الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 3الرجوع إلى "الفكر"

حول الثقافة الشمال افريقية

Share

لن اطيل فى تحديد الثقافة ، انما افرض ان الثقافة هى الصورة النوعية لما تنتجه قرائح شعب من الشعوب فى ميادين الفكر والاخلاق والروح والجمال . ثم اننا اذا اعتبرنا ما بين الثقافة والحضارة من متين الروابط اضفنا الى كل ذلك صورة اخرى لما يكتشفه هذا الشعب فى دنيا العلوم التطبيقية والفنون عامة . والثقافة تضمن لذلك الانتاج هذا الاطراد الذى يحمل كل مجموعة بشرية متضامنة على التعبير عما تصبو اليه او تسجيل اطوار مصيرها التاريخى في صورة عمل فنى او ادبى واذا رمنا ، اعتمادا على هذا الحد ، درس ثقافة شمال افريقيا راعنا لاول وهلة ما بين عناصرها من تباين . فنحن نجد عند جميع الشعوب ، الى جانب الثقافة الشعبية ، ثقافة ارستقراطية . الا انه بينما تستعمل الثقافة الارستقراطية عند شعوب مثل انقلترا وفرنسا والمانيا لغة واحدة للتعبير على الاقل نجد فى شمال افريقيا الفوارق الآتية :

نلمس ، بادىء بدء ، فى الثقافة الشعبية مضمونا بربريا اصيلا يظهر من خلال ادب غزير المادة نثرا كان او نظما الا انه مروي ، ونجد الى جانب ذلك في الفن المعمارى وفى الرسم وخاصة فى المصنوعات الفخارية موضوعات بدائية . وهذه الثقافة واسعة الانتشار فى جهات عديدة من الجزائر والمغرب . واذا انعدم الابتكار بالنسبة للنثر من وقت توغل العرب فى المغرب فان الشعر ما انفك يتغذى من نفحة الحماس الشعبي تلهبه الاحداث الجسام مثل الخلاف بين القبائل والدفاع عن الارض المهددة من الخارج والاوبئة والمصائب كالزلزال الذي حدث اخيرا فى مدينة الاصنام .

والي جانب هذا المضمون البربرى ازدهر ، بداية من القرن الثامن ، مضمون ثان شعبى اداة تعبيره اللغة العربية الفصحى . وفي هذا الباب كان للنثر والنظم حظ عظيم . فالنثر ظهر فى صورة قصص ما زال يرددها المداحون

فى الاسواق وفى الساحات العمومية والنظم ظهر فى قصائد اصطبغت بالصبغة البدوية احيانا وبالصبغة الحضرية احيانا اخرى . ويكون من المفيد جدا من اوجه عديدة وخاصة من الوجهة اللغوية والأدبية ان يدرس هذان التياران ويقارن بينهما غير ان دراسة مثل هذه لن تكون مجدية الا اذا وضعت قائمة لا وفى ما يمكن جمعه من الانتاج فى هذين الميدانين . وبفضل مثل هذه الدراسة قد يكون من الممكن معرفة درجة تداخل هذين التيارين او معرفة توافق مصادر الاستلهام عربية كانت او بربرية فى ميدان الادب . .

وحتى الثقافة الارستقراطية لم تكن منسجمة تمام الانسجام اعني بالارستقراطية الطبقة المثقفة التى تقابلها الجماهير الجاهلة فى غالب الاحيان . وقد اضطر اهل البلاد تطلعا منهم الى نشاط فكرى خصب التى ان يتبنوا بكل واقعية وشجاعة لغة من توالى عليهم من الظافرين . وعلى هذا الاساس هل يمكن لابناء شمال افريقيا ان يدعوا الانتساب الى ثقافة شمال افريقية تعابيرها لاتينية وعربية وفرنسية ؟ يحمل بنا ان نطنب فى بيان هذا الطابع الاساسي الذي طبعت به ثقاقتنا لا ان نفسح المجل لآراء تلقى جزافا ويرددها جميع الذين ينكرون بدون مبرر مرحلة من المراحل الثلاثة المذكورة ارضاء لمبولهم الفكرية . فالغربيون مثال ميالون الى الربط بين الفترتين اللاتينية والفرنسية مهملين بذلك ثلاثة عشر قرنا من التاريخ العربى الاسلامى . اما الشرقيون فهم يرون ان الفترة العربية تعد وحدها المرحلة المعقولة التى فيها تطورت ثقافتنا .

