عاد أخي الأستاذ توفيق الحكيم إلى الرد على ، وكان في هذه المرة منصفا في تحديد موضوع النزاع ، قويا في عرض وجهة نظره ، والتدليل عليها ؛ ولكن - مع هذا - أراني مخالفا له في كثير مما عرض
وخلاصة رأيه " أن الفنان فوق المصلح ، والأدب الأوروبي بلغ مبلغه بقيمته الفنية ومزاياه الأدبية ، لا بفضل نزوله في معترك الحركات الإصلاحية ، وأن الفنان إذا كان فنانا ومصلحا خلد فنه ، ومات إصلاحه ، بل ربما هزأ النقاد بآرائه السياسية والاجتماعية " . وأخذ على ما أذهب إليه من تقليل قيمة الأدب الذي يدور حول النزعات الغرامية ، والحب العارم ، وأبان أن هذا خطأ ؛ فكم طرحت ومزقت كتب للمصلحين ، وخلدت قصة غرام وقصيدة غزل " كروميو وجولييت " و " غادة الكاميليا" ، إلخ
إني أوافقك تمام الموافقة على أن الأدب أخلد من العلم ، ومن النظريات السياسية والاجتماعية ، فإلياذة هوميروس بقيت لها قيمتها ، وذهب العلم الذي كان بجانبها ؛ وقصائد المتنبي خلدت والعلم الذي كان يعاصرها لم يعد صالحا لشيء إلا لتأريخ العلم . والعلة في هذا أن الأدب متصل بالعاطفة، والعواطف بطيئة التغير ، ونزعاتها الأساسية باقية على حالها كما هي ؛ اما العقل ففي تغير مستمر ورقي مستمر ، فما يصلح له أمس لا يصلح له اليوم ، وما يصلح له اليوم لا يصلح له غدا ؛ ولكن ألا تري معي أن مقياس الأفضلية بطول الزمن مقياس غير صحيح ؟ ! ومثل من يفعل ذلك مثل من يفضل حياة الحيوان الباقية المستمرة على حياة الإنسان المتغيرة أبدا ، ويفضل الحجر الصوان الخالد علي الإنسان المائت ؟! إن طول الزمن
ليس مقياسا صحيحا في المفاضلة بين الأشياء ، فقد تكون دقائق معدودة مليئة بالسعادة خيرا من عمر طويل مديد لا قيمة له ؛ وبقاء العواطف على حالها هي التي ترمينا بويلات الحرب إلي الآن ، ورقي العقل هو الذي يدعو إلي إبطال الحروب فلا تستجيب له العواطف العنيدة الراكدة . على أني أخالفات في أن العلم القديم قد ذهب ، والنظريات السياسية والاجتماعية في العصور الماضية فنيت ؛ إنها لم تفن بل هي خالدة خلود الأدب ، ولكنها خالدة فيما ولدته من نظريات جديدة ، وباقية في هيكل الإنسانية كما بقي آدم في ذريته .
وبعد ، ألا ترانا بعدنا عن موضوعنا إذ نقارن بين الفن والإصلاح ، فليس هذا هو موضوع كلامي ، وإنما موضوع كلامي المقارنة بين فن في إصلاح وفن في إفساد ؛ فالفن لم يفارق كلامي . وإذا كان الأدب -على العموم - باقيا خالدا ، فلأن يخلد الأدب المصلح خير من أن يخلد الأدب المفسد .
أما مسألة النزعات الغرامية ، والحب العارم ، وأنها كانت مصدرا لأعلى طبقات الفن ، وأن روميو وجوليت " خلدت حيث فني غيرها من أدب يدعو إلي الفضيلة ، وأن غادة الكاميليا لدوماس الصغير عاشت على الزمن حيث ماتت أكثر رواياته الأخري التي عالج فيها موضوعات اجتماعية كلها جد وحسن قصد ، فرأيي فيها ما قلت ، من أن الغرام والحب صالح كل الصلاحية ليكون موضوعا لفن عظيم ، واستشهدت لذلك بفن أبى نواس في الأدب العربي ، وقررت أننا حين نقيس النتاج الأدبي بالمقياس الفني البحت يجب ألا نميز بين موضوع يدعو إلي الفضيلة وموضوع يدعو إلي الرذيلة ، ولكني أضفت إلي ذلك أنه إذا تساوي في الفن موضوع أخلاقي وموضوع غير أخلاقي ، فالأول أولى ، ويجب أن يكون أولى.
