الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 454الرجوع إلى "الثقافة"

حول حكومة السودان

Share

أن أتكلم عن السودان بالطريقة التي يتكلم كل الناس بها فلست في هذه الكلمة قاصدا إلي أي معني سياسي فيما يتصل بعلاقة السودان بمصر ، أو ما ينبغي ان تكون عليه تلك العلاقة .

كل ما اقصد ان أشير إليه في هذه الكلمة هو الحكم القائم في السودان ، ومقدار صلاحيته لهذا العصر الحديث. قد تصورت نفسي سودانيا أعيش في الخرطوم مثلا أو في جويا ، ثم كددت خيالي في تصور حالي مع هذه الحكومة القائمة اليوم في السودان ، ثم سالت نفسي: ماذا كنت أفعل لو كنت حقا كما تصورت ؟ والجواب الذي أجبت به على هذا السؤال هو اني كنت بغير شك أبادر بالهروب من هناك لكي أقيم في أي قطر آخر . كنت اهرب مثلا إلى الحبشة ، أو إلى اليمن ، أو اذهب لأؤدي فريضة الحج ، ثم أجاور هناك ، ولا أعود إلى بلاد . او كنت اذهب إلي مصر لكي اضم صرف إلى صوت الذين ينادون بوحدة وادي النيل.

والسبب في كل هذه ( الشحططة ) أن الحكم في السودان لا يطاق   تصور بلدا يحكمه  حاكم عام يستطيع أن يأمر  وينهي بغير معقب ولا مراجع ، تصور حاكما له أن يصدر القوانين بجرة قلم تصور بلدا يعيش تحت هذا الحاكم في ظل حكم عرفي مستمر مضي عليه إلى الآن نحو نصف قرن . تصور حاكما يأتي من اقصى اطراف الأرض لا يعرف البلاد ، ولا لغتها ، ولا عادتها ، ولا عرفها، ولا يشعر نحوها بأي ارتباط سوى ارتباط السيادة ، ثم تكون له السلطة التي لا تعدلها في العالم اليوم أية سلطة في أي بلد من بلاد الله .

لقد زالت سلطة القياصرة والجبابرة ، ولم يبق على الأرض طالوت ولا طاغوت . وأصبح الناس يخجلون من

ذكر اسم الاستبداد في الأحكام ، ومع ذلك فالسودان يحكمة حاكم واحد يجمع في بدء من السلطة ما لم تجتمع يوما ما عند قيصر الروسيا ، ولا سلطان تركيا ، ولا المك البريوني ، ولا الإمبراطور الصيني .

فلو شاء حاكم السودان أن يجعل الشرق غربا ، أو ان يجعل الغرب شرقا ، ولو شاء ان يحيل الأبيض أسود ، أو يرد الأسود ابيض ، ولو شاء أن يفتح المغاليق ، أو يغلق المفاتيح ، أو أن يجمع الشتات ، أو يشتت الجماعات ، لما كلفه ذلك مشقة أكبر من أن يأخذ القلم في يمينه ، ثم بخط " على قرطاس يطلع به على الناس امرا واجب الطاعة تحت أسنة الجراب الخاضعة للحكم العرفي .

هذا حكم ينبغي أن يقوم في القرن العشرين ؟

حكم عرف مستمر في يد رجل واحد له أن ينقض أو أن يبرم . وله أن يحلل وله أن يحرم . إن ذلك الحاكم والله لو كان أحكم الحكماء وأنبغ النبغاء ، لما أمن أن يكون حكمه معرة القرن العشرين ! هذه خصلة أولى .

والخصلة الثانية لحكم السودان الحالي انه قد عزل تلك البلاد عزلا تاما عن العالم - لا عن مصر وحدها - فهو بحكم السياسة التي انبعت فيه من أول الأمر قد بقي قصة من وسط افريقيا ، قد عزل عن العالم كله كما عزل عن مصر ، حتى لقد صار السفر إليه يحتاج إلى تصريح هو اصعب مثال من الباسبور الذي يستخرج للسفر إلى بلاد الفروع أو كندا في أبعد اطراف الأرض . وقد تمت هذه العولة بقطع الصلة بين مصر وبين السودان عند أسوان فالمسافر إلى السودان يقضي ثلاثة أيام بين سفر بالباخرة وسفر بالسكة الحديدية ، ثم لا بد له من أن يضمن وجود المكان في الباخرة ، وفي قطار السلكة الحديدية . وقد ادي ذلك إلي أن حرم السودان من كل تعاون مع أبناء الشعوب الأخري ، فلا يستفيد بالشروعات العمرانية ، ولا برؤوس الأموال ، ولا بالجهود التى كان

يمكن ان يبذلها الأجانب او المصريون فيه . ولحكومة السودان في ذلك حجة مضحكة ، وهي انهم يريدون حفظ السودان من الاستغلال الأجنبي ! ولكن الحكومة السودانية لا تعد الإنجليز ولا الشركات الإنجليزية من الأجانب ، فهي تحفظ لهم السودان ليقمدوا فيه كما يقمد الكلب في اللذود ، لا هو يأكل التبن ولا يسمح للثور ان يأكل منه.

