من المدرسة الأولية إلي الابتدائية ، ردوا بأن هذه مسألة ثانوية لا يصعب إيجاد حل لها مع الاحتفاظ بتدريس اللغة الأجنبية في المدارس الابتدائية .

وإذا قيل لهم إن هذا الوضع فيه حرمان للغالبية الكبرى من أبناء الأمة من التعليم الابتدائي الجيد ، ردوا على مناقشيهم بأن انتظروا وأفسحوا لنا في الوقت ، فإنا سنجعل لكم من المدرسة الأولية مدرسة ممتازة ، لعلها ستفوق في صلاحيتها وجودتها المدرسة الابتدائية ،

بل إن رواد هذه المدرسة في المستقبل سيغبطون رواد المدرسة الأولية عليها ، ويتمنون لو كان قد أتيحت لهم من أول الأمر فرصة الالتحاق بها . وهم يرسمون الخطط لتحقيق ذلك عن طريق جعل التعليم بالمدارس الأولية عمليا ، أي ريفيا في القري وصناعيا في المدن ، كما فعلت الأمم الراقية في العالم .

وأما الفريق الثاني الذي يري توحيد المدرستين ، فيقول بأن هذا التوحيد هو الإجراء الطبيعي العادل الذي أخذت به جميع دول العالم بغير استثناء ، والذي يعطي أبناء الدولة كلهم فرصا متكافئة ، وأن وجود المدرستين فيما مضي كان يرجع إلي تقسيم الأمة إلي طبقات ، والرغبة في إيجاد مدارس للخاصة وأخرى غيرها للعامة ، وأن الديمقراطية الحقة تتنافي مع أي إجراء كهذا ، وتحتم علي كل أمة ديمقراطية أن تتخلص من وصمة هذا التفريق بين أفراد الأمة ، وأن تعود فورا إلي الأخذ بالمدرسة الواحدة لتسوي بين جميع أفراد الأمة الواحدة تحقيقا لمبادئ الديمقراطية

وهم يقولون بأن هذا التوحيد لا بسبب اضطرابا ولا ينزل بمستوي المدارس الابتدائية ؛ فالذي يمر علي المناهج الدراسية التي وضعت للمدارس الأولية لا يجدها تختلف عن مناهج المدارس الابتدائية إلا في اللغة الأجنبية التي يقول جميع رجال التربية في كل انحاء العالم بوجوب حذفها من مناهج المرحلة التعليمية الأولى . وإذا اعتبر حذف اللغة الأجنبية إنزالا لمستوي التعليم الابتدائي ، فهل لانتحمل ذلك في سبيل النهوض بالتعليم الأولى الفاشل الذي اعترف الجميع بأنه وصمة في جبين الأمة ، وعار يجب أن تتخلص منه بأول فرصة ؟ !

ويعتقد هذا الفريق أنه ما دامت هناك مدارس للخاصة يدخلها أبناء الوزراء وكبار الموظفين والأعيان والماليين ، فلا سبيل لتحسين المدرسة الأولية ، لأن هذه الفئة الراقية هي

التي تحرك الرأي العام ، فإذا كان أبناؤها سيضطرون لدخول المدارس الأولية فإن أفرادها سيرفعون صوتهم عاليا ويضطرون الدولة للنهوض بهذه المدارس ، وجعلها في مصاف مثيلاتها من المدارس في جميع البلدان الراقية

ويقول أنصار هذا الرأي إن انصار الفريق الأول لو قالوا بتوحيد المدرستين على أساس إبقاء المدرسة الابتدائية وحدها وجعلها المدرسة العامة للجميع ، وإلغاء المدرسة الأولية التي ثبت فشلها وأخفقت إخفاقا تاما ، لونادوا بذلك _ كما نادي به الأستاذ القباني - لحمدنا لهم ذلك

ولكنهم يعلمون أن تعميم التعليم الابتدائي غير ممكن من الوجهة المالية ، بل إن فيه إسرافا يحدو بنا إلي العدول عنه . وإلي تركيز جهودنا الفكرية والمالية في رفع مستوي المدرسة الأولية وتعميمها ، فذلك هو الإجراء الطبيعي ، والحل النهائي الممكن عمليا . وأما التماس الحل عن طريق المجانية وتعميمها في المدارس الابتدائية فلن يحل المشكلة ، لضيق هذه المدارس عن أن تتسع لعشر من هم في سنها من جهة ،

ولأن اختيار هذا العشر على أساس الاستعداد غير ممكن لا بالامتحان ولا بغيره في هذه السن المبكرة . بل إن هذا الإجراء سيؤدي إلي التجاء أبناء الطبقة الوسطى والعليا إلى المدارس الخاصة التي ستفتح لهذا الغرض ، وتكون بطبيعة الحال مدارس أجنبية ، فكأننا سنخلق في مصر مدارس خاصة تحاول الأمم الديمقراطية في الوقت الحاضر أن تتخلص من نظيرانها عندها