إن الأدب يجب أن يكون صورة للنزعات كلها ، السامية منها والوضيعة ؛ أما أن يكون كله أو أكثره ، تصويرا للعلاقات الجنسية ففقر في الأدب ، وضيق في الأفق ؛ إن هذه الكثرة المفرطة في أدب العلاقات الجنسية راجع إلي استنادها على عنصر غريزي يحرك العواطف ، ويشعر فيه الكاتب مع القارئ بالتجاوب ؛ ولكن هل هذا كل شىء في الدنيا ؟ إني لأعذر في هذا من يؤلفون للمسرح أو للسينما ، لأن غرضهم الأول الناحية التجارية ، وتعويض ما أنفقوا على الإخراج ، والحرص على ربح يعوض جهودهم ، ولذلك يختارون العلاقات الجنسية موضوعهم لأنها أكثر استدعاء للجماهير ، وأكثر نداء للغريزة المشتركة ؛ ولكني لا أعذر الكاتب النبيل ذا الغرض السامي في أن يجعل سلعته من هذا النوع المألوف الكثير في السوق ، ولا ينتج سلعته غالية سامية قليلة في الأسواق. كم في الإنسان من عواطف مختلفة ، وكم فيه من مناح عقلية ، وكم في المجتمع من مظاهر تستلفت نظر الفنان ، أيصح مع كل هذا أن يكون أكثر من تسعين في المائة من النتاج الأدبي مقصورا علي الحب ، ثم تقول لي إن نتاجه أخلد ؟! إنما خلده دون سواه تفاهة الإنسان وسوء تقويمه ، وميل الأدباء إلي مراعاة سواد الناس الذين ليست عقولهم في رؤوسهم ، ولكن في شهواتهم ، إن الأدباء بهذا الصنيع يسيرون خلف الناس ، لا يهدون الناس ؛ إنهم بإهمالهم نواحي العقل والعواطف السامية ، وانهماكهم في العلاقات الجنسية ، بصرفون الدينار بالدرهم ، إنهم يعيشون مع سواد الناس في ظلام الهوي لا في ضوء العقل ، إنهم يقدمون فنهم لخدمة الشهوة والناس يصفقون لهم طويلا فيسمون هذا خلودا . لخير من هذا كله أديب يسمو بالناس ، وبرجمهم إن لم يسمعوا فيرجمونه ويحرقون صحائفه ، ولا يذكرون اسمه إلا باللعنة ، فلعنة الأرض - إذن - بقابلها هتاف في السماء. إن الأديب في إنتاجه في الحياة الجنسية يستغل هياج العاطفة ،
ويعتمد على ذلك في حرارة أدبه ، ويكره أن يسخر فنه في مناحي العقل والاجتماع لأنها هادئة لا ثوران فيها ، باردة تحتاج إلى حرارة قوية من الكاتب ، ومهارة كبيرة في الفن ؛ فهو يسترخص العاطفة الهائجة ، لأنها لا تتطلب منه كبير جهد ، ولا عظمة فن ، ويستريح إلى بساطة العاطفة لان العقل معقد ، وظواهر المجتمع مرتبكة ، فهو يستنيم إلى الراحة ، ويميل إلي الشهرة في سواد الناس .
إن أدب الأمة الحق ما صور الأمة وصور الحياة في مختلف نواحيها ، وكما أن الحياة الحقة ما انسجمت فيها نواحيها ، فكذلك الأدب الحق ما انسجم إنتاجه ؛ فإذا كان أدب أمة واسعا عريضا في الحب والعلاقة الجنسية ، ضيقا كزا فيما عداه ، فهو صورة مشوهة لا تمثل الواقع . - إن حياة الناس درجات ، وعقلياتهم درجات وعواطفهم درجات ، فيحب أن يمثل الأدب هذه الدرجات ويكون في الأدب الرفيع للرفيع ، والوسط للوسط ، والوضيع للوضيع ؛ أما أن يكون الأدب كله في العلاقة الجنسية فتنكيس للإنسانية ، وضرب على وتر واحد في عود ذي أوتار
إنكم تقررون أن كل شىء صالح لأن يكون موضوع أدب إذا رددتم على من يطالبكم بناحية في الأدب جديدة ، ثم إذا أخرجتم أدبا لم تخرجوه في كل موضوع ، ولكن في موضوع واحد هو الحب والغرام ، فدعواكم في ناحية وعملكم في ناحية !
وظيفة الأدب الحقة أن يغني نواحي الإنسانية ، ويرقي مشاعرها ، ويعلي من مداركها ، ويوسع أفقها ؛ بأن يبعث في القارئ تفكيرا قويما ، يشعره بجمال لم يكن يلتفت إليه ، أو يحرك شفقته وعطفه على رجل بائس أو أمة بائسة ، أو يلقي نورا على ظلمة ، أو يحيى مواتا ، أو نحو ذلك ؛ أما إذا هو استخرج منك الضحك على بائس لبؤسه ، أو حملك على التهكم على مصلح
لإصلاحه ، أو هيج فيك مشاعرك الجنسية ، فليس بالأدب الراقي - وإن كنت لا أنكر فنيته - مهما كتب له من الخلود فخلوده خلود إبليس .
