أما أنا، فأنى أرى اللجاجة ليست تفيد، وما كان مثلى يبغى النغرض، وما كان مثلى يهوى التسرع، وانما صح ما توقعت ووقعت الواقعة، واذا أنا أعود فأردد مرة أخرى، ما عرفت الدكتور واضرابه من إخواننا المصريين، الا أباة على النقد، يثيرون من أجله المعارك، ويتسارعون بسببه الى الخصام والنزاع، فأنا أغتفر للشاعر حدته فى الرد، لان الشاعر أنانى بطبعه يأبى أن يسخف له الناس أثره، ويكره من يبخس شيئا من قدره، وأشكر له حسن ظنه بى، ولا أبغى تسجيل هذه الكلمة عليه، ثم أضرب صفحا عن الماضى بأجمعه، وأعيد النظر فى ينبوعه من جديد، وأؤكد له أننى قرأته مرة ثانية، وأؤكد له اننى حاولت أن أفهم، وأعوذ بالله أن أزعم ان نفسه قد حلت فى جسمى، فلست أعتقد بالحلول. ولا أزعم أن عواطفى قد اصطبغت بلون عواطفه فهذا أمر يعرف استحالته من الوجهة (البسيكولوجية) وأسأله العفو والمغفرة ان كفرت بقوله
كن أنت نفسى واقترن بعواطفى تجد المعيب لدى غير معيب
أأفرط فى أنانية الشاعر، اذ كيف يعقل أن يتشابه الناس تماما والمادة وفي الروح. وما تشابهوا، لكن الشىء الممكن الذى أستطيع القيام به، هو أننى حاولت أن أوجد التجاوب الروحى بين نفسه وبين نفسي، مع أنى لم أحاول أن أخلق مثل هذا التجاوب من قبل، فابن الرومى مثلا، لا يوجد أقل تجاوب روحى بين نفسه وبين نفسى، ولكننى معجب به لا لأنه يضرب على الوتر الحساس من قلبى، ولا لأنه يهيج دفين آلامى وأشجانى، بل لأنى أجد فى شعره فنا رائعا لا أستطيع انكاره وبخسه. ولأضرب للدكتور مثلا آخر هو فيكتور هوجو Hugo فأنا أرى
فى شعره رأيا يخالف رأيى فى ابن الرومي وربما كانت نفسه أقرب الى نفسى من نفس بودلير CR Baudelaire الذى أعجب به اعجابا شديدا.
فليس من الحتم على قارئ الشعر ألا يستسيغ الا الشعر الذى تشابهت فيه نفسه مع نفس الشاعر، فقد يحب وقد يكره، ولكن هناك الفن الشعرى، وهو الجامعة التى تؤلف بين القلوب، وتوحد بين الأفئدة، وما أظن فى الناس الا الحمقى يهزون أكتافهم إذا قرئ لهم شىء من الشعر الخالد الذى يتسم بصفات الفن الرائع، ولو كان يخالف نظرتهم وفطرتهم:
إن من عادتى يا سيدى الدكتور أن أعمد الى الأفكار التى تكون طراز تفكيرى، والمبادئ التى أستند اليها فى تقديرى، فأتناولها بين آونة وأخرى بالبحث والمراقبة والتشريح أبتر ضعيفها، وأنعش هزيلها. وأنشط قويها. قلت. . . ربما كان رأيى فى شعر أبى شادى من القبيل الضعيف. فلأعد النظر وأؤكد للدكتور اننى كنت قاسيا على نفسى حتى يرضى.
فاللهم جنبنى الشبهات، وسدد سبيلى، وحبب إلي الحق لأتبعه، ووجه روحى الى النور لأدرك كنه صفحات الحياة التى تلوح لعينى كروح فى ثوب صفيق من المادة. فاذا أبصرت بها واستهوتنى اندفعت بكل ما فى نفسى من جموح، لادرك سر تلك الروح.
