الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 643الرجوع إلى "الثقافة"

حياتنا ومجتمعنا :, بين المثالية والواقعية

Share

كم من الأشخاص تسوقهم نزعة خفية لديهم إلى العيش في ضباب الأحلام ولهمار الأوهام !... وكم من الناس يسخرون من أمثال هؤلاء ، ويزهون بأنهم لا يدعون للأحلام سبيلا إليهم ، ولا يجعلون لها مكانا في حياتهم ! وهم في ذلك مخطئون اكبر الخطأ ؛ لا لأن الحياة من غيرها تبدو كثيبة موحشة فحسب ، ولا لأنه لا جناح علينا ، في هروبنا بين الغينة والغينة ، من الواقع الذي يبهظنا ويثقل علينا فحسب . وإنما كذلك - وهذا هو المهم - لأن الحياة من غيرها تصبح راكدة آسنة ، ومجدية ممحلة .

فكم من القصائد واللوحات والسيمفونيات تمحضت عنها هذه " الشطحات " ! وكم من الفكر العلمية والكشوف تمت إثر حلم ! فعندما رأي نيوتن التفاحة تسقط إلى الأرض ، أخذ يحلم بقانون عام لم يلبث أن أصبح " قانون الجاذبية" وعندما تحدث كولومبوس عن أرض خلف المحيط كان مثاليا

حالما ، ولكن هذا الخاطر الخيالي الذي ملك عليه تفكيره دفعه إلي القيام بسياحته المحفوفة بالأخطار عبر البحار التي لم يرتدها من قبله بشر .

وكم من حركات الإصلاح التاريخية ومعارك الحرية بدأت في حلم ، حيث أدار رجل من الرجال عينيه من " الواقع " إلى " المثالي " وطمح ببصره من الأشياء " كما هي " إلي الأشياء " كما يجب أن تكون ".

فعندما شهد إبراهام لينكولن في أيام شبابه بيع نسوة من الخلاسيات في تجارة للرقيق ، تأثر تأثرا شديدا جعله يلتفت إلى رفاقه قائلا : " لو أن فرصة لاحت لي لكى أطعن هذا الشئ . فسوف أطعنه في شدة وقسوة ! " . فهو كان يحلم بيوم الحرية للعبيد ولكنه عاش حلمه . فحسم عن البشرية تلك المعرة .

وعندما رأى طه حسين الكثرة من مواطنيه محرومين

من العلم - والجهل مظهر آخر من مظاهر الرق - أخذ يحلم برد نعمته عليهم . وأصبح هذا الحلم الذي طوي جوانحه عليه كالشاعر شعره والموسيقي لحنه ، يكون خيطا في نسيج حياته ، يضفي عليها لونا نبيلا ، ويخلع عليها مسحة إنسانية ، حتى إذا ولي الأمر ، أعلن مجانية التعليم ، وحق كل مواطن في أخذ حظه منه .

فالأحلام والتخيلات نافعة مجدية عندما تكون وسيلة إلى العمل وحافزا عليه . وهي ضارة مؤذية عندما تكون " بديلا " من العمل وعائقا عنه . إذ تصبح لدي الحالم بمثابة الثدي الصناعي الذي كان يعثرمه كملهاة وهو طفل ، فيستغني بالصورة الكاذبة عن الأصل ، أي يظل الشئ عن الشئ ، أى بما هو " خيالي " عما هو " حقيقي " .

فإذا تأملنا محيط حياتنا ومجتمعنا ، استرعي نظرنا ما نلحظه من طلاق بين المثالية والواقعية فيهما ، وهالنا عمق الهوة بين عالم الخيال وعالم الحقيقة ، واتساع الثغرة بين ماهو نظري وما هو عملي ، بين ما هو ذاتي وما هو موضوعي . فنحن نجد إما أفقا ضيفا وتفكيرا محدودا ليس فيه مسحة من الخيال أو الشاعرية ، وإما أحلاما عقيمة كأنها أرملة عاقر ، لا يخرج منها نبت ولا زرع .