ومن العجيب أن أهل السودان أنفسهم يدخلون في دائرة المنوعين من الاستغلال!

هذه العزلة العجيبة جعلت السودان اليوم من حيث العمران والإنتاج باقيا علي ما كان عليه في أيام المهدية تقريبا . اللهم إلا بفرق واحد ، وهو السماح لبعض الشركات الإنجليزية باحتكار الزراعة والتجارة احتكارا يكاد يكون تاما . ولم يستفد السودان بشيء من جهود تلك الشركات الاحتكارية ، تشهد بذلك ميزانيته التي لا تزال إلي اليوم دون عشرة ملايين .

ولو شئنا أن نطيل الحديث في هذه الخصلة الثانية السكان مجال القول متسعا ، وحسبنا ان نشير إلى أن سياسة العزلة التي اتبعتها حكومة السودان تنافي كل فكره ، اقتصادية وكل فكرة عمرانية في الوقت الحاضر.

والخصلة الثالثة هي قيام حكومة السودان برقابة عجيبة تتضاءل إلى جانبها رقابة حكومة هتلر أو حكومة السوفيات مع وجود فارق كبير بين رقابة هتلر والسوفيات وبين رقابة حكومة السودان ، فان الرقابة الاولى تراعي مساحة الشعب الذي تحت سلطانها : في حين ان الرقاية التي تفرضها حكومة السودان لا يقصد بها خير للشعب السودانى ولتفسير ذلك نضرب مثلا صغيرا : شاب سودانى يجب أن يكون دكتورا . فلا تسمح له الحكومة أن يكون دكتورا ، بل تحتم عليه أن يكون موظفا كتابيا بحجة انها في غير حاجة إلي دكاترة ؟

وشاب آخر يريد ان يكون محاميا ، فتقول له الحكومة إن لديها من المحامين عددا كافيا فلا محل لزيادته وشاب ثالث تعلم الطب في مصر مثلا ، أو في انجلترة ، ويريد ان يفتتح عيادة في أم درمان . فتري حكومة السودان أن أم درمان ليست في حاجة إليه ، فإذا شاء أن يذهب إلي واد مدني كان بها ، وإلا فليذهب إلي قطر آخر .

هذا هو مثل من نوع الرقابة التي تفرضها حكومة السودان على أهل ذلك القطر ، كأن الله قد وهب لتلك الحكومة كل حكمته وفوضها في تقدير مصاير خلقه ، فهي تصرف شئون كل فرد كما تصرف شئون السياسة السودانية كيف تشاء.

وهذا نوع من القسر والتنظيم يمقته العالم اليوم ، وتمقته انجلترة نفسها بنوع خاص ، حتى مع توافر حسن النية ، فما بالنا بحكومة السودان ، وسياستها تقوم على اساس أنها وصية علي شعب يجب ان يسخر تحت وصايتها ، لا لمصلحته هو ، ولكن لمصلحة الإمبراطورية البريطانية ؟ إن هذا النوع من الحكم ينطوي على أنانية متطرفة ، واستغلال فادح ، وسوء ظن بالغ ، وقد أصبح اليوم غير مناسب بأية حال للحياة في منتصف القرن العشرين .

هذه الخصال الثلاث في حد ذاتها تجعل الحكم القائم في السودان حكما فاسدا واجب الزوال ، بقطع النظر عن حق والسودان في الاستقلال والاتحاد ، وبقطع النظر عن كل هذه المناقشات الدائرة حول مستقبل السودان وإنا إذ نتناول هذا الحكم بالنقد لا تقصد مطلقا أن نصل بين النظام القائم وبين المسألة العامة للعلاقة الطبيعية بين مصر والسودان ؛ فسواء كان السودان جزءا من مصر ، أركان إقليما له حكومة خاصة به ، فان هذا الحكم القائم في ذاته محكوم عليه بالفشل ، وهو في كل الأحوال وصمة في جبين نظم الحكم في الوقت الحاضر .

اشترك في نشرتنا البريدية