الشعر مادة وروح، وشعر أبى شادى كذلك. فما هى المادة التى تتمثل فى شعره؟ لا شك أنها اللغة، واللغة كما أعلم وتعلم هى الأداة المادية التى تشرح دخيلة الروح. ومع أن الدكتور قد جزم بأنى لست ممن يصلحون لنقد لغة شعره وقد استحسنها من قبل أسياد كمصطفى جواد وغيره.!! فأنا أسير من حيث بدأت، فليست القضية قضية نحو وصرف وبيان وبديع، بل قضية ذوق شعرى ولغة شعرية. وإذا شئت فقل قضية فنية بحتة، ويحسن بأولئك المدرسيين classiqwe أن يتركوا الساحة قليلا، ويريحوا الناس من الاعراب والبناء التقدير، فهذا أمر تافه يدركه صبية المدارس، وقد أفنى الأقدمون فيه كثيرا من الوقت والجهد، وقد جاء هؤلاء فى آخر القافلة
أقع بنظرى على قصيدته التى أراد أني يفحمنى بها، والتى أراد أن يبهر بها الناس فاقرأ:
نرى فى البر الوان التناجى وفى البحر المشارف والعميق
أو قوله:
كأن الحسن ذاب بكل لون نراه وفى المياه وفى الطريق
اللهم أين كافر بالشعر إن كان هذا من الشعر، وكافر بأقوال مطران ان كان قد استحسن هذا القول مطران، وكافر بالأدب ان كان فى رجال الأدب من يستسيغ هذا ويعجب به
أؤكد للدكتور أنى غير موفق فى انتقاء ما ينتقد. لكننى استعرض هذا وأمثاله. وقد يرى فيه مصطفى جواد أو غير مصطفى جواد منتهى الاجادة والبلاغة: أما أنا، أنا الشاك الذى بم يتكامل التجاوب الروحى بين نفسه وبين نفس أبى شادى، أنا الذى أسجل خطرات تشمئز منها نفس أبى شادى، ما أزال أرى يا للأسف فى هذا الشعر وأضرابه ضعفا شديدا. أرى فيه لغة صحفية ليست لغة فن ولا شعر، أرى الاعياء الذى ما بعده اعياء فى التصوير والتعبير! وتبدو لعيني فكرتى التى بسطتها عن لغة الشرع التى أقول فيها. انا افهم ان الشعر هو التعبير الراقى عن احساسات النفس، (وما كل احساس يصلح ان يكون شعرا بل الاحسان العلوى أقصد).
وعلى هذا الشكل فهم العرب الشعر. فقالوا عن القرآن اذ سمعوه أنه شعر.
ان فى اللغة الشعرية سحرا وروعة وفنونا وموسيقى ونغمات صوتية Consonance تراها فى شعر امرئ القيس كقوله:
مكر مفر مدبر معا كجلمود صخر حطه السيل من عل
وتراها فى شعر عنترة، أو عمرو بن كلثوم، وفى الشعر الغربى ما أكثرها فى شعر (ادكار بو Edgar poe ) أو فى شعر (بودلير Ch. Baudeiaire ) أوشعر (فاليرى Valery ) وما كل كلام مفهوم بشعر، ولا يكفى الشاعر اأن يميز بين المنصوب والمرفوع، وليس يكفى ان يعرف الشاعر البحر البسيط أو الطويل أو الرجز، كل هذه قشور لابد منها ولا اهمية كبرى لها لبساطتها، إاما بيت القصيد فى تلك الروعة وذلك السحر، او فى توقيع الموسيقى، وفى تلاؤم تلك النغمات الصوتية، وما فى شعر أبى شادى شى من هذا. . . . لغة الجرائد يا دكتور تعبر عن كثير من الآراء الصائبة والاخيلة الرائعة، ولكنها تفعل فعلها فى وقتها ثم تنطوى تحت
