النقد سبيل إلى الإحسان والإجادة ، ما فى ذلك شك. ومعظم الناقدين قوم يبغون الاصلاح ، ويهدفون إلى الرقى ، ويسعون وراء الكمال ، ما فى ذلك شك ايضا . أما أن النقد يؤدى فعلا إلى الإحسان والاجادة ، وأن الناقدين يحققون الاصلاح والرقى ، ويصلون بأنفسهم وبمن ينقدونهم إلى الكمال ، فذلك موضع تساؤل وشكوك ، فقد يتحقق الأمل المرجو ، وقد يذهب النقد مع الريح ، بل إنه قد يؤدى فى بعض الأحيان إلى عكس ما قصد منه .
هناك فريق من النقاد لا ينفكون يشكون سوء الحال وانتشار العيوب ، وتزايدها يوما بعد يوم ، ويصورون كل ناحية من نواحى الحياة وقد تطرق اليها الوهن والفساد ، و كل طائفة من الطوائف وقد عمت فيها الفوضى وسادت المآخذ ، وجميع الأفراد وقد صارت أخلاقهم منحلة ، وضمائرهم ميتة ، وعوائدهم قبيحة ، ومعاملاتهم سيئة .
ينظرون إلى السياسة والسياسيين فلا يجدون منهم صالحا للبقاء ، أو جديرا بالتقدير ، وإلى العلم والعلماء فاذا هم جميعا سطحيون ، أو مدعون ، علمهم ضئيل ، أو قديم عقيم ، وأخلاقهم ضعيفة أو منحلة ، يسودهم حب النظام والنفاق ، ويملأ صدورهم الحقد والحسد ، ولا تنطوى نفوسهم إلا علي المكر السىء . واذا حدثوك عن العامل والفلاح سمعت منهم أدنأ الأوصاف وأحط الاتجاهات وأسفل النزعات .
وبالجملة لا ينتهى حديثك مع هؤلاء إلا وقد تملكك اليأس ، ولبست منظارا أسود لا ترى من خلاله أدنى
قبس ، ولا يلوح لك فيه أقل أمل . فتقول عوضنا الله خيرا فى هذه الأمة التعسة ، التى لا يرجى لها صلاح ولا يؤمل فى أبنائها خير ولا ينجع فيها علاج ، ولا يجدى فيها نصح ، ولا تنفع معها آية وسيلة من وسائل التقويم والاصلاح .
وإذا سألتهم عن سبب ذلك كله أرجعوه إلى أن هذه الأمة كانت بخير حتى بدأت تنقل عن الغرب ، فإذا هى تقتبس أسوا ما عنده ، وتنزل عن خير ما خلفه لها السلف الصالح ، من عوائد وتقاليد وأساليب ، وإذا بحسناتها الماضية تتلاشى واحدة بعد أخرى ، وسيئاتها الجديدة تتزايد وتتراكم الواحدة تلو الآخر ، وإذا بهذا التيار يسير بسرعة جارفة ، لا سبيل إلى وقفه ولا يملك هذا النوع من الناقدين الا (( لا حول ولا قوة إلا الله العلى العظيم )) .
وهناك فريق آخر من النقاد ينذر بسوء الحال ولكنه يقول : إن الأمة بخير ، وان عناصر الفلاح كلها متوافرة فيها . وانها لا تحتاج ، لكى تصل إلى أرفع المستويات ، وتضارع أرقى الأمم ، إلا إلى شىء واحد ، ألا وهو اطراح القديم من عوائد ومعتقدات وتقاليد ، وأساليب فى التفكير ومقاييس للخلق ، وهكذا . ينادون باطراح كل هذا لأنه سبب تدهورها ، وأساس علتها ، واليه يرجع كل ما يساورها من ضعف وانحلال ظاهرى أو مؤقت .
فأساليب التربية والتعليم القديمة فى نظرهم خاطئة ، ومفسدة ورجعية ، وأساليب التجارة والصناعة والزراعة بدائية وضعيفة ، وغير قابلة للتطور والتقدم . والمعتقدات والتقاليد جامدة متأخرة ، لا تتفق مع تطورات المدنية ، ولا تساير العصر الحديث ، وتبعث فى النفس كثيرا من الرضى والتسليم الذى يقتل التطلع والطموح والنزوع إلى السمو والرفعة والرقى المطرد .
