نقد ومراجعة
شىء واحد لفت نظرى فيما كتبته - فى العدد الماضى من الرسالة - الأستاذ إسماعيل أحمد أدهم خريج جامعة موسكو لسنة ١٩٣٣ كما جاء فى مجلة الحديث، حلب ١٩٣٨
وأما الذى يكتنف ذلك الشىء من الكلام المرتجل ارتجالاً فلا شأن لى به. وقد أخبرت القارئ من عددين أن قلمى لا يقوى على مجاراة غيره فى ذلك الضرب من الكلام. ولولا غضبى للعلم الحق وغيرتى على النقد الصحيح ما كتبت هذا الفصل
قال الأستاذ أدهم: (إن الجملة الفرنسية une Somme de rapports sociaux تنظر إليها العبارة العربية ليست من خلقه (يعنينى) ، فقد تكرر ذكرها فى كتابات العالم الاجتماعى دوركايم durkheim وخصوصاً فى مجموعة محاضراته عن علم الاجتماع فى السوربون: ص ١١، ١٣، ٢٤، ٢٦ مثلاً)
بهذه العبارة يريد الدكتور أدهم أن يقيم البرهان على أن تلك الجملة الفرنسية التي (ليست من خلقي) قد وصلت إلى علمه قبل قراءة كتابى (مباحث عربية) . وأنى لأرى الأستاذ أدهم يتقول عليَّ: فإني لم أقل قط إني (خلقت) تلك الجملة الفرنسية، إذ أنى فى (مباحث عربية) (راجع ص ١٦) أضع الاصطلاحات العربية - من طريق المطالعة أو الاجتهاد - ثم أثبت إزاءها ما ينظر إليها فى اللغات الإفرنجية، وذلك رغبة فى إغناء لغتنا
(وهل أنا أغنى لغات الفرنجة؟) . وعندى أنه كان يغنى الأستاذ أدهم عن عبارته المذكورة أن يثبت لنا الجملة التى استعملها فى (مجلة المعهد الروسى للدراسات الإسلامية) - وذلك على وجهها - ولكنه لم يفعل بل لم يبعث إلى بالمجلة كما رجوت منه. وكان بودى أن أرى كيف استعمل المصطلح العربى الخاص بعلم الاجتماع دون غيره، الموضوع فى كتابى وضعاً فلسفياً
ومن الظريف أن يذهب الأستاذ أدهم فى إقامة برهانه إلى ما لا نرضاه له. فقد استشهد على وجه التخصيص بـ (مجموعة محاضرات دوركايم عن علم الاجتماع فى السوربون) ثم عين فقال: - ص ١١، ١٣، ٢٤، ٢٦) ثم تلطف فقال: (مثلاً)
والذى فى الحقيقة أن دوركايم استعمل هذه الجملة غير مرة، وكذلك تلامذته وتلامذة تلامذته، وعلى الأستاذ أدهم التفتيش. غير أن دوركايم لم يستعمل هذه الجملة فى (مجموعة محاضراته عن علم الاجتماع فى السوربون) ، وذلك بالرغم من الحكمة: (مثلاً) التي جرت على قلم الأستاذ أدهم، وفيها ما فيها من قوة الإيهام
إنى لم أسمع قط بـ (مجموعة محاضرات دور كايم عن علم الاجتماع فى السوربون) ، مع أنى قرأت كتب دوركايم - وهى غير كثيرة - راضياً أو كارهاً، وأنا أحصل علم الاجتماع على ألوانه - فيما أحصل من فنون الفلسفة - في السوربون نفسها، وذلك زهاء سبع سنين. وقد سألت اليوم زميلي في التحصيل في السوربون، الصديق الدكتور علي عبد الواحد وافي - مدرس علم الاجتماع بكلية الآداب لجامعة فؤاد الأول - هل يعرف تلك (المجموعة) ؟ فأخبرني قال:(لا وجود لها) . أضف إلى هذا أن بين يدى الآن كتاباً فيه ثبت المؤلفات فى علم الاجتماع (ولا سيما التي تهم الطالب، وأي شيء يهم الطالب مثل المحاضرات، بل محاضرات دوركايم وهو إمام مدرسة علم الاجتماع الحديث فى
فرنسة؟) . وهذا الكتاب عنوانه: Le guide de l'Etudiant en Sociologie وليس فيه ذكر لتلك (المجموعة) . واعلم أن هذا الكتاب مطبوع فى باريس ثماني سنين بعد وفاة دوركايم فضلاً عن أن أحد صاحبيه من تلامذة دوركايم نفسه، واسمه Bougle فهو أعلم منا بما أخرج أستاذه لطلاب علم الاجتماع
هذا إلا إذا خرجت تلك (المجموعة) فى موسكو حيث تلقى الأستاذ أدهم شتى العلوم. فرجانى منه إذن أن يعين لى (المجموعة) بحيث يثبت العنوان الفرنسى وتاريخ الطبع ومكانه. فإنى جد حريص على أن أخبر أساتذتى وزملائي من علماء الاجتماع بوجود تلك (المجموعة) ؛ وما أظنهم إلا ناشطين لها، وما أخالها إلا واقعة موقع الحدث
ولعل تلك (المجموعة) - وكلها سر - موجودة على خلاف ما أقوله وما يقوله صديقى الدكتور علي عبد الواحد وافى، وعلى خلاف ما جاء فى الكتاب المتقدم ذكره. فتكون القصة أن الأستاذ أدهم لم يحسن نقل عنوان الكتاب من الفرنسية إلى العربية، وذلك لسببين:
أما الأول فلأن العربية ليست (لغة الأصلية) ، كما قال فى العدد السابق من الرسالة حين أخذ يعتذر إليى من اقتباس تعبيرات لى(1) .