ذيل الزمن وتموت، وما كان للشعر ان يكون مثلها، إنك لا تستطيع أن ترى فى لغة الصحف روعة وسحرا إلا نادرا أو إنك لا تزعم أن فيها فنا أخاذا. أما شعرك يا دكتور فهو شعر عربى كلماته صحفى فى فنه وتعبيره، كانى بك تذكر حكاية ذلك الاعرابى الذى دخل إحدى الحواضر فسمع أهلها يتكلمون فما فهم شيئا. انهم يقولون كلاما عربيا ما فى ذلك شك. لكن أسلوب التعبير غير عربى، وكلامك يا دكتور فى شعرك لا يصطدم مع الفاعل ونائبه والصفة والتشبيه الا نادرا، وجل من لا يسهو، عربى فى الفاظه مفهوم فى عسر أو فى يسر، لكن أين الفن الراقى فى التعبير فى مثل قولك؟
هذه الدنيا لاحلام الاديب هذه غايات آمال الأريب؟
أظن أن صاحب الملل والنحل لو امتد به الأجل ما قال قولته المشهورة (هذا شىء لا يعجز عنه انسان) الا فى شعر يشابه شعرك. لا عجب يا صاحبى هذا شان البحر، فالبحر لا يقذف بالدر دائما، ولكنه يقذف بالزبد فى كل حركة، والانتاج الفنى الذى هو التعبير الراقى عن احساسات النفس لا يأتى عفو الخاطر، فاذا تحدثت الى سيدى الشاعر عن اللغة أفلا يجدر بى أن أحدثه عن روح الشعر وعن المناسبة الشعرية. وعن الظروف التى تستدعى قرض الشعر.
لا أكتمك يا دكتور انى ممن يلقون بنفسهم بينكم معشر الشعراء، فى المتن أو فى الهامش، لا أدرى، لكني من جماعتكم على كل حال شئتم أو أبيتم، وما أكثر أمثالى بين الشعراء، يكاد أحدهم يبعد عن محراق الفلك الشعرى زهاء مائة كيلومتر، ويزعم بعد ذلك أنه من كبار الشعراء. أعذرنى فانا أنانى مثلك، وانا عندما أحدثك عن أنانيتى يجدر بى أن أشرح لك شيئا من ذات نفسى كشاعر لا كنا قد. . . الموضوعات التى تستدعينى الى النظم كثيرة يا دكتور، ونفسى دائمة الاضطراب والجموح.
دائمة الحركة والثورة، هى متمردة متقلبة، ترى فى كل ساعة موضوعات للكتابة، لكننى أكبح جماحها. أحول هذا الشعور الحاد الى اللاشعور ليتم نضجه، فاذا فرغت منه انصرفت الى غيره، ففعلت به ما فعلت بالأول، وانا بين هذا وذاك أمزج بين الشعور الهادئ المتزن وبين الشعور الحاد الجامح ثم اكتب. وبعد أن أنهى عملى ادفعه واهمله، واشعر ان عبئا قد ازيح عن كاهلى، أقبره لانه لم ينضج،
تمر عليه أيام كثيرة أتناوله فيها بالتبديل والتغيير والمسخ، او بالتهذيب والترتيب والتنسيق، ولعلى ما اتممت شيئا حتى الآن، فترضى عنه نفسى، وكيف أشرح نفسى للناس، وهم اجهل من ان يفهموها على وجهها، وكيف أبرز للناس وما انا ممن يستطيعون التعبير عن مصائبهم وآلامهم وثورتهم، حسبى أننى لم أعرض شعورى فكيف اعبر عن مشاعر الناس، انهم يطلبون رعدا وبرقا، وهم على حق فيما يطلبون، فهناك وطن يقتسم، وهناك بلاد يحتلها العدو والغريب، وهناك شرف صار الى الرغام، وهناك مجد قد أفل، وهناك مجد الأمس وبؤس اليوم، وتاج الاجداد، وقبر الاحفاد، وحق