قرأت فيما قرأت منذ حين قصة صغيرة طريفة فى موضوعها لأنها تتصل بمعركة الأدب التى تدور حامية فى هذه الأيام . فقد كانت قرية من القرى الهادئة تحب الموسيقى وتغرم بسماعها حتى بلغ من حبها لها أن جعلت أرقى وظائفها عضوية الجوقة الموسيقية العامة . وقد أدى هذا الإيثار بطبيعة الحال إلى تنافس أهل القرية على عضوية الجوقة ، لا لأنهم جميعا يحسنون العزف أو النفخ أو الضرب ، ولكن لأنهم يريدون أن يفوزوا بالصدارة من وراء انتسابهم إلى الجوقة . ولكن هذه الحال أدت بعد قليل إلى موقف عجيب ، لا مثيل له فى جوقة موسيقية أخرى . فنحن جميعا نعرف أن فى كل فرقة موسيقية رجلا يقف أمام زملائه يمسك فى يده عصا قصيرة يحركها يمينا وشمالا ، ثم يحركها إلى فوق وإلى تحت ، ويهز رأسه فى طرب مع حركات يده ، حتى إذا ما انتهى العزف وقف ينظر إلى الجمهور ويبتسم فى ظرف ويتلقى التحية العامة كأنها موجهة إليه . وقد كان مثل هذا الرجل مختار دائما فى الجوقات الموسيقية المعتادة من أفضل الموسيقيين وأعلاهم كعبا فى العزف والضرب ومن أبرعهم فى تذوق الأنغام وتأليف الألحان ، ولكن الذى حدث فى جوقة تلك القرية كان أمرا فذا عجيبا .
تزاحم أهل القرية شيوخا وشبانا على الدخول فى الجوقة ، ولما كان لكل فرد من أهل القرية سند من أصحاب الحل والعقد ، فإنهم كانوا جميعا يقبلون فى الجوقة حتى لا تثار الحزازات بين الأعيان وأصحاب الحل والعقد.
ولكن الشئ الذى لا يمكن للبشر أن يتدخلوا فيه هو أن بعض الناس يحسنون العزف وبعضهم لا يحسنون شيئا ، ولا يقصدون من دخول الجوقة إلا ما فيها من شرف وفائدة ، فكانت النتيجة الطبيعية أن الكثرة الكبرى من أعضاء
الجوقة لم يرضوا بأن يكونوا من العازفين ولا النافخين ولا الضاربين ، بل كانوا يحرصون على أن يمسك كل منهم فى يده عصا قصيرة بلوح بها إلى العازفين يمينا وشمالا وإلى فوق وإلى تحت ، حتى إذا ما تمت الأغنية وقفوا ليتلقوا تحية الجمهور المتحمس.
ولما تمادى أهل القرية فى ذلك الاتجاه أصبحت جوقتهم أعجب جوقة فى العالم . كانت تحتوى على بضعة عازفين لا يزيدون على أصابع اليد ، على حين كان حملة العصى لا يكادون يحصون عددا . كانوا يقفون صفوفا بعضها وراء بعض يتزاحمون ويتدافعون بعضهم من شيوخ شيب وبعضهم من شبان مرد ، ولم تخل صفوفهم من النساء بين حسان وغير حسان وعجائز وعرائس.
ولكن الطبيعة البشرية تأبى إلا أن تثور بين حين وآخر ، ولهذا قيل إن العازفين القلائل أحسوا بعد قليل أنهم قد أرهقوا من كثرة أصحاب العصى ، وغاظهم ما يرونه من تزاحمهم وتدافعهم . ووجدوا أنهم جميعا يدعون ما ليس لهم وأنهم لو كانوا يستطيعون العزف أو النفخ أو القرع لما رضوا أن يقفوا هكذا يسخرون من أنفسهم بالحركات التى تشبه حركات (البهلوان ) . فبدأوا يملون ويغضبون وقاموا ذات يوم إلى حملة العصى يريدون أن يأخذوا دورهم فى التلويح والتوجيه ، ولكنهم لم يجدوا الأمر سهلا كما كانوا يحسبون . فماذا يصنع أصحاب العصى إذا هم نزلوا إلى النفخ والعزف ؟ إنهم بلا شك يفضحون أنفسهم ويجهدون أنفسهم فى غير جدوى . فقاوموا وجالدوا حتى صار الأمر إلى معركة استخدمت فيها عصى الإشارة والتلويح فى القتال والتجريح وكان منظرا دمويا لا يتناسب مع جمال الفن ولا حلاوة الألحان .
وهذه القصة تعيد إلى ذهنى معركة الأدب التى تثور فى هذين اليومين على متون الصحف الكبرى والصغرى ، سواء اليومية منها والأسبوعية . فإن الأدباء المنتجين فى هذه البلاد يشبهون القلة المسكينة من أعضاء هذه الجوقة . فهم عدد ضئيل وقلوب مكدودة تعانى ما يشبه النفخ والقرع والعزف حتى تخور قواها وتنقطع أنفاسها ، ولكنها تترك تحية الجمهور تنطلق إلى العاطلين الذين يتظاهرون بالتوجيه والتلويح ، ويشبهون حملة العصى فى جوقة القرية ، وهم كثيرو العدد يقفون صفوفا بعضها وراء بعض من كل سن وكل جنس وكل زى .