وأما السبب الثانى فلأن علمه باللغة الفرنسية لا ييسَر له مثل ذلك النقل. وقد ذكرت هذا وعللته مكرهاً، لعددين مضيا، فردّ الأستاذ أدهم قال: (إن اللغة الفرنسية ليست وقفاً على)
معاذ الله أن تكون الفرنسية وقفاً على! غير أنى ماذا أصنع وفى نقد الأستاذ أدهم لكتابى (مباحث عربية) ما يؤيد ما ذكرته من عددين؟ ففى رأى الأستاذ أدهم (راجع الرسالة العدد ٣١١ ص ١٢٢٩) أن استعمالى لفظ (السلوك) لأحد مشتقات المصدر الفرنسى تارةً، (وهو moralité ) ولفظ (الأخلاقيات) لمشتق آخر للمصدر نفسه (وهو morale بمعنى ethique تارةً أخرى مما (يوقع في اللبس والاختلاط) . والواقع الذي أثبته على كُرهٍ أن الأستاذ أدهم لم يدرك الفرق القائم بين اللفظين الفرنسيين: moralité و morale (راجع (مباحث عربية) ص ٣٦، ٥٦ خاصة)، فالأول يدل على أعمال المرء من الناحية (الأخلاقية) ، والثانى يفيد (علم الأخلاق) . وحسب الأستاذ أدهم أن يستفسر معجماً فرنسياً للمدارس ذينك اللفظين.
ولك أن تقول: فإذا شقَّ على الأستاذ أدهم أن يحسن النقل من الفرنسية إلى العربية فكيف ارتجل مصدراً ارتجالاً ثم استشهد به وأثبت بضع صفحات (على جهة التمثيل) ؟
الحق أنى أود أن أعجب عجبك، ولكن ما قولك فى هذا الاختلاق:
قال الأستاذ أدهم فى نقده لكتاب (مباحث عربية) (الرسالة العدد ٣١ ص ١٢٢٩) : (يعتبر الباحث (يعنيني)كلمة البصيرة مقابلاً (كذا) intuition ص ٢٢٥٧، والغريب أنى لم أثبت كلمة intution إزاء كلمة البصيرة الواردة فى ص ٥٧ من كتابى ولا فى صفحة غيرها. فمن أين جاء الأستاذ أدهم بكلمة intuion وكيف جعلنى (أعتبر) ما يجهل هل أنا (معتبره) ؟
ثم لم لا يترجل الأستاذ أدهم المراجع ويبتدع المصادر، وهو الذي استشهد بالإصحاح الرابع عشر من (سفر دانيال) من العهد القديم (الكتاب المقدس) ثم بالجزء الثالث من (الفهرست) لابن النديم، يوم نقد (مباحث عربية) (الرسالة العدد ٣١٢ ص ١٢٧٤ ثم ص ١٢٧٥) . وإليك بيان ذلك:
أولاً - قال الأستاذ أدهم: (ومما يحسن بى الإشارة إليه أن كلمة المروءة وردت فى اللغة العبرية، وهى من أخوات اللغات العربية، نازعةً فيها لمعنى السيادة (دانيال ١٤ - ١٩ ومراد
فى ملتقى اللغتين ج١ ص ٨٩ - ٩١)
والذى فى كتاب (ملتقى اللغتين: العبرية والعربية) للأستاذ مراد فرج: (مرا: فتح فكسر ممال ممدود بمعنى السيد وولي الأمر - دانيال ١٤ - ١٩ والأصل العبري ١٦) (يريد، على أسلوب جمهور العلماء: الإصحاح ١٤ والآية ١٩ فى الأصل العربي والآية ١٦ فى الأصل العبرى)
ومن المستحيل أن يكتب الأستاذ فرج: الإصحاح ١٤ (الرابع عشر) ، لأن (سفر دانيال) اثنا عشر إصحاحًا فقط ومن هنا تبين لي أن الإصحاح ١٤ من غلطات الطبع. فسألت في ذلك زميلي الدكتور مراد كامل - مدرس اللغات السامية بكلية الآداب لجامعة فؤاد الأول - فأخبرني بعد المراجعة قال: (إن الصواب هنا: الإصحاح ٤ (الرابع) والآية ١٦ و٢١)
وهكذا ترى كيف جاء الأستاذ أدهم ونقل ما فى كتاب الأستاذ فرج من غير تحقيق ولا روية. والظريف أنه استشهد بسفر دانيال أول ما استشهد، إذ قال: (كيت وكيت: دانيال ١٤ - ١٩ ومراد فرج فى ملتقى اللغتين ج١ ص ٨٩ - 91) كأنه اطلع على سفر دانيال قبل (ملتقى اللغتين) لفرج