للشاعر ان يرعد ويبرق، وأن يدفع الغمام الساجى المدلهم ليمطر، أما انا فانى سائر فى طريقى، وأرجوا أن أصل الى ما اصبو اليه، سأرعد وسأبرق، وسأنفخ فى الرمم وسأصيح بالموتى ولكن. . . ليس الآن، عندما تهدأ نفسى من جنون الشباب، عندما يأخذ قلبى فى النظر العام الشامل، ففى ذلك الوقت استطيع أن ارضى نفسى وأرضى غيرى، أما الآن فلا. وإن الجمهور ليطلب الى الشاعر بكاء ونواحا، ويحمد الله الذى لا يحمد على مكروه سواه ما أكثر شعراء البكاء فى بلادنا، أما أنا فلم يبق فى عينى دمع انضح به شهوات الناس. انى غدوت كشبح متحرك يراه الناس فيحسبون فيه القوة والجبروت، وأبصره أنا على وجه لا يرونه به. ماذا تبقى يا صاحبى، اننى أرى الناس، بل كثيرة الشعراء فى واد، وأنا فى واد، إنهم يتكلمون عن السماء وانا اتكلم عن الارض، انهم يتكلمون على العالم باسره، وانا لا اتكلم الا عن (حديقتى) . فاذا شعرت بهذا انصرفت الى ألغازى التى حبرتها، وأوهامي التى نسجتها وصبغتها بألوان الجمال والقوة والحكمة، فتعيننى فى بلواى، بل كيف اقذف بها الى الناس. وهيهات أن تلذ الناس، ما انا طامح فى رضاهم، ولا انا خائف من شرهم، خير لى أن أعيش فى حديقتى، أبذر وأقبر وأنتج واقتل، حتى لا تستطيع اليد قتلا، وحتى تضعف اليد عن حفر القبور.
أرأيت يا دكتور كيف أبعد عن الغرض الذى اسعى اليه، بل أرأيت كيف أسرف الشطط. فقد أرهقتك وأرهقت القراء بهذر من القول لا طائل تحته، وانما هى أقوال تلوح لذهنى فاعلق بها على الرؤى التى تلوح لعينى، ما كان أجدرنى يا دكتور الا اكتب ولا اثير حفيظتك والا اضطر نفسى الى الجواب، ربما كنت بعيدا
كل البعد عن مذهبى فى الشعر، فأنت تنحو فى شعرك ناحية تسميها انسانية عالمية، وانا أرى أن الحياة قبل التفلسف، وعلينا أن نعمل للسير قبل الكمال، وأن نعمل للحياة قبل الجمال، وأن نعمل للحركة قبل الفن - ان صح أن هناك فنا - وأن على الشعراء واجبا نحو وطنهم وأمتهم، بل إن عليهم واجبا نحو أنفسهم، ماذا تستطيع النفس المقيدة الملجمة أن تنتج، ربما فهمت قولى يا دكتور واولته على انى معك على مذهبك. كلا: فانا لا ارى الشعر كتاريخ لنفس الانسان: إننى ارى ان الشعر لا يرسم الا الخطوط الأساسية من نفس الانسانية جمعاء، وبقية الفنون والعلوم تلبس هذه الخطوط أثوابا فضفاضة من المادة والروح.
إننى استغفر الله يا دكتور، فما أردت سوءا، وما كنت مغرضا ولا ناقما، لكننى من خدام الحقيقة. اريد أن اقبس من نورها ولو نالنى من الناس ما اكره، أنا لا أريد أن أبنى لنفسى ذكرا على أشلاء الناس، ولكنى أبحث عن ضالتى المنشودة
على اننى شاكر لك أن اتحت لى الانطلاق من جمود مميت، ومن حيرة قتالة كنت أعيش فى ظلامهما.
اننى اتسلى لا اكثر ولا اقل، اننى أثير الغبار وسنرى وما ينجلى تحت الغبار.
حلب