لعل نقطة الخلاف الحقيقية بين الأستاذ توفيق الحكيم وبيني ، هو أنه يريد أن يقدر الفن بجماله فقط ، وأريد أن أقدره بجماله وأخلاقيته معا ، فالقطعة الأدبية في نظره مهما بلغت من الفحش ، ومن سوء الأثر ، ومن تدهور المجتمع ، تقدر بجمالها فقط . وأريد أن أقدرها بجمالها وأثرها في المجتمع ؛ هو يحكم على قصيدة في الوطنية وقصيدة في الخيانة حكما واحدا إذا استويا في الفن ، وأنا أفضل الأولي ، لأنها جمعت إلي الفن السمو الخلقي ؛ هو لا يهمه في المرأة الجميلة أن تكون عفيفة أو فاجرة ، وأنا أري أن في العفة جمالا من نوع آخر يزيد جدا في قيمتها ؛ هو يقدر القطعة الفنية بمقياسه الفني لا غير ، لا دخل فيها للغاية التي ترمي إليها أو الأثر الذي ينتج عنها ، فتغزل أبي نواس في الغلمان يساوي غزل المجنون في ليلي ، وغزل أبي نواس الداعر يساوي غزل المجنون العفيف ، فإن تمايزا فبمقدار ما في كل منهما من فن ؛ وأنا أري أن في الغزل الفاجر الفني قبحا - أشعر به في موضوعه - يقلل شيئا من قيمته ، وغزل المجنون العفيف قد جمع إلي جماله الفني جمال العفة يزيد شيئا في قيمته ، وبذلك أدخل عاملا آخر بجانب المقياس الفني هو مقياس الغاية والأثر والنتيجة ؛ أنت تريده جمالا وكفى ، وأنا أريده جالا نافعا ، ومع هذا لا أبخس الفن قدره حيث كان
وقلت : " لا ينبغي أن نملى على الفن اتجاها بعينه ، ولا يجوز لنا أن نوصيه بارتداء لباس الحكمة الرزينة أو رداء الإصلاح الوقور ، إلا أن يشاء هو ويرضى " .
وهذا حق - إلي حد ما - ولم أرد فيما قلت أن أرسم منهجا للأدب أحمل الأدباء على السير فيه ، ولو أردت ما استطعت ؛ ولكني صورت ما أتوقع ، وقلت إن ظروف الحياة الاجتماعية للأمم العربية ستتمخض عن أدباء
يشعرون بمآسيها ، ويدركون آمالها ، فيهيج شعورهم ، ويخرجون أدبا اجتماعيا ، يحدو لهم . إن الظروف الاجتماعية تؤثر في الأدب وتتأثر به ، فلما وجدت النزعة الوطنية في السنين الأخيرة رأينا أمثال شوقي وحافظ يتغنون بالوطنية ويخرجون أدبا وطنيا ؛ وهذه الحرب لما قامت في أوروبا وأمريكا كان الإنتاج الأدبي فيهما تفوح منه رائحة الحرب وتنشد المثل الأعلى للسلم . فأنا أتنبأ بما سيكون لا أرسم منهجا لما سيكون ، وشتان بينهما . وأنت خبير بأثر النقد الأدبى في توجيه الأدب ، فكلما خطا الأدب خطوة سار وراءه النقد يحبذه أحيانا ويعيبه أحيانا؛ وكم أفاد النقد الأوروبي أدباء عرفوا به عيوبهم ومزاياهم ، فأصلحوا من عيوبهم واستكثروا من مزاياهم ، وتوجهوا في أدبهم كما أبان لهم نقادهم ، فإذا رفع النقاد صوتهم بنقد الأدب العربي وأبانوا مزاياه وعيوبه ، وعرضوا للإنتاج الأدبى ، وعابوا عليه إفراطه في الإنتاج في العلاقات الجنسية وتفريطه في الشؤون الاجتماعية ، فلم لا يكون نقدك ونقدي ونقد زملائنا ظرفا قويا من ظروف الحياة الاجتماعية المؤثرة في الأدب ، وهذا لا يسلب الأديب حريته ولكن بوجه اختياره ، كموقفنا جميعا في الجبر والاختيار