ثانياً - قال الأستاذ أدهم - عند الكلام على أنساب العرب: (ولكنا على الرغم من ذلك، نلاحظ جواز أن تكون القبيلة منشؤها اجتماع عدة بطون وأفخاذ من قبائل مختلفة: ابن حزم نقلاً عن الفهرست لابن النديم ج٣ (كذا) ص ١٨٧. والمراجع العربية تروي أن قبائل تنوخ وغسان والعنق تكونت من شتيت البطون التى تناثر فى الصحراء من القبائل العربية التى تفرقت بعد تركها مواطنها في الجنوب: الفهرست ج٣ (كذا) ص ١٨٧ وكذلك لنا (يعنى كتاباً له) : علم الأنساب العربية ص١٣ - ١٤)
على هذا النحو ترى الجزء الثالث (؟) من (الفهرست) لابن النديم يثبت مرتين على سبيل المرجع. وليس للأستاذ أدهم أن يستنجد بغلط الطبع، إذ فى كتابه الذى ذكره: (علم الأنساب العربية) : (مجلة الحديث، حلب ١٩٣٨ ص١٤) ما جاء فى نقده حرفاً بحرف.
هذا والمعلوم أن (الفهرست) لابن النديم طبع مرتين:
مرةً فى ليبتسج leipzig سنة ١٨٧٢، ومرة فى مصر سنة ١٣٤٨ للهجرة. وفى كلتا المرتين خرج (الفهرست) فى جزء واحد والذى حدث فى هذا الموطن أن الأستاذ أدهم اقتبس المرجع إلى (الفهرست) من كتاب من الكتب الحديثة من غير أن يراجع المظنَّة، دأبه مع (سفر دانيال) . ولو راجعها لعلم أن الكلام على الأنساب يقع في (المقالة الثالثة) (الفن الأول: في أخبار الإخباريين والنسابين. . .) من كتاب الفهرست، لا في الجزء الثالث منه. ومن هنا يتبين أنه ظن المقالة جزءاً لحظة اقتبس المرجع. وأما الصفحة التي يعينها (ص١٨٧) فلا أثر فيها لما يذكره. بل إنى قرأت الفن الأول من (الجزء الثالث) كله (طبعة مصر، وهكذا للأستاذ أدهم أن يقول أن حديثه فى طبعة ليبتسج!) ولم أعثر على حديث الأستاذ أدهم.
وأما قوله فى مرجعه: (ابن حزم نقلاً عن الفهرست. . .) فغاية الاشتباه. لأنه إذا قال ابن حزم من غير تعيين أراد صاحب (الفصل في الملل والأهواء والنحل) . وعليه فلنا أن نسأل الأستاذ أدهم أي كتاب لابن حزم يعني، ولابن حزم المولود سنة ٣٨٣ (أيّى ست سنوات بعد تصنيف الفهرست) ستة وثلاثون مؤلفاً؟ راجع: بروكلمن (تكملة تاريخ الآداب العربية) ليدن ١٩٣٧ جـ١ ص٦٩٤ - ٦٩٧. ثم إني أعلم أن لابن حزم كتاباً لا يزال مخطوطاً، عنوانه: (جمهرة النسب) ، وقد نشر جانباً منه Khuda Bukhsh فى كتابه: Contributions to the History: of Islamic Civilization فهل يعنى الأستاذ أدهم فى مرجعه ذلك المخطوط؟ وإذن فأين اسم الكتاب وأين الصفحة، كما يصنع الناقد الثبت والباحث الثقة؟
وغاية القول هنا: أين الجزء الثالث من الفهرست، وأين النص المستشهد به في ص١٨٧، بل في الفن الأول من المقالة الثالثة من الفهرست؟ ثم من ابن حزم هذا، وما كتابه؟
إنى والله ليحزننى أن لأثبت كل ذلك، وليزيدنَّ فى حزنى أن الأستاذ أدهم حدثته نفسه بأن يكتب: (وأظن أن الدكتور بشر لا ينكر علينا أننا أكثر الكاتبين فى العربية استقصاءً
للمصادرة) (الرسالة العدد ٣١١ ص١٢٢٥) . فليطمئنَّ الأستاذ إلى أنى لا أنكر عليه ذلك، وليطمئن أيضاً إلى أن (الكاتبين فى العربية) لن ينازعوه الغلبة فى استقصاء المصادر على طريقته. إنما العلم دقة وأمانة. . .