وأما فكرة الممرات والدهاليز فيعتبرونها فكرة غير عملية ، ولو كانت صالحة لأخذت بها الأمم الأخرى التي تجعل نظمها مرنة إلي أقصى حد . وهب أنها عملية ، وأنه قد اكتشف عند تطبيقها في المدارس الأولية خمسة في المائة فقط من ذوي الاستعدادات الجيدة والمواهب العالية ، فهؤلاء إذا أردت إدخالهم المدارس الابتدائية لم يجد

لهم محلات كافية ، فعددهم يبلغ نصف عدد المدارس الابتدائية الحالية ، فقبولهم يتطلب هو وحده إنشاء نصف العدد الحالي من المدارس الابتدائية ، فهل هذا من الممكن في الوقت الحاضر ؟

ويلاحظ انصار التوحيد علي ما قيل أخيرا من ان المدارس الأولية سيرتفع مستواها إلي حد يغبطها عليه رواد المدارس الابتدائية ، انه إذا صح هذا فلم يحرم فريقا من الصبية ( الذي في المدارس الابتدائية ) من التمتع بهذه المزايا والالتحاق بتلك المدارس التى ستصل إلي ذلك المستوي الراقي المرموق ؟ !

أليس من المصلحة عندئذ أن تكون هذه المدارس الأولية الجييدة مفتوحة للجميع ؟ ولعل أصحاب الرأي الأول يرون استبقاء المدرسة الابتدائية ريثما يتحقق هذا الأمل ، وهو إصلاح المدرسة الأولية إصلاحا يوصلها إلي هذه المستوي العملي الجميل ؛ وعندئذ ينادون بالاكتفاء بها والعودة إلي إلغاء المدرسة الابتدائية . فإذا كان هذا هو ما ينوونه فليصرحوا به وليبنوا سياستهم عليه ، وليلغوا اللغة الأجنبية منها ولو بالتدريج ، حبي إذا جاء وقت الإدماج كان هذا الإدماج ممكنا ، ولم يقف في سبيله عقبات كافية كعقبة اللغة هذه

ومن طريف ما في هذا النقاش الممتع  أن اصحاب الرأي القائل باستبقاء المدرستين الأولية والابتدائية هم أكبر الناس تحمسا لتطبيق مبادئ العدالة الاجتماعية في المجتمع المصري بوجه عام ، وفي التعليم بوجه خاص ؟ فيتساءل أصحاب مبدأ توحيد المدرستين - وحق لهم التساؤل _ أي النظريتين أقرب لتحقيق تلك العدالة الاجتماعية المطلوبة ؟

هل من العدالة الاجتماعية في شىء أن يصرف علي كل فرد من أفراد فريق صغير من أبناء الدولة 25 جنيها ، وعلي

الفرد من الفريق الآخر الكثير جنيه أو اثنان فقط ؟ وهل من العدالة الاجتماعية في شىء أن يختص فريق من أبناء الأمة بتعليم ثبت فشله بصفة قاطعة ، ويختص الفريق الآخر بتعليم فيه ترف وإسراف ؟

وهل من العدالة الاجتماعية أن تهيأ الفرص لفريق صغير من أبناء الأمة أن يدخلوا مدارس توصل إلى جميع درجات السلم التعليمي ، ولو لم يكن عندهم الاستعداد الكافي له ، وتحشد الأغلبية الساحقة الغنية بذوي الكفايات في مدارس لا توصل إلي المراحل العليا من التعليم ، إلا عن طريق دهاليز وممرات لا تزال في عالم الغيب ، ولا يعلم إلا الله أين ستنشأ ، وهي أي تصميم ستنبني ، ولأي عدد ستتسع ، وإلي أين ستوصل ؟ وقد رأيت فيما مضي أن المدارس الحالية لا تتسع لمن ينفذ منها إذا كان نحو ٥ % من مجموع تلاميذ المدارس الأولية ، وأن هذه النسبة الضئيلة تحتاج لإنشاء نصف عدد المدارس الابتدائية الحالية .

وأخيرا هل من العدالة الاجتماعية أن يحشد المدرسون الذين أعدوا إعدادا جيدا ، والذين تعلموا لغة اجنبية تمكنهم من الاطلاع على ما يجري في العالم كله ، وأن يختص بالأدوات الجيدة الريحة ، والكتب القيمة ، والمباني الفسيحة ، فريق واحد ؟ هل من العدالة أن يسخر كل ذلك لخدمة فئة قليلة من أبناء الأمة ، وتحرم الأغلبية العظمي منه ؟ إذ   يلقى بها في تلك المدارس القذرة المكتظة المهملة الفاشلة ؟ استمع عالم لهذا الحوار ، فعلق عليه بأن العدالة الاجتماعية النظرية هي من غير شك في جانب فريق التوحيد بين المدرستين ، ولكن إمكان التنفيذ عمليا في جانب الفريق الآخر . فسألوه إفصاحا فقال : ماذا تفعلون بالمدارس الابتدائية ومن فيها من المدرسين ، إذا تقرر الإدماج والتوحيد بين المدرستين فأجابه القائلون بالتوحيد بما يأتي

أما المدارس فيظل الصغير منها مدارس أولية ، ويحول الكبير منها مدارس ثانوية ، فسنحتاج إلي كثير من هذه المدارس الثانوية بعد التوسع في التعليم ، وإعطاء الفرص المتكافئة لجميع أبناء الشعب ، ومنح النابغين من ابناء الشعب مجانية كاملة بالمدارس الثانوية فالعالية ، وتنويع المدارس الثانوية صناعية وتجارية وزراعية .

