كتبت في الثقافة " مقالا في " مستقبل الأدب العربي ( ) ? ( أدعو فيه إلي أن يتجه الأدباء إلي النظر إلي مجتمعهم كما ينظرون إلي أنفسهم ؛ وكان المقال يدور حول فكرة معينة تدل عليها هذه الجمل بنصها من المقال : " أول واجب على الأدب العربي - في نظري - أن يتعرف الحياة الجديدة للأمم العربية ويقودها ، ويجد في إصلاح عيوبها ، ويرسم لها مثلها الأعلي ، ويستحثها للسير إليه " . " وينبغي أن ينبع الأدب العربي من الوعي الاجتماعي كما ينبع من الوعي الفردي ، فيعمد إلي مجتمعاتنا المملوءة بالشرور فيعالجها ويشرحها ويحللها ، ولا يقتصر على إجادة وصف ما هو كائن بل رسم ما ينبغي أن يكون " . " وعلى الجملة يجب أن يكون لنا أدباء هم قادة الرأي العام يبصرونه بموقفه ، ويطلعونه على مزاياه وعيوبه ، ويحركونه لغرض نبيل يتسامي إليه ؟ والأديب من هذا الطراز رسول أمته وهاديها إلي الخير ، وراسم أغراضها في الحياة ؛ يدرك الحقائق قبل أن يدركها الناس ، ويشعر بها قبل أن يشعر بها الناس ، ثم يحرك عقولهم لإدراكها ، وعواطفهم للتحمس للعمل بها ، يشعر من أعماق نفسه أن له رسالة أن يرفع مستوي الناس ، ويدفعهم إلي حياة أسعد وعيش أصلح ، يجمع بين السمو الخلقي والسمو الفني ، ثم يسخر
فنه لخدمة ما يصبو إليه قومه .
هذا بعض ما جاء في هذا المقال وهو خلاصة الفكرة التي أدعو إليها . فرد علي أخي الأستاذ توفيق الحكيم في " الرسالة " وله الشكر - أولا - علي عنايته بهذا
الموضوع وتفكيره فيه ، والرد عليه ، فالفكرة إنما تحيا بالأخذ والرد ، وتنجلي بالمناقشة وعرض الآراء المختلفة فيها
ولكني أعتب عليه في أمرين ، الأول : أنه كان من حقى عليه أن يعرض الفكرة التى دعوت إليها في دقة ثم يرد عليها ، لا أن يأخذ مسألة جاءت عرضا عن الأدب الأمريكي فيناقشها ويوهم القارئ أنها أصل المقال .
والثاني : - وهو الأهم - أنه قلب غرضي رأسا علي عقب ، ونسب إلى ما لم أقل ، وأخذ يرد عليه في إطناب وتفصيل ؛ فكانت خصومة ابتدعها ، وحربا خلقها ، وكل ذلك في الهواء من غير أصل .
إني دعوت إلي أن يكون من مصادر الأدب حياتنا الاجتماعية التي نحياها ، فتكون لنا روايات تمثل بؤس . الشعوب وأغلالها والاستبداد بها ، وتدعو إلي حياة أسمي من حياتنا ، وإلى تكسير أغلالنا ، والثورة على الظلم الذي ينتابنا ؛ إلي كثير من أمثال هذا
فاستنتج من هذا استنتاجا عجيبا ، أني أدعو إلي المادية ، وإلي تسخير الأدب في خدمة العيش ، وأني أريد ، على حد تعبيره ، " أن أستخدم الأدب للدعايات الاجتماعية ، واستغله للإعلان عن السلع التجارية ، وأوجه الشعر لإثارة الجماهير في الانتخابات السياسية إلخ " ثم أخذ يرد علي هذا الغرض الذي خلقه خلقا ، ونسبه إلى ظلما ؛ وأفاض في الرد عليه ، وإنما كان برد على شيء في خياله لا حقيقة في مقالي ؛ وأنا آسف أشد الأسف إذ لم أحسن التعبير عن غرضي مع بذلي كل جهدي في إيضاحه ، فإذا لم أو فق إلى إيصال معاني إلي توفيق الحكيم فلمن أوفق ؟
لا يا أخي ! فرق كبير بين الدعوة إلي أن يكون من مصادر الأدب الحياة الاجتماعية والوعي الاجتماعي ، وبين الدعوة إلى مادية الأدب وتسخيره للأغراض الوضيعة فالأدب الاجتماعي قد يكون في أسمى مراتب الروحانية ، كما إذا ألفت رواية فنية ترسم فيها لأمتك طريق السمو ،
والتحرر من الأغلال ، أو البعد عن التخريف ، أو ظلم الأغنياء للفقراء ، أو صورت لهم الحياة التعيسة التي يحبونها في أي ناحية من نواحبها ، وحثثتهم على التخلي عنها ، والترفع عن مفاسدها ؛ فهل هذه كلها مادية وضيعة و " رصاصة في القلب ، روحانية رقيعة ؟ ! وهل الأدب الذي يصور المجتمع بخير مما هو عليه ، ويرسم المثل العليا والمدن الفضلي له رسما فنيا بديعا يشوق إليه أدب مادي ، والأدب الفردي الذي يمثل عرامة الشهوة وعبادة الخمر أدب روحاني ؟
الحق أن في الأدب الفردي ما هو مادي وما هو روحاني ، وفي الأدب الاجتماعي ما هو مادي وروحاني ، فتعميمك بأن الأدب الاجتماعي أدب مادي ، وأنه هو الذي أقصده دون سواه ، ظلم في الحكم لا ترضاه ، وتحريف لكلمي عن موضعه أنت تأباه
وأظن بعد ذلك أن حكاية الغزال السمين ، والنحل وكمية عسله إلي آخر المقال ضربة في الهواء ، وسهم انحرف عن الغرض .