وإذا امتد الحديث إلى استقصاء المصادر فما ضرَّ الأستاذ أدهم لو راجع معجمات الفلسفة وكتبها حين تكلم على كلمة intuition فى نقده لمباحث عربية كما تقدم. فقد قال: (وهذا (أى: الانتقال دفعة واحدة من المبادئ إلى النتائج) ما يفيد معنى لفظة intuitio اصطلاحاً ولغوياً كما يستفاد من مراجعة معاجم اللغة الفرنسية)
في (معاجم اللغة) ؟ إني هنا أرشد الأستاذ أدهم إلى (المعجم الاصطلاحي والنقدي للفلسفة) للأستاذ lalande (باريس ١٩٣٢) فثمة يدري كيف يذهب الإصلاح الفرنسي إلى أبعد مما يظن. وله أن يقرأ أيضاً - ليحكم معرفة المصطلح لهذا العهد مثلاً - كتابين للفيلسوف برجسون bergson وهما : tion creatrice levolu. donnees immediates de la conscience essai sur les (الباب الثاني) ثم كتاباً للعالم بوانكاريه عنوانه science et methode(الفصل الأول من الباب الثالث(
وإذا أراد الأستاذ أدهم أن يعرف ما تحت مصطلح قبل هذا العهد فعليه ببعض ما كتبه خاصةً فى (نقد العقل الصرف) ثم شوبنهاور
فهل يصاب المصلح الفلسفى على وجهه التام والخاص جميعاً هذا من جهة المصطلحات الفلسفية، وأما من جهة المواضعات العربية فما ضر الأستاذ أدهم لو راجع معجمات اللغة ونظر فى دواوينها قبل أن يكتب فى نقد (مباحث عربية) (الرسالة، العدد ٣١١ ص١٢٢٩) : (ثم عندك قول الكاتب (يعنيني) إن للفظة الشرف مفادات متجاورة تارة، متباينة أخرى). ثم يزيد: (ففي هذا التعبير لفظة المتجاور تفيد إفرنجياَّ معنى synonyme والقصور واضح في التعبير العربي (كذا!) فضلاً عن أن التعبير غير مستقيم من جهة البناء اللغوي (كذا!) ولكي تتسق مفادات العبارة لا بد من إبدال لفظة: المتجاورة
من الجملة بالمتشابهة لأنها أدل على المعنى وأكثر اتساقاً فى الجملة)
على أنى لا أحب أن أسأل الأستاذ أدهم كيف يناقشنا فى لغتنا وهو لا يزال يأخذها عنا، كما اعترف بذلك فى خاتمة مقاله المنشور فى العدد الماضى. إن كل ما أبتغيه أن أرشده إلى كتب اللغة العربية ليتبين أن معنى لفظة synonyme تؤديه فى العربية الفصحى لفظة (المترادف) (وما هذه اللفظة عنيت فى جملتى المذكورة قبل) . وأعلم أن كلمة synonyme فى الإفرنجية هى الألفاظ المفردة الدالة على معنى واحد (أو متقارب) . وإلى الأستاذ أدهم (مثلاً) فصلاً قريب المنال في (المزهر) للسيوطي (النوع السابع والعشرون)(1)
العلم فى مصر أمسى شيئاً مقدساً له سدنته وله حراسه. فكيف يأخذنا القول بالظن والكلام المتحدي والجدال المتحكم والتظاهر بالتثبيت والدراية؟. . .
فالرؤية الروَّية عند الإقبال على الاشتغال بالعلم أو على نقد من توفر عليه. والنقد أمر لا ثمرة فيه إذا حاد عن خدمة العلم وحده. والنقد للعلم مصباح على أن يكون الزيت لا دخل فيه!
بقى أن أودع القارئ، وأنا راحل إلى أوربة بعد أربعة أيام. وإني لشاكر له صبره، فقد أطلت الكتابة في سبيل (وضع الشيء موضعه) . ورجائي منه أن يتحقق ما جاء في هذه الكلمة: فكتاب (الفهرست) و(سفر دانيال) - مثلاً - مبذولان لكل أحد. وإني لمطمئن إلى أن القارئ سيعرف - من طريق المراجعة والتحقيق - كيف ينظر عني فيما يبدو لهذا أو لذاك أن يكتب ويكتب والسلام، وإلى اللقاء بعد أربعة أشهر