فلنحذر من كل ذلك لان عظمة تاريخنا وثراء طرافته تتمثل بالضبط فى هذا الازدواج في الاتجاه الذي سمح لمثقفينا ان يستسيغوا العيش فى جهاز من النظم الممنوحة من الظافرين بدون ان يقبلوها بصفة نهائية كل ذلك ليتعزز موقفهم فيكون موقف الند للند وليتلألأ نجمهم فى سماء ثقافة تروم ابتلاعهم .

لكن رغبة منا فى الدقة يجدر بنا الاهتمام بالكتاب العرب اهتماما خاصا ، فرسوخ قدم الحضارة الاسلامية وانتشار اللغة العربية اثرا على المغرب تأثيرا كاملا لم يتيسر للزحفة الفرنسية رغم شدتها واستبدادها بمقاليد السلطة ان تضع ذلك موضع جدال كما كان الشأن بالنسبة لانتشار الحضارة واللغة الرومانيتين وانتشار المسيحية بعد القرن السابع . ذلك ان حضارة الصحراء التى على اسسها انبنت

الثقافة العربية تحمل فى طياتها عناصر هى نفسها عناصر حضارة البربر وحضارة البربر هذه احتفظت باخص خصائصها فى اماكن منعزلة لم ير فيها العرب الرحل مصلحة تذكر . وهكذا سمح المسلمون بابقاء ما تخص به هذه الحضارة في ميادين الاجتماع والقانون والثقافة .

والى جانب هذه الطاقة العجيبة فى الصمود امام الهجمات الواردة من الخارج نلاحظ فى التآليف المغربية رغم تباين مصادر استلهامها (انظر مؤلفات " تيرتوليان " وابن تومرت والقديس اقستان وابن خلدون ) عناصر مشتركة يمكن نعتها بالافريقية ، هذا رغم شدة ما تتصف به من التزام . واول ما نلاحظه ميل شديد الى التفكير النقدى وهو امر طبيعي من الوجهة النفسية : فالمثقف الشمال إفريقى حديث عهد بالثقافة ولذا فهو يفهم كل شيئ بطريقة قوامها التفكير المنظم والمناقشة ، وهو يلقى عرض الحائط بكل ما لا يدخل حيز المعقول والمنطق . وربما يعلل ذلك تعدد النحل والمواقف الشخصية . فتيرتوليان مثلا بعد ان اعتنق الدين المسيحي ارتد لانه وجده دين عسر ولانه يخلق فيه كل توق الى حرية النقد . فهاجم نظام الرتب في الكنيسة وما كاد ينضم الى نحلة مونتانوس حتى انفصل عنها واسس نحلة جديدة عرفت بنحلة اتباع تيرتوليان . ولنتفكر ايضا فى تطور تفكير القديس اوقستان الذى انتقل من المانوية الى الكنيسة المسيحية وكذلك ابن خلدون فهو يبهرنا فى كل صفحة من مقدمته بميله الشديد الى النقد .

ثم انه يمكن لنا ان نتبين الصبغة الانشائية لهذا التفكير . فالقديس اوقستان وابن تومرت وابن خلدون وكذلك فى ايامنا هذه بورقيبة هم ابلغ امثلة لذلك . فكان اسقف " هيبون " يجوب افريقيا المسيحية ليعلم وليمارس الحكم بين الناس وليجادل اصحاب النحل المناوئين له . وسجل ابن تومرت وحدة المغرب بصورة جعلتها تقاوم الدهر . وهو متمذهب لا يعرف هوادة ومجاهد مستميت فى سبيل العقيدة الاسلامية ومنظم لا مثيل له اذ رام توحيد المغرب العربى وكان يرى الرجوع الى عقيدة طاهرة فدعا بكل حماس الى الاشعرية . وقضى ابن تومرت على دولة المرابطين متهما اياهم بالشرك وبني سلطته على اسس ديمقراطية اذ كون مجلس الثلاثين وهو فى الحقيقة مجلس على غرار ما انشأه النبى وصحابته غير انه يتماشى وطبيعة سكان شمال افريقيا الديمقراطية . وانتقل ابن خلدون

بمهارة عجيبة من بلاط تونس الى بلاط فاس ومن اشبيلية الى بجاية ومن تلمسان إلى غرناطة وقد تقلد فى كل هذه الامكنة ارقي الوظائف لكنه لم يفرض نظريته فى الحياة السياسية واكتفى بان دونها لمن ياتى بعده . واخيراها نحن نرى بورقيبة ينفذ برنامج عمل لا بد انه فكر فيه عميق التفكير طوال اعوام سجنه . فحب المحسوس والمشخص ، والسيطرة التامة على الحوادث يجعلان المرء يقول : تلك هي الدوافع الخفية التى اوحت الى كبار مفكري شمال افريقيا بتآليفهم .