ومن أجل ذلك ينادى هؤلاء النقاد بأعلى صوتهم أن لا سبيل لفلاح هذه الأمة إلا عن طريق التحرر من كل قديم والتوجه شطر الحضارة الغربية ، وتقليد الأمم المتحضرة والنقل عنها فى جميع مرافق الحياة وأساليب المعيشة وطرق المعاملة . هم يدعون إلى ضرورة اقتفاء أثر أوربا وأمريكا فى كل شىء ، في المأكل والشرب واللبس ، فى الأخلاق الشخصية ، وفى أسلوب الحياة الاجتماعية ، وفى طرق التجارة والصناعة والزراعة ، وفى المعاملات وجه عام . وبالجملة لتكن مصر قطعة من تلك البلاد الغربية إذا كانت تبغى فلاحا ورقيا . وتريد أن تتبوأ المركز اللائق بها بين الأمم المتحضرة .
فإذا قيل لهؤلاء إن لكل أمة خصائصها وطبائعها ومميزاتها ، وإن ما يلائم بعضها قد لا يلائم البعض ، وإن بالأساليب الناجحة هى التى تتفق مع طبائع هذه الأمة ، ومع اتجاهاتها النفسية وأساليبها الفكرية ، وبالجملة مع ماخصها الله به من مواهب واستعدادات . إذا قلت لهم ذلك سخروا منك و ضحكوا ، وانكروا هذا كله ، وقالوا بأن طبيعة البشر واحدة فى كل مكان وزمان ، وأن المسألة مسألة اجتهاد وسعى ورغبة ، لا مسألة استعداد أو خصائص أو تفاوت طبيعى فى القدرات.
وهكذا ترى مغالاة الفريقين ، الدعاة للقديم والدعاة للجديد ، كلاهما ينحى بالملائمة ، ويدعو بقوة إلى التطرف فى ناحيتة الخاصة التى ينحاز إليها ويدافع عنها بعنف وشدة ، وهذا الأسلوب يكاد يكون طابعا قوميا ، وأعنى به المغالاة فى تصوير العيوب والإغراق فى الانحيار إلى جانب ، والشدة والعنف فى العتب وفى الدعوة إلى الرأى الذى يرتئيه الكاتب أو الناقد ، وهذا الأسلوب كثيرا ما يثير الحفيظة والعناد ويأتى بعكس المراد .
ثم إن هذا الكلام كله يكون فى معظم الأحيان - إن لم يكن كلها - كلاما عاما عائما ، لاتصحبه آراء أو مقترحات
إنشائية وإن أجدى منها شىء كان فجا غير مدروس ، لا يستند إلى دعائم إحصائية ولا نظريات علمية . وإنما هو من قبيل الكلام الارتجالى فقط كالذى يكتبه الصبية بمدارسهم فى كراسات الإنشاء .
وهناك ناحية أخرى يشتد فهما الخلاف ، ويعنف الجدل ، وهى ناحية المسئولية عن الفساد والتدهور والانحلال فى نظر الناقدين جميعا ، فمنهم من يلقيها على الحكومات المتعاقبة ، لأنها لا تقوم بما يجب عليها ، ولا تتوخى المصلحة وحدها ، وذلك لأنها تراعى التيارات الحزبية والاعتبارات السياسية ، فيصرفها هذا وذاك إلى تنفيذ أوامر الحزب والجرى وراء مصلحته ، أو إلى تملق الجماهير ، أو إلى العمل على كسب رضى مختلف مناطق النفوذ التى كثيرا ما تتعارض ، فيستنفد ذلك كل جهدها أو معظمه ، ولا يدع لها فرصة الانصراف بكلياتها إلى الإصلاح . بل لعلها تضحى بهذا الإصلاح أحيانا فى سبيل تلك الاعتبارات السالفة الذكر .
وفريق آخر يلقى المسئولية على الشعب نفسه ، ويعتبره العقبة الأساسية والعائق المهم لجميع حركات الإصلاح ؛ فهو لجهله فى نظرهم لا يقدر النظام ولا يفهم التضحية وهما العاملان الأساسيان فى كل إصلاح ، وإنما يهتم أفراد هذا الشعب عندهم كل بمصلحته الشخصية وحدها ، وينظر دائما إلى كل حركة يراد بها الإصلاح من ناحية منفعته الذاتية ، فإذا رآها قد تأثرت أوخيل إليه ذلك ثار وهاج وأنحى على الوزارة باللائمة واتهم نياتها ، وجرح خططها ، وسرعان ما يحيط ذلك الشعب بهذه الحركات الغاشمة كل مساعى الحكومة فى سبيل الإصلاح الحقيقى .