ويبدو لنا أثر ذلك فيما نقاسي من عقم في ميادين الابتكار والخلق ، وفي قلة ما لدينا من ادب وفن ، وفي ندرة ما عندنا من رسل الإصلاح الاجتماعي . وفي خلو تاريخنا من الرحالة والمستكشفين والمغامرين . أولئك الذين يعتمدون في نجاحهم على الجراة والإقدام والعمل والمثابرة .

فكثير من شبابنا يتمنون الحصول على الثروة والمجد والشهرة . ولكنهم يحلمون بها وهم قعود في أماكنهم . حيث يرون أنفسهم وقد ظفروا بها ، ودانت لهم الأرض وما عليها . ولكن الشاب الانجليزى سيسيل رودس ، عندما أخذ يحلم بالثروة ، أعد وصيته وهو في سن الرابعة والعشرين ، ثم هاجر إلى جنوب أفريقا ، وأنشأ يجمع الملايين التى كان قد اوصى بها قبل ان يحصل عليها ، حيث وهبها للجامعات في بلاده . كما انه خلف اسما خالدا ، أطلق على "روديسيا"

وليس من شك في أن المثالية والواقعية أكثر تقاربا وتآلفا لدى الشعب الانجليزي أو الأمريكي منها لدى الشعب الهندي أو الصيني مثلا ، ولسنا نجد هذا الفرق واضحا في سلوكهم فحسب ، وإنما هو أكثر عمقا وتأصلا . فنحده ظاهرا بين فلسفة الغرب الوضعية Positivism التي تنكر كل تفكير ميتافيزيقي وكل اعتقاد في خوارق الطبيعة ، والتي تبني العلم علي تأمل الحقائق المادية المحسوسة الملموسة ، وبين الفلسفة البوذية مثلا ، حيث نجد مذهب " النيرقانا " أى " الإطفاء" او" الإخماد" ، وهي فلسفة العدم annihilation التي تحض على الخروج من الحياة . والنكول عن العمل وبذل الجهد ، والانطواء والانقباض ، والتخلى عن كل مطمح ومطمع في سبيل التخلص من وطاة الشهوات وسطوة الأهواء .

فإذا تركنا الفلسفة إلي الفن وجدنا نفس الفرق بين الفن الفرنسي الذي انحدر من الفن الإغريقي ، والذي بإبراز الناحية التشريحية ، واهتمامه بمظهر الحياة والطبيعة وعنايته بما يسمي " البعد الثالث" يبدو أقرب إلى الواقعية وبين الفن الشرقي بمثاليته ورمزيته . ومن ذلك الفن العربي الذي نجده خلوا من التصوير والنحت ، أى من مظهري الواقع والحياة ، والذي يتمثل في " الأرابسك " بخطوطها التي تلتوي ثم تستوي ، وتتلاقي ثم تتباعد في تعقيد لا نهاية له . فتبدو بأشكالها الهندسية الجامدة الباردة ، التى لا تمثل طبيعة حية أو طبيعة صامتة ، أبعد ما تكون عن الواقع والحياة والعاطفة . فهي ضرب من أحلام اليقظة العقيمة التى تتغذي على نفسها ، وتدور حول ذاتها .

ينبغي لنا إذا أن نعمل ما وسعنا الأمر على رد التوازن في حياتنا ومجتمعنا بين المثالية والواقعية . فلا نلغى الخيال والحلم منها ، كما لا نسير بأقدامنا على الأرض ورؤوسنا في السحاب ، فنتعثر ونرتطم .

كما ينبغي العمل على تنشئة جيل جديد يكون أقل انطواء على النفس وانقباضا عن الحياة ، جيل تتسم ثقافته بطابع عملي إلي جانب النظري . جيل يعرف كيف يردف القول بالعمل ، فلا تتألف حياته من أحلام اليقظة ، ولا تترجم آماله وأمانيه إلى أشكال من " الأرابسك " .

اشترك في نشرتنا البريدية