وقد انتهى أمر الأدباء فى مصر إلى معركة تشبه المعركة التى قامت بين أعضاء الجوقة فى القرية . وها هى ذى رحاها تدور حامية تستخدم فيها العصى ، وتوشك أن تسيل فيها الدماء . وإنه لما يؤسف له أن تثور بين الأدباء معركة مثل هذه ، لأنهم قوم كانوا منذ خلقهم الله لا يعرفون الدماء ولا يحبون العنف ولا القتال . حقا كانت لهم معارك معروفة وميادين حروب مذكورة مدونة على صفحات التاريخ ، ولكنها كانت دائما لا تزيد على كلمات وصيحات تشبه ما اعتدنا أن نراه فى أحيائنا البلدية عندما يقف اثنان أحدهما تجاه الآخر ، وكل منهما يكيل الألفاظ العنيفة لصاحبه بغير أن يمد أحدهما يدا إلى خصمه . فهما يقفان هكذا ساعة طويلة مثل قطين أسودين يتصايحان فى بعض ليالى الربيع . هذه هى المعارك التى عرفها الأدب قديما وما زال يعرفها ، وما ينبغى أن تزيد معارك الأدب على هذا.
وإنه لمن نعم الله على الأدباء أن ألفاظهم التى يتشاتمون بها تبقى على الزمن ، وأن معاركهم التى يتقاتلون فيها بالألفاظ تعيش مدة طويلة بعد أن تندر معالم ميادينها.
وصور المعارك الأدبية أبقى على الأيام من حقائق المعارك الدموية ، فإن رمسيس فنى وذهب كل مجده ولم يبق من معاركه إلا الصور الخالدة التى نقشها شاعره بنطاؤور . وقد هلك هرم بن سنان ، وبقيت مدائح زهير ، واندثرت معالم دولة حمدان على حين بقيت قصائد المتنبى . ومن عجيب أمر الأدب والأدباء أنهم لا يعرفون الحدود ولا القيود . ولا يخضعون لعدالة ولا لمنطق ، بل هم يزعمون أن أعذب
الكلام أكذبه ، بل إنهم يحلون السحر ويتغنون بالشتائم ومساوئ الأخلاق ، من خمر ونساء وغير ذلك مما هو معروف مشهور .
وقد بدا لى أن أستفيد بالرخصة التى تباح للأدباء ، ورأيت أن أضرب فى هذه المعركة الثائرة بين الأدباء مستظلا بحماية الحرية الأدبية المطلقة ، فأقول ما أشاء كما أشاء بغير أن أتقيد بمنطق أو ألتزم حدا أو أتقيد بقيد .
فأنا أتجه إلى الأدباء المنتجين القلائل فى هذه البلاد وأحرضهم على الثورة . ثم أحرضهم على الثورة الأدبية لا الدموية ، فإن الأدب لا يحب الدماء أقول لهم إنهم مثل النافخين فى هذه الجوقة الموسيقية ، وإنهم قد طالما أجهدوا أنفسهم وأضروا بصحتهم فى سبيل الفن وترقيته .
وهم مع ذلك عدد قليل ضئيل لا يبلغ صوت عزفهم إلى آذان الجمهور لأن الصفوف المتراصة من حملة العصى تحول بينهم وبين آذان ذلك الجمهور . فحملة العصى يعجون ويتدافعون ويتشاتمون ولا يسمحون للأنغام العذبة أن تصل إلى أحد ، ثم هم بعد ذلك يقفون لتلقى تحية الجمهور كأنهم هم الذين يطربونهم بالألحان . ولم يقنعوا بكل هذا فأخذوا يقولون للجمهور المسكين إن هؤلاء العازفين لا يحسنون أن يأتوا بلحن يستحق التقدير .
فلا مفر لهؤلاء الأدباء المساكين المكدودين من أن يهحموا على صفوف حملة العصى فينزعوا العصى من أيديهم . ثم ليدفعوا بهم إلى مقاعد العزف والقرع ليأخذوا نصيبهم من الكد والأذى.
فإذا تكاثر عليهم حملة العصى وأرادوا أن يجعلوها معركة دموية فلا حاجة بالأدباء المساكين أن يخرجوا عن سنة الأدب مهما كان الدافع إليها . فإن معارك الأدب لا تزيد على كلام . وعند ذلك لا يكون لهم مفر من اتباع وسيلة أخرى فى الدفاع عن أنفسهم ، بغير أن يهبطوا فى قتالهم إلى مستوى معارك الدهماء ممن يسيلون الدماء وهذه الوسيلة الأخرى أهون الأشياء عليهم لا تكلفهم مشقة ولا تكبدهم خسارة .
فعلى الأدباء الذين ينفخون ويعزفون أن يعد كل منهم لنفسه عصا تشبه عصا أصحاب التلويح والتوجيه . فإذا
ما أحسوا التعب من النفح والقرع قاموا إلى صفوف أصحاب العصى فوق المنصة العالية وأخذوا يلوحون بعصيهم إلى اليمين وإلى الشمال وإلى تحت وإلى فوق إلى آخر ما يجب عليهم أن يصنعوه .
وبهذا تتم الملهاة سخرية وتصير الجوقة كلها من حملة العصى الذين يلوحون ويوجهون ، ولا يبقى أحد يعزف ولا يقرع ولا ينفخ فى مزمار ، ولكنها على كل حال تكون سخافة ممتعة تتحدث بها الأجيال إلى آخر العصور .