والواقع أننا لا نرى فى مثل هذا الجدل ولا فى كل تلك المناقشات وأشباهها أدنى فائدة ، بل قد يكون فيها ضرر ومعظم هذا الضرر وأظهره يعود على سمعتنا كأمة ، أمام من
يقرءون هذه الانتقادات ويستمعون لتلك المناقشات ولعل من الخير لنا جميعا ، ولهذا الوطن الذى يحبه ، أن يكف الكتاب عن النقد اللاذع ، وعن تعمد إظهار العيوب وإشاعتها وتجسيمها ، فإن ذلك قد يزيدها تأصلا إن كانت موجودة ، أو يخلقها فى نفوس المواطنين ، عن طريق الإيحاء ، إن كانت غير موجودة ، كما أنه قد يولد عند الشباب شعورا بالضعف والعجز ، ويحول دون إشعار الشبان بشىء من الاعتزاز بقوميتهم ، متى كانوا يقرءون ليل نهار ، ويستمعون فى كل اجتماع وناد أوصافا شنيعة لا آخرلها لمعايبهم ومعايب مواطنيهم ، فيشيع فيهم ذلك نوعا من اليأس من صلاح حالهم والاشفاق على سوء مستقبل وطنهم .
وليكن سبيل المصلحين ، أو الداعين إلى الإصلاح ، أن يطلعوا علينا باقتراحاتهم العملية ، لما يصح أن يقوم به المواطنون من مشاريع ، أو ما يجب أن ينتهجه المتعلمون من خطط ، يكون من نتائجها المباشرة أو غير المباشرة ارتفاع فى المستوى الفكرى ، وتهذيب لأساليب المعاملة ، وتحسين للأخلاق ، وتسام بها ، وبالجملة تحقيق لكل ما يبتغيه دعاة الإصلاح ، دون جرح لإحساس المواطنين ودون إشعارهم بالضعة والنقص .
وحبذا لو شاعت هذه الروح أيضا فى المجتمع ، فلا يستمع الناس إلى أولئك النقاد المبالغين المتشائمين ، ولا يشجعونهم على هذا النحو البغيض من النقد اللاذع المستمر ، ويحلون مكانه نوعا آخر من الدعاية الرفيقة التي تفيض عطفا ، والتى تحمل المواطنين على تنفيذ بعض الاقتراحات العملية التى دعونا الكتاب إلى أن يتحدثوا عنها فى كتاباتهم ويستهدفونها فى نصائحهم .
وخير نصيحة تسدى لدعاة الإصلاح ، بعد أن يكفوا عن ذكر العيوب والتحدث عنها ، أن يكونوا جماعات صغيرة ، على نسق (( كتائب الخير )) التى دعا إليها من قبل الأستاذ محمد فريد أبو حديد ، لتعمل كل جماعة فى الوسط الذى تعيش فيه ، وفى محيطها وبيئتها ، على تنظيم جهود عملية فى سبيل إحداث إصلاحات محلية بالتدريج ، وعلى دفعات صغيرة بالعمل لا بالكلام . وإذا دعت الحال فى بعض الأحيان إلى بذل النصح فليكن عن طريق إظهار العطف والغض من العيوب ، وكسب من يراد نصحه بالأسلوب الرفيق الذى ينفذ إلى القلب .
بهذه الأساليب العملية ، وبإحلال العمل محل الكلام ، وبمحاولة الإصلاح الفعلى التدريجى ، فى جميع الأوساط ، حكومية وأهلية ، وبين جميع الطبقات ، متعلمة وجاهلة ، وبهذه الجهود التى تغزو جميع نواحى الحياة الاجتماعية والاقتصادية والزراعية ، وتعالج طرق معاملات الأفراد ، وتوسيع أفقهم ، وبالمحاولات الجدية فى إحياء كل تقليد قديم مثمر ، واقتباس كل جديد نافع .
بتلك الأعمال كلها وبها وحدها ، مع الكف عن النقد الكلامى ، يحق لنا أن نؤمل فى إحداث إصلاحات تدريجية شاملة ، يكون لها أعمق الأثر ، وأحسن النتائج ، ويندمج فيها جميع الأفراد على اختلاف طبقاتهم دون أن يشعروا ، ويتكاتف كلهم فى تنفيذها دون أن يتحاوروا أو يتجادلوا ، فإذا بالعيوب تتلاشى بالتدريج ، وتظهر مكانها المحامد والمحاسن ، وإذا بالألسنة تنطلق بالاستحسان ، والوجوه تفيض بالبشر ، والقلوب ترضى وتطمئن ، والله الموفق الهادى .