وبالنظر المدقق فى التآليف والتراجم وهو امر لا يمكن القيام به نظرا لضيق هذا المقال من جهة ولعدم تهيئ من جهة اخرى يمكن لنا استخلاص خصائص اخرى تشترك فيها شعوب شمال افريقيا مثل فكرة الشمول الموروثة عن المسيحية والاسلام وعن الفلسفة العقلية الحديثة . ونحن نغتنم هذه الفرصة لنشر الى عمل قد تكون له اهمية بالغة ويقتضى ضبط جميع عناصر الثقافة الشمال افريقية فى مجموعة مختارة تضم النصوص الاكثر تمثيلا لما تفرضه البيئة من احوال وتبين بوضوح موقفنا من الحضارات ومن الناس . ومجموعة كهذه تصور للاجيال القادمة المعنى الحقيقي لحركتنا الفكرية على مر الدهور وهى تبين ان ثقافتنا رغم انها تلوح متكونة من عناصر متباينة هى فى الواقع مجهود متواصل في سبيل ابتلاع كل ما لا يضير بشخصيتنا وهضمه .

وهذا مما يجعل ادعاءات الذين يربطون الثقافة بخصائص الجنس مشكوكا فيها . وادا صح ان المرء يمكن له ان يستشف من جمع بشرى بعض الميول الخاصة به والتي تفرضها عليه الجغرافيا والتاريخ فانه من الحمق ارادة حبسه فى عقليتة والجزم بانه منغلق عن العقليات الاخرى . ولا شىء اقل جدوى من هذه المقالات الطويلة التى تقول بان المسلم مشدود الى غل ثقافى ودينى لا يمكن للحضارة الغربية " الدينامية " ان تخلصه منه . فاذا وضع كل انسان وكل مجموعة بشرية وحتى كل امة فى دائرة اجتماعية محدودة فى الزمان وفى المكان ظهر كل ذلك قائما بذاته على سبيل التقريب وصعب بالتالى ابتلاعه من الخارج . غير انه اذا نظرنا الى كل هذا مندمجا فى سلسلة طويلة من الحوادث التاريخية ووضعناه فى الاطوار المتعاقبة لحياة ما اولتجرية قرن كامل الفيناه اكثر مرونة واشد استعدادا لتلقى التأثيرات المتنوعة . فاية ثروة تلك التى ستنكشف لجميع هؤلاء " العرب " و " الصعاليك الكسالى " الذين وضعهم فى عهد الاتراك حظ مشؤوم فى قبضة " ينكشر " خال من كل روح وعقل فاستغلهم اشد استغلال او وضعهم فى قبضة معمرين اوروبيين قد تأكلهم النهم والطمع ، فلنطالب بقسطنا من هذا العبقرى الخطير الذي رسم من " هيبون "

في القرن الرابع الى الكنيسة المسيحية والى الحضارة الغربية كلها الطرق الروحية الواسعة التى ما زالت تسير فيها الى اليوم . ولنستوعب رسالة ابن خلدون حبيس " تاوغزوت " لنخرج للناس ما يماثلها اذ هو الرجل الذى عرف كيف يسجل في صفحات فريدة تجربته للناس ولارض المغرب ولنأخذ عن بورقيبة قوته على على الصبر وعن محمد الخامس ثباته الذي لا يتزعزع وعن المقاومين الجزائريين عزمهم الحديد وهم الذين ابوا التنازل عن حقهم فى الكرامة البشرية والحرية . بهذا كله تغذى اشد الارواح طموحا وتصقل اشد الافكار نهما وتنمى اشد المواهب صدقا وتفتحا .

وليس غرضنا في هذا المقال الوعظ السياسى لاننى لما خولت لنفسى ذكر بورقيبة والمقاومين الجزائريين فى حديثى عن الثقافة الشمال افريقية فانما لابين انهم باعمالهم وبالنهج الذي اختاروه فى الحياة سجلوا على مدى الايام تجربة حوت من الدروس الخصبة ما تحويه احسن المؤلفات الفنية والادبية ، فالدروس التى يسدونها للناس عامة لا لمواطنيهم فحسب لا تخلو لا من سمو فكري ولا من جمال اخاذ ولا من عمق اخلاقى وتلك صفات من حقنا ان ننتظرها من كل اثر ثقافى فى معناه الواسع .