بقيت مسألة هامة نقدني بها الأستاذ العقاد ، ووافقه عليها الأستاذ الحكيم ، إذ قال الأستاذ العقاد: "إن وجهة الأدب والأخلاق والشريعة جميعا إنما تتقدم من الاجتماعية إلى الفردية " لا من الفردية إلى الاجتماعية ؛ وقال الأستاذ الحكيم : " إن الوعي الفردي هو روح الفن ، والفردية هي عنوان الكرامة الإنسانية ، هي شعور الإنسان بقيمة فكره وإحساسه ، لا بفكر الجماعة وإحساسها" ويرميان بذلك إلى نقد ما قلته من : أن تطور الأمم العربية وأخذها في سبيل الرقي سيشيع فيها الوعي الاجتماعي ، بعد أن كانت لا تعي إلا وعيا فرديا ، وسيتبع ذلك أن الأدب العربي سيكون منه أدب اجتماعي بجانب أدبه الفردي
ومجال القول في هذا الموضوع فسيح ، ولفظ الفردية والاجتماعية يطلق على معان كثيرة ينشأ بسببها الخلاف بين الكتاب الإفرنج والعرب على السواء ؛ فالفردية التي عنيتها في مقالي السابق هي الأنانية أو الأثرة ، والاجتماعية هي الغيرية أو الإيثار ، ولاشك أن الأستاذين معي بعد هذا التحديد في أن الرقي الأخلافي والاجتماعي سائر نحو الاجتماعية لا الفردية ، فمن أسباب رقي الغربيين على الشرقيين وعيهم الاجتماعي ، أو بعبارة أخري شعورهم بوطنهم وأمتهم بجانب شعورهم بشخصهم ، ومن هذا الوعي نظمت الجمعيات والنقابات ، وبذلت الدماء في الحروب دفاعا عن الوطن ، وكثرت تضحيات الأفراد لوطنهم وأمتهم ؛ وهذا التقدم الطبيعي من الفردية إلي الاجتماعية واضح جلي ، مظهره حياة الفرد نفسه ، فالطفل أناني مفرط في الأنانية ، فإذا نما ونضج بعض الشىء بدأ يشعر بأسرته ، ثم بدأ يشعر بمجتمعه ، ويفهم أن له حقوقا وواجبات ؛ فإذا قلت إن الأمم العربية سائرة في رقيها إلي الوعي الاجتماعي ، وأن ذلك سينعكس علي أدبها فهذا ما أعني ، ولا أظن الأستاذين يخالفان فيه ، بل إن الوعي الاجتماعي سائر إلي اجتماعية أسمى وأرقي ، وهي الوعي الاجتماعي بالأخوة الإنسانية بدل الوعي بالوطنية والقومية . على أن الفردية قد تطلق أيضا على نوع النظام الحكومي الذي يتمتع فيه الفرد بحريته وملكيته وتجارته ، وما إلي ذلك ، من غير أن تتدخل الحكومة في شأنه إلا عند الضرورة القصوى ، وضده الاجتماعية أو الإشتراكية ، وفي هذا المعنى أيضا أخالف الأستاذين ، وأزعم أن العالم سائر إلي الاشتراكية على نحو ما ؛ ومصداق ذلك أن أعظم الأمم الفردية كإنجلترا أو أمريكا تصطبغ نظمها من حين لآخر بما يقربها من الاشتراكية ، فتتدخل في تنظيم الاقتصاد ، وتأخذ من الغني لتعطي الفقير ، وما مشروع بيفردج وأمثاله ، ونمو الأحزاب الاشتراكية فيهما ، إلا دليل علي ما أقول ؛ بل العالم العربي نفسه - وفيه مصر - بدأ يظهر
فيه هذا المعنى من فرض الضرائب على الأغنياء للفقراء ، والمطالبة بتدخل الحكومات لتقليل الفروق بين الطبقات ، وما إلى ذلك ، وفي كل هذا بعد عن الفردية إلى الاجتماعية . وقد علمنا التاريخ أن الأفكار المتطرفة تتقارب وتتناغم ، فلا النظام البلشفي بحذافيره يستطيع أن يفرض نفسه على العالم كما هو ، ولا الديمقراطية بشكلها الحاضر ستتحجر ، ولكن سيتمخص العالم عن نظام آخذ بلون من كلا اللونين ، كالماء الحار يخالط البارد ، فيأخذ هذا بعض حرارته ، وذاك بعض برودته ، وأيا ما كان فالعالم سائر إلي الاجتماعية لا الفردية ، وسينشأ عن ذلك حتما انصباغ الأدب بصبغة النظام السائد
وأخيرا أشكر الأستاذين على عنايتهما بهذا الموضوع النافع ، وضربهما المثل الصالح في الجدل الهادئ الذي يعني بالفكرة لا بالأشخاص ، ويطلب الحق لا الغلبة .