لعل الخلاف الحقيقي بينك وبيني أنك تفضل الأدب الذي ينبع من الوعي الفردي على الأدب الذي ينبع من الوعي الاجتماعي ، وأنك تفضل الأدب الذي يستوحي أدب اليونان والرومان أو إمرئ القيس وشهر زاد ، على الأدب الذي يستوحي الحياة الاجتماعية الحاضرة ، وتفضل الفن للفن على الفن للمجتمع ، وأنا أخالفك في كل هذا .
إني أسلم بما نادت به الحركة الرومانتيكية ضد الحركة الكلاسيكية ، من أن كل شىء صالح لأن يكون موضوعا للأدب ، فكوخ الحقير موضوع للأدب كقصر الملك ، والحياة الشاذة كالحياة الواقعية ، وقد غلا فكتور هوجو وأنصاره في ذلك ، فقالوا : يجب ألا يهتم بالموضوع الذي عرض له الأديب ، ولا بالمنهج الذي اتبعه ، فليس هناك موضوعات جيدة ولا موضوعات رديئة ، وإنما هناك أديب
مجيد ، وأديب غير مجيد ، والأديب لا يسأل عما فعل ، ولكن يسأل عن كيف فعل ، ولا يسأل ما موضوعه ، ولكن يسأل هل أجاد أو لم يجد ، وأنه يجب أن يتحلل من كل القيود والكمامات والعلامات المرشدة إلي الطريق ، إلي آخر ما قالوا ، وما أنت أعلم به مني .
ولكن أري أن هذا غلو دعا إليه التحمس للرومانتيكية ضد الكلاسيكية ، والأدباء الخبراء يرون ان الفن إذا تساوي في موضوعين فالعظمة الأدبية ذات الموضوع الراقي أرق . ألا تري معي - يا أخي - أن النجار لو صنع دولابا جميلا جدا من خشب رديء ، ودولابا مثله في الجمال من خشب جيد ، كان الثاني أفضل ؟! وأن الصائغ الماهر خير له أن يصوغ حلية من ذهب من أن يصوغها من فضة أو نحاس ؟ ! فإذا عالج الأديب موضوعا ساميا ونجح فيه من حيث الفن ، كان أفضل من موضوع تافه ينجح فيه ، ثم إذا كان المغني ذو الصوت الجميل يغني للناس أفليس خيرا مما إذا غني لنفسه ؟ !
لست أنكر أن الأديب إذا صور مشاعر نفسه فهو فنان ، وأنه إذا صور خمره اللذيذة وشهواته الداعرة فهو فنان ، ولست أنكر أن أبا نواس في موضوعاته الساقطة فنان ، ولكن مما لاشك فيه عندي أن لو ساواه آخر في فنه وعرض صورا سامية ، فهو خير من أبي نواس . إن أبا نواس - أحيانا - فنان رغم سقوط موضوعه ، لا بفضل سقوط موضوعه ؛ فكلا الموضوعين أداة خاصة في يد الفتان ، وخبرهما من استعمل خير مادة
كما أني لست أنكر أن الفن إذا قصد للفن فهو فن جميل ، ولكن إذا خدم به المجتمع فهو فن وشىء آخر فوق الفن .
ألست معي أن " يوميات نائب في الأرياف إذا استوت في قيمتها الفنية مع بيجماليون وشهر زاد ، فالأولي أفيد وأنفع وأقوم؟ !
أومن الحق أن تستلهم الأدب اليوناني والروماني
وتترك استلهام قومك ، وهم أولى بالاستلهام ؟ ! ونحن أكثر تذوقا لما يستلهم منا ، وأشد انتفاعا به من غير أن ينقص الفن شيئا .
أيعجبك أن ينصرف الأدباء كلهم إلي وصف لوعة الحب ، والاستمتاع باللذة والتغزل في الخمر ، ولا يتعرضون لمكبلين بالأغلال يجب أن يفكوا ، وإلي غارقين في الجهل يجب أن يتعلموا، ومصابين بالخمول يجب أن ينشطوا ، ولاصقين بالأرض يجب أن يعلوا إلي السماء ؛ ثم نقول الفن للفن ؟
وماذا يضير الفن لو نظر إلي المجتمع فرفعه كما فعل برناردشو وتولستوي وأمثالهما ؟
ولعلك رجعت إلي الإنصاف واتفقت معي في النهاية ، إذ تقول قرب الآخر من مقالك : " أما إذا كان في الإمكان وجود فن يخدم المجتمع دون أن يفقد ذرة من قيمته الفنية العليا ، فإني أرحب به وأسلم من الفور بأنه
الأرقي ، ولكن هذا لا يتهيأ إلا للأفذاذ الذين لا يظهرون في كل زمان فنحن إذن متفقان بعد الاختلاف ، وأؤكد لك أن الزمان سيحود على الأمم العربية بهذا النوع من الفنانين ، فيكونون قادة غيرهم ، وزعماء مدرستهم وليس من الضروري أن تكون كل المدرسة على هذا النحو من الكمال ، فهل كل مدارس الأدب الأخري بلغ تلاميذها هذا الكمال ؟
بقي قولك في ختام مقالك : " إن الفنان إذا لم يقل " أنا " فليس بفنان ، كما ان العالم الذي لا يقول أنا ليس بعالم وأؤكد لك أن الفنان الذي يقول أنا ويعني غرامه وعمره أقل شأنا من الذي يقول " أنا " ويعني أمته وقومه ، والعالم الذي تفني ذاتيته في علمه ، خير من العالم الذي يفني علمه في ذاتيته ، أليس كذلك ؟
والسلام عليك من أخ يقدرك