وبذلك الحماس الجارف الذى آلهب كل ما قمنا به من اعمال ، لنتوخ ولنمارس الايجاز والاتزان اللاتينيين والروحانية الاسلامية المسيحية العالية والمرونة والكرم العربيين ووضوح تفكير الجامعيين الفرنسيين وهم الذين ما فتئوا يكافحون جاهدين لاستبقاء ما الفته فرنسا من سنن ديمقراطية عالية رغم الاحقاد التى تجتاح بلادهم اليوم .

فموقف مثل هذا تجاه ثقافتنا له مزية عظمى اذ هو يحل المشكل الرئيسى لتعليمنا . ذلك ان هذا التعليم لن يكون شرقيا فقط ولا غربيا فقط ، اذ بواسطة الغرب وقد عرفنا باى شغف اخذ ونشر " الانسانيات " اليونانية اللاتينية نرتبط بالسنة اللاتينية المسيحية وفى نفس الوقت نحافظ على معرفة احسن ما انتجته العبقرية الغربية . وبواسطة اللغة العربية نحيى ذلك التراث " الانسانى " الذى اشع ببغداد وقرطبة فى القرنين التاسع والعاشر . وقد نعمل بذلك على بعث " دينامية " العصور الاولى المحررة فى الاسلام .

وشمال افريقيا قادر على ان يلعب هذا الدور اكثر من الشرق الادنى وذلك بقدر ما نندفع بعزمة ثابتة للظفر بثقافة مزدوجة اصيلة وربما نعرقل نشوء امة

شمال افريقية عصرية ادا نحن لم نتجاوز طور ثورتنا الشرعية ضد النظام الاستعمارى لظفر بهذه الاداة التى هى الحضارة الغربية . وهكذا لا نبقى اوفياء لمعطيات تاريخنا الثقافى بل يمكن لنا ان نرقى الى اعلى قمة في تقدم الفكر الانساني وان نساهم بقسط وافر فيما سيتحقق انشاؤه غدا في جميع الميادين .

وهذه الفكرة هى نفسها التى عبر عنها الكاتب الجزائر "كاتب يس " متغاليا الى حد ما عندما اختار اللغة الفرنسية لكتابة قصصه واشعاره . ويكون من العسير ان نشك فى تعلق هذا القصاص الشاب بقيم اجداده او ان نتهمه بكرهه للعرب عندما نجده يظن العربية قاصرة ان تعبر عن ثورته وعما يجيش بنفسه من فياض الاحاسيس ودفين التوترات . اما نحن فنرى انه لم يترك العربية جانبا الا لانه واقعي لم يسعفه الحظ بتعلم اللغة العربية وبالتالى ليست له القدرة التامة على امتلاكها . وهو يرمي خاصة عندما يكتب بالفرنسية الى ان يعرفه جمهور كبير من الناس وان تجد فكرته قالبا صالحا لها وهو الى ذلك يدلى بشهادة عن الوضعية الخاصة التى عليها الجزائر اليوم . اذن يجب ان نفهمه هذا الفهم لا ان نكيل له من اللوم الوانا مستندين الى مفاهيم عاطفية اكثر منها موضوعية كما ذهب الى ذلك طه حسين . فيجب علينا ان نقبل رسالته هذه كما نقبل رسالة من سبقة ممن كتبوا باللاتينية او العربية .

ولنقف عند هذا الحد فى عرضنا لهذه الاعتبارات الخاطفة حول الاتجاه الممكن للثقافة الشمال افريقية وهو محل رجائنا ، اذ غرضنا قبل كل شئ هو حمل الناس على التفكير فى مشكل اكيد طالما أهمل وهو الشعور الجماعى بشخصيتنا المتعددة الجوانب . فيجب الا يدفعنا كرهنا للاستبداد الاستعمارى المجرم الى ان نضرب بالقيم الغربية عرض الحائط . فاذا اضفنا الى شجاعتنا المادية التى دفعت الكثير منا الى اراقة دمائهم لتهديم النظام الاستعمارى ، شجاعة معنوية مماثلة قادرة ان تطغي على شعورنا لتتلقي الدروس ولو من العدو وقادرة ان تعترف بانه تنقصنا اشياء كثيرة يجب استكمالها ؛ اذا تحقق كل ذلك امكن للمغرب ان يحقق ما يصبو اليه منذ زمان وهو حشر جميع ابنائه فى رابطة قوية يحدوها مثل اعلى يوفق بين الانسان ونفسه .

وهذه الارض التى تطاحنت فوقها الى يومنا هذا اشد الاطماع حدة واكثر الانانيات اندفاعا يمكن لها بفضل هذه التجارب الدموية المتعددة وكذلك بفضل تفكير ابنائها المتعدد الالوان ان تصبح ملتقى لتآلف الثقافات .

اشترك في نشرتنا البريدية