وأما المدرسون والنظار ، فيحول ذوو المؤهلات العالية منهم إلى التعليم الثانوي ، فهو في اشد الحاجة إلي امثالهم ؟ واما المدرسون العاديون الذين لا يصلحون للمدارس الثانوية فحبذا لو انتفع بهؤلاء نظارا لكثير من المدارس الأولية ، ومدرسين اوائل يشرفون على تدريس موادهم في المدارس الأولية الكبيرة .

ويجرنا الكلام عن المدرسين إلي مدرسي التعليم الاولي أنفسهم ، وهؤلاء يجب على الدولة ان تهيئ الأسباب لهم ليتقدموا ويوسعوا افقهم وينموا ثقافتهم ؛ وحبذا لو اخذ باقتراح الأستاذ محمد فريد أبو حديد بفتح مدارس معلمين ممتازة تلحق بها مدارس أولية نموذجية ، وهذه المدارس يصح ان تتخذ مرا كز يختلف إليها على التناوب مدرسو التعليم الأولي الحاليون لتجديد معلوماتهم ورفع مستواهم بوجه عام ، على ان يشجع كل من يستجيب لداعي التطور والتقدم وينسجم مع تيار الإصلاح ، ويستفيد من هذه الإجراءات لأقصي حد .

وبذلك الإجراء نستطيع أن نتتفع بهذا الجيش الجرار من معلمي التعليم الإلزامي ، ونرفع مستواهم الفكري بعد ان رفع مستواهم المادي . والاستاذ فريد أبو حديد على حق حين يقول بأن الجزء الا كبر منهم حسن الاستعداد ، وسيستجيب لمثل هذه الدعوة ، ويسير مع القافلة المجددة ، ويرفع دعانم التعليم الاولي الموحد لجميع طبقات الامة بلا تفريق .

بذلك كله يصح لنا أن نأمل أيضا في توفير كثير من نفقات التعليم الاولى ، وندخر اموالا سنحتاج إليها في توسيع التعليم الثانوي والعالي ليتسع للنابغين الذين سيكشف عنهم او يكتشفهم هذا التعليم الموحد ، ويسلمهم بعده إلي التعليم الثانوي فالعالي لتتم الأمة تعليمهم على نفقتها .

فهؤلا هم الذين نطمع ان يؤسسوا جيلا من العلماء المجددين المبتكرين  الذين يرفعون سمعة مصر بما يضيفون إلى التراث العلمي والثقافي من فيض علمهم ، ومن نتائج بحوثهم ، وما اشد حاجة مصر في نهضتها الصناعية والاقتصادية بعد الحرب بوجه خاص إلي أمثال هؤلاء !

وبعد ، فقد كنا نحب أن نناقش بعض آراء الأستاذ محمد فريد أبو حديد الخاصة بأن الدولة مكلفة بأن تيسر لكل من اراد (حتى ولو كان ضئيل الاستعداد ) سبيل التعليم الثانوي فالعالي ولكن القول قد طال في هذا المقال . ونحن مع ذلك لا نحب أن تختمه قبل أن نقول كلمة إنصاف للأستاذ أبو حديد ، وهو انه إذا قدر للتعليم الريفي ان ينجح في هذا البلد ويعود بالنفع والفائدة على الأمة ، فعلى التاريخ ان يسجل على صفحاته البيضاء ذلك المجهود الجبار الذي بذله رجال مدرسة المنايل الريفية ، وعلي رأسهم الاستاذ محمد فريد ابوحديد الذي بث فيهم من روحه ، وبذل لهم في سبيل الإرشاد قصاري جهده ، وما زال يجرب ويتعب ويجدد ،

حتى وصل إلي وضع مناهج يصح أن تتخذ أساسا صالحا للبناء ، وخلق روحا هي وحدها التى ينمو فيها نظام كهذا .

وإنا لنرجو أن تصح البذور التي بذرها ، وان يشجع الرجال الذين رباهم ، وان تظل هذه التجربة سائرة في طريقها القويم ، وروحها السليم ، حتى تستقر استقرارا يجعلنا نطمئن لتطعيم غيرها من المدارس ببعض من فيها من الرجال ، ليشع من المنايل نور جديد ، وروح عالية تعم القطر كله .

اشترك في نشرتنا البريدية